شريعة الإسلام كاملة وكفيلة بالسياسة العادلة

الحكم والعبادة لله وحده

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.. خلق الله -سبحانه وتعالى- البشر لعبادته؛ فقال: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، واستخلفهم في الأرض؛ فقال: ﴿إِنِّي جَاعلٞ فِي ٱلأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ﴾ [البقرة:٣٠]، ومن رحمته بهم أنه لم يكلهم في ذلك إلى أنفسهم، بل أرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب هداية وتزكية لهم، وكما تفرد بالإيجاد فلا خالق سواه؛ فقد تفرد بالتشريع فلا حاكم غيره؛ حيث قال: ﴿إِنِ ٱلحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلقَيِّمُ﴾ [يوسف: ٤٠].

فجعل له وحده حق الحكم، كما جعل له وحده حق العبادة؛ ومن ثم أوجب عليهم الحكم بما أنزل، حتى لا يتحاكموا بغيره فلا يبغوا ولا يضلوا ، بل وجعل حاكمية الله من العناصر الثلاثة الأساسية للتوحيد؛ حيث قال تعالى: ﴿قُلۡ أَغَيرَ ٱللَّهِ أَبغي رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٖۚ﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وقال: ﴿قُلۡ أَغَيرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّا فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأرۡضِ ﴾ [الأنعام: ١٤]، وقال: ﴿أَفَغَيرَ ٱللَّهِ أَبتَغِي حَكَما وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ إِلَيكُمُ ٱلكِتَٰبَ مُفَصَّلٗاۚ﴾ [الأنعام: ١١٤] (١).

الشريعة الإسلامية كاملة وشاملة لما أمر به الله

وبما أن الله أوجب علينا الحكم بما أنزل، وبما أن شريعة الإسلام هي آخر الشرائع؛ فإن ذلك يقتضي أن تكون هذه الشريعة كاملة، فيها تبيان لكل شيء، ﴿وَنَزَّلنَا عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ تِبيَٰنا لِّكُلِّ شَيءٖ﴾ [النحل: ٨٩]، وأن يكون الإسلام نظامًا شاملًا متكاملًا، صالحًا ومصلحًا لكل زمان ومكان، وهذا من مقتضى حكمة الله ورحمته بالإنسان؛ حيث إنه لم يتركه وحده، ولم يكله إلى نفسه في هذا المحيط الواسع يخبط فيه بمجهوده وبعقله فقط؛ فيضل أو يهتدي، يهلك أو ينجو، بل أرشده وهداه إلى ما يصلحه في دنياه وآخرته، على يد رسل اختارهم من أنفسهم؛ ليكونوا لهم قادة وقدوة بما يحملون من شرائع ونظم، تسعد بها الأفراد والجماعات.

التعاليم والشرائع الإلهية اختلفت باختلاف العصور

ولذلك جاء كل رسول يحمل من التعاليم ما يصلح به عصره، ويُعده لتعاليم رسول آخر يأتي من بعده، فيقر القواعد والأصول العامة التي سبقه بها غيره من الرسل، والتي لا تختلف باختلاف العصور وتبدل الأحوال؛ كما يدل لذلك قوله تعالى:﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَينَآ إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِۦٓ إِبرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]، ويجدد لهم الأحكام الجزئية التي تقتضيها حاجاتهم، وتتطلبها أزمانهم؛ كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلنَا مِنكُمۡ شِرۡعَة وَمِنهَاجٗاۚ﴾ [المائدة: ٤٨].

شريعة الإسلام تصلح لكل زمان ومكان

وهكذا كانت شأن الشرائع السماوية في تتابعها، حتي جاءت شريعة الإسلام، وكانت هي آخر الشرائع، ورسولها آخر المرسلين، ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّـۧنَۗ﴾ [الأحزاب: ٤٠]، وبهذه الشريعة اكتمل الدين، ويشهد بذلك قول الله : ﴿ٱليَوۡمَ أَكمَلتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتمَمتُ عَلَيكُمۡ نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: ٣]، ومن ثم وجب أن تكون شريعة الإسلام وافية بجميع الأحكام التي تحتاج إليها الأمم في تدبير شؤونها وتنظيم حياتها، ووجب أيضًا أن تكون هذه الأحكام صالحة لمسايرة الحياة في تطورها ومراحل تقدمها ورقيها. وهذا ما يشهد به قول الله تعالي: ﴿وَنَزَّلنَا عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ تِبيَٰنا لِّكُلِّ شَيءٖ﴾ [النحل: ٨٩]، ويشهد به أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله»(٢).

وليس معنى ذلك أن القرآن أتى بتفاصيل أحكام كل الوقائع والأحداث من وقت نزول التشريع حتى آخر الزمان، وإنما جاء القرآن بقوانين عامة ومبادئ كلية يمكن تحكيمها في كل ما يعرض للناس في حياتهم اليومية؛ فهي مبادئ وقوانين محكمة ثابتة، كما أنها عامة كلية؛ وبذلك تكون صالحة لكل الأزمان والأحوال والأمكنة والمجتمعات.

أحكام القرآن فيها تبيان لكل شيء

أما التفصيلات التي تختلف فيها الأمم باختلاف أحوالها وأزمانها؛ فقد سكت عنها، وهذا ليس قصورًا في الشريعة، بل هو قمة العدل وغاية الحكمة؛ حتى تكون كل أمة في سعة من أن تراعي فيها مصالحها الخاصة، وما تقتضيه حالها في ضوء المبادئ العامة للشريعة. وللشيخ عبد الرحمن تاج – شيخ الأزهر سابقًا – كلام رائع في هذا السياق حيث يقول: «فالقرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي هو تبيان لكل شيء؛ من حيث إنه أحاط بجميع الأصول والقواعد التي لابد منها في كل قانون ونظام، وذلك؛ كوجوب العدل، والشورى، ورفع الحرج، ودفع الضرر، ورعاية الحقوق لأصحابها، وأداء الأمانات إلى أهلها، والرجوع بمهام الأمور إلى أهل الذكر والاختصاص، وما إلى ذلك من المبادئ العامة التي لا يستطيع أن يشذ عنها قانون يراد به صلاح الأمم وإسعادها، وهو تبيان لكل شيء من حيث إنه قد أحاط أيضًا بأصول ما يلزم لحفظ المقاصد التي لم تأت الشرائع السماوية ولم تنشأ القوانين إلا لخدمتها والمحافظة عليها؛ فإن عليها يقوم أمر الدين والدنيا، وبالمحافظة عليها ينتظم شأن الأفراد والمجتمعات؛ هي المقاصد الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. هذه هي المقاصد التي تقوم عليها حياة الإنسان، وبصلاحها يستقيم أمر الأفراد ونظام الجماعات، وضع لها القرآن القواعد والأصول، وقرر لكل نوع ما يناسبه من الأحكام، قرر هذه الأحكام كليات وأتى فيها بعمومات، لكنه مع ذلك لم يغفل تفصيل ما يراه منها في حاجة إلى تفصيل.

السنة هي المكملة والمتممة لأحكام القرآن

ثم جاءت السنة توفي لذلك حقه؛ من الشرح والبيان، والتكميل والتعليل، والتنظير وضرب الأمثال، وكان ه يقيس ويجتهد: يجمع في الحكم بين المتماثلات ويفرق بين المختلفات، يربط الأشياء بنظائرها ويلحق الفروع بأصولها، منبهًا -كما هو نمط القرآن- إلى علل الأحكام وأسرار التشريع.

فهم شريعة الإسلام يتطلب الرجوع إلى مصادرها الأساسية

وقد علم الصحابة بهذا أن أحكام الشريعة لها حِكَمها وأسرارها، ولها أسبابها وغاياتها، وأن نصوصها لها لب وروح؛ فلا يصح الوقوف منها عند حدود الألفاظ وصور العبارات مع إغفال اللب والثمرة؛ فإنها شريعة خالدة عامة؛ عامة في المرسل إليهم، تخاطب كل أصناف البشر، وعامة في المرسل به، أي: أنه روعي فيها حاجة الأمم في جميع العصور؛ فوجب أن تكون أحكامها وافية بهذه الحاجة في كل عصر وكل أمة، وهذا لا يكون إلا أن تفهم من نصوصها حق الفهم، وأن تستنبط من مصادرها على وجه يحقق ما تقصد إليه من تحصيل مصالح العباد.

وهكذا كان رجال الصدر الأول من المسلمين يفهمون الشريعة من مصادرها، ويستنبطون الفروع من أصولها، وهكذا كانوا يجدون في هذه المصادر والأصول الغناء والكفاية بأحكام ما يأتون وما يذرون، وما شعروا أنهم عاجزون -مع هذه الشريعة- أن يواجهوا ما كان يتوارد عليهم من الوقائع ومختلف النوازل، وكثير منها لم يكن لهم عهد به من قبل؛ بل كان من نتائج الفتح الإسلامي، وأثرًا من آثار اختلاط العرب بغيرهم من الأمم التي خضعت لسلطان الإسلام»(٣).

أقوال المستشرقين عن نظام شريعة الإسلام

وبهذا يتضح لنا أن الإسلام تصلح أصوله أن تكون أسسًا للنظم العادلة، وتتسع لتحقيق مصالح الناس في كل زمان ومكان، وقد أشاد بذلك أيضًا جمع من المستشرقين؛ نعرض أقوال بعضهم فيما يلي:

  • يقول فتزوجوالد: «ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا. وعلى الرغم من أنه ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين؛ فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يُفْصَل أحدهما عن الآخر ».
  • وقال نللينو: «لقد أسس محمد في وقت واحد دينًا ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته».
  • وقال شاخت: «إن الإسلام يعني أكثر من دين؛ إنه يمثل أيضًا نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول إنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معًا».
  • ويقول ستروتمان: «إن الإسلام ظاهرة دينية، سياسية؛ إذ إن مؤسسه كان نبيًّا، وكان سياسيًّا حكيمًا أو رجل دولة»(٤).

من كل ما سبق يتضح لنا أنه صح للشريعة الإسلامية أن تسع كل مطالب الأمة وحاجاتها، واستقام لأولي الأمر أن يجدوا فيها أصولًا وقواعد يستنبطون منها أحكامًا ونظمًا يعتمدون عليها في سياسة الأمة وتدبير شؤونها، وهذه الأحكام والنظم التي تكون من اختصاص أولي الأمر وداخلة في تدبيرهم للشؤون العامة، هي التي تشكل موضوع علم السياسة الشرعية الذي نسعى في بيانه في مقالات أخرى قادمة -إن شاء الله-.

  1. (١) «السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها»، القرضاوي، يوسف، مكتبة وهبة، ٢٠١١م، (ص١٣-١٤).
  2. (٢) أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب القدر ، باب النهي عن القول بالقدر، حديث رقم 3، ٢/٨٩٩.
  3. (٣) «السياسة الشرعية والفقه الإسلامي» لعبد الرحمن تاج: (ص ٥٤-٦١)، منقول بتصرف.
  4. (٤) «النظريات السياسية الإسلامية»، الريس، محمد ضياء الدين، القاهرة، مكتبة دار التراث، الطبعة السابعة، (ص٢٨-٢٩).

فيديو مقال شريعة الإسلام كاملة وكفيلة بالسياسة العادلة

 

أضف تعليقك هنا