بقلم: خطوري عبدالله

كم قاعةً سينمائية ألِفَتْها طفولتنا، أمستْ الآنَ قفرا بلقعا كأنها لَمْ تَغْنَ بآلأمس، مما خلف ويُخَلِفُ مرارة في النفس وإحساسا متشنجا بوقع الزمن الذي لا مهرب من تربصاته آلمثيرة للشجن..

شريط سينما الفردوس

شريط سينما الفردوس Cinema Paradiso يقدم مقاربة للموضوع بحنين مترع بسخاء عاطفي تنسج تفاصيله ذاكرة موشومة بالحب والفقد. الشريط حكاية تؤرخ لحياة قاعة سينمائية في منطقة سيسيليا منذ ميلادها إبان الحرب العالمية الثانية الى إبادتها في ثمانينيات القرن الماضي، مثلما وقع مع قاعات عالمية كثيرة وعربية عتيدة في المشرق والمغرب عايشناها جميعا عشنا عوالمها وهي تحبو تمشي تخطو خطواتها الأولى بدهشة تعدو بشغف تركض بتوهج متألق حتى لحظات زَفْرِها الزفرة الأخيرة نهاية الألفية الثانية…

سينما الفردوس ذكرني نهارات رمضانات أصياف خاليات كنا نلج قاعة العرض المُلغِزة، بعد أن نكون قطعناها مسافات ليست بالهينة من أحواز المدينة الى أحشائها الملتوية، جماعات وفرادى تعبر أقدامنا الأحياء والأزقة والدروب، نوسع الخطى تارة نمشي الهوينا نهرول نتلهف على آمتطاء صهوة الأحلام ما آستطعنا الى ذلك سبيلا.وما إن تغطس هاماتُنا عتمات سحر العروض حتى نلفي أنفسنا خارج أسوار الطوق والمنع نمارس متعا حارقة في لحظات آبقة…

فيلم (سينما الفردوس)

فيلم (سينما الفردوس) من انتاج عام 1988واخراج Giuseppe Tornatore وتشخيص الفرنسي Philippe Noiret في دور (ألفريدو) الرجل الرئيس في كواليس الإشراف على عملية إدارة تشغيل أسطوانة العجائب وتسليط آنعاكس صورها المضيئة على شاشة العرض، وكم كنا نخمن، في فترات العرض، نتخيل كيف يمكن أن تكون تلك الغرفة السرية المسؤولة على كل هذا العجب العجاب من الخيالات المستحيلة المستباحة.

وعبثا كنا نتلع بأعناقنا نطوف بها ذات اليمين ذات الشمال وفي كل آتجاه لقنص شبح ما يعن من فجوة ما، فلا نلفي غير أطياف الألوان تلعب بمقلنا تتحرك تتراقص تنعكس على شاشة عملاقة أمامنا تأخذ بشغاف ألبابنا تسافر بنا من واقعنا المقهور الى عوالم من قزح تتحقق فيها أحلامنا ولو لمدد وجيزة من بداية العرض الى نهايته…

الأفلام التي كانت تعرض في تلك السينما

فيلمنا من طينة أفلام (خبز وشكلاطة)لإيطالي آخر Franco Brusati أخرجه عام 1974، وفيلم(عمر قتلاتو الرجلة/الشهامة)الجزائري عام 1977 من إخراج مرزاق عَلواش، وسلسلة تلفزيونية ثلاثية للكاتب أحمد الديب في حريقه المطوق لشخوصه المتعايشة بدار الصبيطار عبر يوميات يرويها الفتى(عمر)يتحول في فيلم(أولاد نوفمبر)1976 الى بائع جرائد آسمه(مراد)يعدو مُصرا على إيصال رسالة الى المقاومين حتى آخر رمق.

ومن طينة شغب البدايات العصية في الفيلم المغربي(وشمة)أحمد بناني، ومحاولة تجاوز هواجس الخوف عبر مناورة اكتشاف ما وراء الجوار في فيلم(من الواد لهيه) لمحمد عبازي عام 1982 وحنين بكائية الفيلم الهندي(تعال يا ولدي/ آغالي لاغ جا/Aa Gale Lag Jaa)اخراج( Manmohan Desai) صاحب روائع:(آمار أكبر آنطونيوني) وسلسلة افلام اميتابشان(مارد،طوفان،كولي، ناصيب)..وتشخيص شاشي كابور الأرعن بأغنيته مع الطفل التي طارت بها الآفاق: (جانيتو ياجالينا ماليتو يا مالينا).. وشريط(من الواد لهيه)، و(الشركي أو الصمت العنيف) 1975.

مقالات متعلقة بالموضوع

قاعة سينما الريف بطنجة (باراديسو)

(باراديسو) صقلية هي قاعة سينما الريف بطنجة، هي النصر والمعراج بوجدة، هي سندباد، هي ألف ليلة وليلة، هي الحلم اللامنتهي في خريطة محددة في جغرافية محاصَرَة في زمن كان التلفزيون العربي غاطسا في الدعاية والترويج والشحن السياسي المزمن المدعِم للانظمة الحاكمة يفعل الساسة عبره بالقهر والغصب ما يفعلون دون حسيب أو رقيب؛ لتأتي قاعات عرض الأفلام كنوع من طوق النجاة من لهاث براثن هذا الإفلاس الرسمي.

أجواء أفلام سبعينيات القرن الخالي

لقد عشنا وإياها أجواء أفلام سبعينيات القرن الخالي وقبلها، وكثير منها تعالق وأجواء علاقات بدايتنا الاولى مع ردهات السحر والسحرة، بمعالجتها لتيمة الطفولة المتيمة بحب السينما بأمكنتها بمساحاتها بعتمتها التي تنبعث منها الأنوار، من زحامها الذي ينبجس منه بَلسم دَعة الرحابة، من عَرَقها الذي يلد رواءَ الصفاء، من صخبها الذي يعجن سكينة الهدوء، فتنشأ من الداخل والخارج وما بينهما من صور عملاقة أفيشات الأفلام وصور اللقطات المرتقبة، حياةٌ جديدة لا تشبه البتة تلك التي تمور في الواقع الذي لا يرتفع…

وعلى المساحة العريضة البيضاء المديدة، كانت حيوية الحياة تتحرك، يضم مُقلَنا مخاضُ انبعاث واحد تتهادى عبره الأمنيات والأحلام والرؤى فنغيب نغيب نغي…كنا حينئذ نعب من البحار جبروتها الهدار.نأكلُ الغَابَ.نزرع الرياح اللواقح.نجني العواصف المزمجرات.تُطهرنا الأمطار.نقتات غيثها يقتاتنا نوْؤُها المدرار.تسحقنا الأنظارُ لا نبالي.الأرض تَمُورُ من تحت خطواتنا الاولى.السماء ترسل شواظا من نار ونوار، نناورها تغالبنا فتغلبنا، فنستسلم فرحين بطواعية فاتحي الأفواه والبآبئ، مشدوهين كنا نحدج ما نحدج من إباحة تخلب أنظارنا، نخلسها صورا تتعرى على مَهل والقاعة تغرق في صمتها المريب..يَنْضُو (بْروسلي)بآنفعال قميصه الصيني عن بدنه الصقيل يرميه أرضا مهددا مزمجرا كأسد بلا عرين..

المواقف والأحداث التي كانت تحصل

آ آ آه ه..يصيح تدوس قدمه رقبة الشريرين فيخرجُ النّفَس من حلقوم بلا نفَس وتبلى الجثث الملقاة في عراء يلوكها الخواء.. ينط(بيغْ بُوسْ)في العَنان بلا عماد يصرخ آ آ آي ي يُريدُ يضرب خصمَه الفطنَ الذي لم يترك له أي فرصة يقفو أثره في الهواء طائرا محلقا بمعالجة مفاجئة على حنكه يتشنج لها ثم يتداعى معفرا في رغام وتراب ودمَاء..وفي القاعة المُعْتَمَة أطفال سَمجون وَسِخون مليئون بقمل وقراد وجرب ومرض.في صمت متواطئ تجلد أناملهم فُتَيْلات بداية الرغبات. كانوا يحبون نظرات مارلين مانرو الحادبة يعشقون سَلاسَة آشا باريخ يشتهون شبق غلوريا غيدا وألاعيب زيناتمان..بعد أسبوع من الكد والضنك والمكابدة وبيع القصدير ولدائن الميكا وأسياخ النحاس وبقايا القرطاس والزنك والحديد وزعاف الجرنان وبقايا المتاع يغطسون أبدانهم الصغيرة المجدورة في دهاليز العتمة المباحة.

ليس لهم آباء معروفون، وإنْ كان لهم آباء، فهُم سُكارى وَلودون مُهمِلون، ونتاج خصيهم لا يعرفون مصائرها إلا من بعيد البعيد؛ كانوا غارقين في الظلمة يلوكون كلاما بذيئا يتشاركون لقيمات تالفة ببصاقها وخشاشها ودرنها، يُعَلقون على المشاهد التي تروقهم بتأوهات مصطنعة وتوجعات لا تليق، والتي لا تروقهم بصفير جماعي وسباب وزعيق،و مزيد من الحنق والسخط المخلوط بالإعجاب غير اللبق المنبعث من أغوار هندسة الفوضى وجغرافية الهوامش العطنة وتاريخ بوهيوف ونعوت الزلط وجائحات القرف.. هي حياة بكاملها يُحْشَر تشنجُها في قاعة الخيَالة لمدة محددة يتقاسم المهمومون عواطفهم المأسورة نهاية الأسبوع.

وفي المواسم والأعياد يغنون يرقصون مع الأفلام الهندية المدبلجة وغير المدبلجة يدخنون يحلمون ثم يتفرقون يقلدون حركات الآكشن يحكون الحكايا على أمل لقاء قريب في القاعة نفسها أو غيرها يمارسون الطقس نفسه يطهرون أرواحهم ينفسون عن لواعجهم إذ لا وجود حينئذ لمعالجة الأعصاب والنفوس والعقد والكبوت والإدمان الا عبر إدمان هذا الطقس الاحتفالي الذي غدا الآن ذكرى موشومة يحاول استرجاع آثارها الولهون أمثالي عبر معاودة عيش تلك اللحظات، فلا يجدون غير أطلال ورموس وبقايا ركام قاعات مغلقة مهملة مفتوحة على مشاريع إعادة إعمار لوبيات عقار لا تؤمن بالسينما ولا بآنتكاس ذاكرة الإنسان، وفي أحسن الأحوال، قد نصادف صالة مرممة قد تحتفظ بالاسم نفسه:لكنها أبدا لن تعيد لجنتنا جنائن أنوارها المستلَبَة ولا أزمنتها الريانة المفقودة…

بقلم: خطوري عبدالله

أضف تعليقك هنا
شارك
بقلم:

Recent Posts

الحُب الصامت

بقلم: محسن العويسي (الحب الصامت يأتي بهدوءً قاتل ويذهب بجُرحٍ عميق) ومابين غسق الليل ونور… اقرأ المزيد

% واحد منذ

الاتجاه نحو الطريق المنحدرة

بقلم : قاسم الجهني  يشهد العالم في الوقت الحالي ثورة تكنولوجية عظيمة، والتي صاحبها انتشار… اقرأ المزيد

% واحد منذ

التنوع الاقتصادي والصيغ النموذجية

بقلم: إبراهيم جلال أحمد فضلون تمثل الصيغة النموذجية لوثيقة تأمين المسؤولية المهنية لجهات تفتيش أعمال… اقرأ المزيد

% واحد منذ

“التمثيل السياسي: حقوق الأقليات المهمشة”

بقلم: المستشارة زهراء التميمي إن أبعاد طوائف الأقليات عن الساحة السياسية والسلطة الحاكمة يمكن أن… اقرأ المزيد

% واحد منذ

سيدي احذر هذا الفخ

بقلم: عادل عبد الستار العيلة شاء القدر اليوم أن أقرأ تلك السطور التاليه (لا اعرف… اقرأ المزيد

% واحد منذ

دليل شامل لتعلم برمجة الويب بالطريقة الصحيحة

في عصر التكنولوجيا الحديثه والتطور الرهيب الذي نشهده في جميع القطاعات,تعد البرمجة أحد أهم المجالات… اقرأ المزيد

% واحد منذ