دور وسائل الإعلام في تشكيل الثقافة التراثية للمجتمع

هل هناك علاقة بين الثقافة والإعلام؟

لا يمكن للثقافة أن تنمو وتتطور وتنتقل من جيل لآخر بمعزل عن تفاعلها مع محيطها المجتمعي، فعلى مدار قرون خلت، انتقل المنتج الثقافي سواء كان الأهازيج، أو الأمثال الشعبية، أو الشعر، وحتى الألعاب والرياضات التراثية من الآباء إلى الأبناء عبر المشافهة، لكن تطور وسائل الإعلام وثورة المعلومات التي حدثت خلال العقدين الماضيين، فرض تحديات ومسؤوليات جديدة على وسائل الإعلام، تتمثل في قيامها بمهام إضافية في نشر الثقافة وحفظ التراث، فلا يمكن أن نتخيل ثقافة وفنوناً من دون أدوات ووسائل تدعم جهودها، وتكشف عن مضمونها، وتنشر أفكارها، وتوصل رسالتها إلى جمهور ينتظرها بشغف.

ويتعاظم دور الإعلام في نشر الثقافة الرصينة، والإبداع الإنساني الهادف الذي يحفز ويستنهض طاقات المجتمع، ويدحض الأفكار الهدامة، ويواجه التيارات الفكرية الضالة من خلال نقل الإنتاج المعرفي الرزين إلى الجمهور المتلقي، لأن الفعل الثقافي هو الجوهر الذي تحتويه وسائل الإعلام، وهو انعكاس حقيقي للحالة الثقافية التي يحيها المجتمع.

لقد بات على وسائل الإعلام بمختلف أشكالها المسموعة، والمقروءة، والمرئية، ووسائل التواصل الاجتماعي، تسخير التكنولوجيا في ابتكار قوالب جديدة تسهم في الترويج للمنتج الثقافي والتراثي والفني بشكل يواكب النهضة الإبداعية والحضارية التي تشهدها الدولة، فضلاً عن زيادة حضور المحتوى الثقافي في إعلامنا المحلي، مع أهمية ترجمته إلى لغات أخرى، كما تسهم وسائل الإعلام في ترسيخ التنوع الثقافي بين أفراد المجتمع، وتعزيز التواصل والانفتاح، وإبراز حوار الحضارات والثقافات بوصفه محركاً للتنمية، وجسراً لبناء روح التسامح والتفاهم بين الشعوب بما يحقق السلام والاستقرار والنماء والازدهار من خلال تطوير خطاب إعلامي جديد.

مفهوم الثقافة والإعلام:

يعد مفهوم الثقافة أحد المفاهيم المركزية في علم الاجتماع بصفة عامة، والأنثروبولوجيا الثقافية بصفة خاصة، وفي ضوء ارتباط هذا المفهوم بمجالات معرفية متعددة، إلى جانب ما يمثله كوعاء اجتماعي لكافة المنجزات البشرية، فإن تعريف هذا المفهوم يعد محاولة صعبة، حيث قدمت العلوم الاجتماعية تعريفات متعددة تتداخل فيها مفاهيم “الثقافة، والمعرفة، والحضارة، والمدينة” .

إن أصل كلمة ثقافة (culture) من الفعل اللاتيني (cotere) وتعني الزراعة، وأصبحت الكلمة تستخدم للتعبير عن زراعة الأفكار والقيم، أما كلمة حضارة (civilization) انشقت من كلمة ((civis اللاتينية، وتعني المواطن في صورة سلوكية معينة، أما المعرفة (knowledge) فهي عملية انعكاس الواقع وعرضه في الفكر الإنساني، وتعني الدراية والاطلاع وامتلاك القدرة .

قدم منظور العلوم الاجتماعية العديد من التصورات لتحديد مفهوم الثقافة وتمييزه عن المفاهيم الأخرى، حيث ذهب فيبر (weber) إلى أن الحضارة هي: “المجهود الإنساني للسيطرة على الطبيعة، بينما الثقافة هي مظاهر الحياة الروحية والأخلاقية التي تسود المجتمع، أي أن الحضارة تعبر عن المظاهر المادية والتقدم التكنولوجي، أما الثقافة فتعبر عن البعد المعنوي” .

ولعل تعريف إدوارد تايلور الذي نشر في كتابه الكلاسيكي (الثقافة البدائية)، يعد أهم التعريفات التي أحاطت بمفهوم الثقافة وعرفها على أنها: “ذلك الكل المركب من المعارف، والفنون، والمعتقدات، والقوانين، والأخلاق، والتقاليد، والفلسفة، والأديان، والعادات، التي اكتسبها الانسان من مجتمعه”، وركز تايلور على أن للثقافة وجهين مادي وغير مادي، وحسب ماكس فيبر فإن الثقافة وحدها تقريباً سبب الاختلافات بين الشعوب والأمم، وهذا الاختلاف هو الذي أوجد الآخر المختلف في قيمه، واتجاهاته، وأسلوب حياته، وفي تراثه، والبيئة المحيطة. ووفق منظر العلوم الاجتماعية، فإن تأصيل مفهوم الثقافة يشير إلى العناصر الآتية:

  • إن الثقافة ذات نمط تراكمي على المدى الطويل، أي تراكم عبر مراحل طويلة من الزمن.
  • تنتقل من جيل إلى جيل عبر التنشئة الاجتماعية.
  • ذات طبيعة جماعية، أي أنها ليست صفة خاصة للفرد وإنما للجماعة.

أما الإعلام، “فهو لغة: الإخبار، ويقصد به مجموعة الوسائل الهادفة إلى تحقيق الاتصال ونقل المعلومات والمعارف الموضوعية بهدف الإخبار، والتوجيه، وتشكيل رأي الأمة إزاء القضايا المطروحة”.

ومن خلال هذه المفاهيم يتضح أن الثقافة تمثل مجموعة قيم وأفكار متوارثة، متراكمة، ومتصلة عبر الأجيال، في حين أن الإعلام هو وسيلة تنقل هذه الأفكار بهدف تشكيل رأي عام حول أي قضية مطروحة. ويرى بعضهم أن الثقافة كانت هي الإعلام في السابق (قبل ثورة وسائل الاتصال التكنولوجية)، ولكن ما لبثت وأن اتسعت مفاهيم الثقافة، وأصبح للإعلام سلطة أقوى في رسم معالم الحياة. ومن خلال هذه التعريفات، نجد أن هدف الإعلام والثقافة يبدو في كثير من الأحيان متكاملاً متداخلاً يصعب فصله أو حتى تمييزه، وهو مخاطبة الناس والاتصال بهم كطريقة أساسية في تحقيق هدف توصيل المعلومة، فلا ثقافة دون إبلاغ عن محتواها، ولا إعلام دون محددات ثقافية شمولية تمكنه من الوصول إلى المتلقي وتحقيق مراده من التأثير دون تشويش. بالإضافة إلى ذلك فقد برزت شعارات ورموز جديدة على القنوات التلفزيونية، حيث أخذت تلك الرموز من بواطن التراث الثقافي للجماعات، فبعض القنوات الإسلامية جعلت من الكعبة المشرفة رمزاً لها، في حين صارت البترا أسماً لقناة تلفزيونية خاصة بثت من المملكة الأردنية الهاشمية، وصار اسم النيل شعاراً لمجموعة من القنوات المصرية.

الدور الثقافي للتلفزيون في تعزيز مفهوم التراث:

يعدٌّ التلفزيون من أهم مصادر الثقافة الوطنية والدولية، إذ إنه يقدم سلعاً ثقافية متنوعة من خلال الاحتكاك بالحضارات العالمية، والاطلاع على معالم البلدان وتراثها، كما يعمل على توصيل وترويج حضارة البلد وثقافته الوطنية إلى العالم ببرامج ذات مضامين متعددة .

عندما ظهر التلفزيون كان الأمل كبيراً في الدور الثقافي الذي يضطلع به، للاعتقاد بأنه سيكون أفضل أداة اختارتها البشرية في ذلك الوقت لتوزيع الثقافة، وبثها بدون عائق ثقافي أو اجتماعي. لكن التلفزيون بما يملكه اليوم من إمكانيات حديثة ومتطورة، بات يعد من أهم وأرقى الوسائل الإعلامية الثقافية التي تروج للتراث الوطني، وما يتضمنه هذا التراث من ثقافة، وحضارة، وتاريخ، ويعد من أكثر الوسائل نفاذاً وتأثيراً على البنية الاجتماعية والثقافية والأخلاقية للمجتمع، ولا شك أن ذلك يعتبر من أخطر مجالات التأثير في الحياة الإنسانية، فالصورة والكلمة والمعلومة أصبحت شكلاً ومضموناً من خلال القنوات التلفزيونية أهم أداة فكرية وثقافية تعبر القارات والدول، لتشكل تأثيراً على الرأي العام وعلى الثقافات الأخرى، فلقد حطم التلفزيون الحواجز الجغرافية والثقافية بين المشاهدين في أرجاء العالم كافة .

هذا ويعتبر التلفزيون وسيلة اتصال ثقافية من الدرجة الأولى، بعد أن كانت المصادر الثقافية تنحصر في دور الكتّاب والمساجد، إذ ألا يقتصر دور التلفزيون على تقديم المعرفة والخبرات للمشاهدين من خلال الصوت والصورة الحية فحسب، بل يقترب من الاتصال الشخصي لامتلاكه القدرة على التأثير في الآراء والمواقف، بل قد يتفوق على الاتصال الشخصي، كونه يقدم التفاصيل الدقيقة وتحريك الأشياء الثابتة بقدرة كبيرة ويعطي المشاهد شعوراً بأنه شاهد عيان على الأحداث التي يشاهدها .

وما يجعل من التلفزيون متميزاً على جميع أشكال الاتصال المعروفة هو شخصيته التركيبية، أي قابليته استخدام الصورة والصوت والتقطيع والمؤثرات الصوتية، فالتلفزيون له القدرة على البث مباشرة لملايين المشاهدين، والتفسير العاجل للحدث لحظة وقوعه . بالإضافة إلى قدرته على نشر وتقديم المعلومات، والأفكار، والمواد الثقافية، والتراثية على اختلاف اشكالها، فالتلفزيون يزيد ويرفع مستوى معلومات البشر ويوسع أفاقهم ويساعدهم على تكوين ثقافة جماهيرية وخاصة فيما يتعلق بالتراث الشعبي والفلكلور وعادات الشعوب وتقاليدها في الطعام، والأزياء، والمناسبات الاجتماعية، وطرق الزواج، وغيرها، كما يخلق المناخ المناسب للتنمية البشرية، وببثه للبرامج الثقافية ونشره المعلومات الاجتماعية والتطورات العلمية والابداعات الفكرية والتقارير المختلفة، فإنه يسهم بقسط كبير في خلق مناخ فكري يجعل الناس يدركون ضرورة إعادة النظر في حياتهم وسلوكهم ورؤيتهم للمستقبل، ومن الطبيعي أن يساعد ذلك الناس على اكتساب عادات جديدة، واجراء تغيرات كبيرة في المعتقدات والآراء والمهارات، وقد تكون هذه التغيرات إيجابية تسمو بهم إلى الأحسن، وقد تكون عبارة عن غزواً ثقافياً .

ويمكننا تلخيص سلبيات الدور الثقافي والتراثي للتلفزيون بـ:

  1. نقص اهتمام التلفزيون بالثقافة التراثية الجادة، ويؤيد هذا ضآلة نسبة البرامج التراثية فيه، مقارنة بالبرامج الترفيهية والرياضية وغيرها، بالإضافة إلى أن البرامج الثقافية المحدودة التي تقدمها الفضائيات العربية، بالنظر إلى كون وطننا العربي كبير باللغة الرسمية الواحدة التي يستخدمها على تنوع تفاصيل ومظاهر هذه الوحدة اللغوية، كما أنه كبير بالكم المعرفي الثقافي التي تختزنه اللغة العربية، تفتقر في الغالب إلى الرؤية الشاملة والمتكاملة مما يجعلها مجرد أشتات من الثقافة العامة التي لا يجمعها إطار فكري محدد أو توجهها غايات استراتيجية.
  2. نسبة عالية من البرامج والمواد الإعلامية التي تقدمها الفضائيات العربية تكون ذات اتجاه غربي في محتواها، الأمر الذي يؤدي إلى تبعثر وتشتت المخزون المعرفي للغة العربية، سواء في توجهاتها، أو في مضامينها، أو حتى في أساليب عرضها، ويتمثل هذا فيما تنقله من قيم فكرية وثقافية بعيدة عن ثقافتنا العربية أو تتناقض معها، ويتمثل الاتجاه الغربي أيضاً بما تقدمه الفضائيات العربية من برامج ومواد للمرأة العربية تهدد ثقافتها التراثية ولا تعبر عن القيم الفكرية لمجتمعاتنا، بل تروج لأسلوب الحياة الغربية، وتصور المرأة غالباً على أنها سلعة للمتاجرة، او مجرد أداة للمتعة والإغراء الرخيص.
  3. ضعف المضمون الثقافي والتراثي الذي يقدمه التلفزيون في الإعلام السوري، وافتقاره إلى الشمول والتنوع، ويغلب على هذا المضمون الموضوعات التقليدية وقضايا التراث المستهلكة، ونادراً ما نجد برامج متقنة تستهدف تسهيل الثقافة التراثية ونشرها.
  4. الميل إلى التسطيح واللجوء إلى الإثارة في البرامج التي تقدم المادة الثقافية أو المواد المعنية بالتراث، مما ينتج عن ذلك مسخ تلك الثقافة وتسطيحها، بحيث تصبح أقرب إلى المواد الاستهلاكية الرخيصة التي تقتات منها القنوات الخاصة لزيادة حجم جمهورها وزيادة مبيعاتها.

ومما سبق يتضح أن التلفزيون والثقافة أصبحا شيئان متلازمان منذ أن أصبح الفرد يعتمد على عصرنا الحالي على التلفزيون، بحيث تحول إلى أداة ثقافية، بحيث أصبح وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيرية الأولى للحصول على جميع أنواع الابداع، فأصبح يوفر التلفزيون الزاد الثقافي، ويشكل الخبرة الثقافية لملايين البشر، من خلال تعريفهم بالثقافات ونشرها، وفتح المجال أمام المجتمعات للتعرف على ثقافات أخرى، فأصبح بذلك جامعة عالمية كبيرة تخاطب الأميّ والمتعلم وتنقل الثقافة، والعلم، والفن، والترفيه، والتراث، وهذا طبعاً في ظل مجموعة من الشروط والقواعد التي تساعد على تقديم خدمة إعلامية متميزة.

المراجع:

  • الخواجة، محمد ياسر، 2002: مدخل إلى علم الاجتماع، دار المصطفى للطباعة والنشر، طنطا، مصر، ص102.
  • Landis, p:. Introductory of Sociology, The Ronald press, N.y, 1978. P26
  • شرف، عبد العزيز، 1999: وسائل الإعلام ومشكلة الثقافة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر.
  • شقم، نبيه، 27/7/2010: العلاقة بين الاعلام والثقافة، ورشة في المركز الثقافي الملكي، عمان، الأردن.

فيديو مقال دور وسائل الإعلام في تشكيل الثقافة التراثية للمجتمع

 

أضف تعليقك هنا