وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ

بقلم: خطوري عبدالله

لما قصد(حسين الضاوي)في إحدى قصص مجموعة(دنيا الله)ل(نجيب محفوظ)حَفْلَ تكريمه ذات أربعاء، بقلب متوجس، مرتاب، حائر..كان يحدس دون شك ما سيقع..لَمْ يحضر لقاعة الاحتفال أحد.لَمْ يُبَالِ به وبتقاعده أحد..أخيرا وبدون لف ولا دوران، سيواجه نفْسَه بالحقيقة..سيكتشف أن مُجملَ علاقاته في العمل كانت خيطَ دخان مبنيةً على مصادفات نفعية هشة لا غير.

لقد كان غاطسًا في شغل بيروقراطية الإدارة غارقًا في تسلق درجات مَسار سُلّمه المهني بعيدا عن تمثل ضروريات واجباته العائلية والمجتمعية؛ فقرر وهو في ذروة بداية مواجهة واقعه الجديد، أن لا يضيع لحظتَه المعيشة فيما لا يجدي ولا ينفع بَعْدَ أن تأكد مما لا يدع مجالا للشك بأن مقولة (ما حك جلدَك إلا ظفرُك)ليست مجرد حكمة شائخة يتيقن منها المرء بعد فوات الأوان؛ ولكن منهج سَمْتِ حياة يستوجب آلِالتزام به فيما تبقى من حياة (١)

جسين الضاوي وتفانيه في عمله

مَنْ لم يُكرم نفسَه، في معاشه اليومي طيلة حياته، لن يكرمه أحد..هذا أكيد..الأبِيُّ لا ينتظر من الآخرين، كيفما كان مقامهم، ثَناءَ مَدْحٍ مُقابلَ ما يعمل من أعمال هي من صميم واجباته.إنه يكد يتعب لأنه يُؤمن بأن العمل “عبادة”؛ثم إن الإنسان السوي يُحب الشغلَ كقيمة إنسانية نافعة تميزه عن غيره، ويشغف بخدمة آلمجتمع والمجتمعين فيه، ويرتاح لراحتهم شاعرا بغبطة الرضى لوجوده الإيجابي بينهم..(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة رَبِّكَ نحن قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ ليَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) _الزخرف/الآية:٣٢

مُوَظَّفُنا السابق(السيد حسين)لم يُحْسِنْ لنفسه ولمحيطه، لم يستحضر هذه الخصيصة في العمل، فراح يُقدس الشغل من أجل قيم آستهلاكية صرفة أَوْدَتْ بعلاقاته العائلية والوظيفية في سبيل تحقيق مسعاه، لتودي به في نهاية المطاف..التكريم في عمق جوهره تكريم الإنسان لنفسه بمحبته ذاته أولا ومحبته آلآخرين، وصولا إلى آعتراف هؤلاء آلآخرين بعمله ومجهوداته التي قدمها لهم وللمجتمع في مجال تخصصه وآشتغاله.

وكل مَنْ يسعى لخدمة الناس وإسعادهم وإدخال الفرحة على قلوبهم ورسم آلبسمة على شفاههم يستحق الشكر وآلتكريم وآلتنويه وآلتقدير، فتتلاحم ذات الفرد العاملة المقتنعة المؤمنة الواثقة من نفسها بذوات المعترفين بالجميل الشاكرين لِمَنْ أَسْدَى إليهم معروفا في لَحْظة أو لحظات ما من الحياة، مما يخلق فضاء إنسانيا منسجما تسوده المحبة والاحترام والأخوة المبنية على الصدق والألفة والتكافل والتعاون في مجتمع سوي سليم…

الامتيازات التي يحظى بها حسين الضاوي

حالة(حسين الضَّاوي)تُذكرني كذلك بفقدان الامتيازات التي يحظى بها بعض الموظفين خلال فترة عملهم من سلطة ونفوذ وما شابه، وعند إحالتهم على التقاعد يكتشفون الزيف الذي كان يعيشون في وهمه؛ وتزداد حدة هذا المعطى في البلدان المتخلفة حقوقيا المبنية على التعسف السلطوي.

ولعلي أذكر هنا فيلم (محمد خان:زوجة رجل مهم/١٩٨٨)الذي عرض حالة ضابط عاش طيلة حياته المهنية في شطط مسرف للسلطة، ليجد نفسه على حين غرة محالا على معاش آستباقي شبه مطرود سَبَّبَ له آنتكاسات ذاتية حادة لم يستطع التعايش معها نتيجة عدم قدرته التكيف مع نمط عيش جديد كمواطن عادي مما ولد نتائج وخيمة له ولمحيطه العائلي…

مبادئ تكريم الإنسان نفسه

على المرء أن لا يُغْرِق نفسه وطاقته وصحته في العمل أكثر مما ينبغي، ففي الحياة ما يستحق أن يعاش بها ومن أجلها من غير العمل؛ والوعي بهذا المعطى قبل فوات الأوان أضحى أمرا غاية في الأهمية، ولعل من مبادئ تكريم الإنسان نفسه إعطاؤها ما تستحق من ميزات تُمكنها العيش بدَعة وسلام عوض حياة جري الوحوش التي هيمنت على الأفراد والجماعات..{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم منَ آلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}سورة الإسراء 70…

 احترام النفس

فأحَبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم لهم أو كما جاء في الحديث:«إن لله خلقا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس اليهم في حوائجهم أولئك آلآمنون من عذاب الله» رواه الطبراني…ومن باب التكريم، بل من أولوياته أن يبدأ الإنسان بآحترام نفسه وإيلائها المكانة اللائقة بها بالعمل على تزكيتها والسمو بها عبر التفاني في العطاء دون آنتظار جزاء أو شكور..

ثم إن ثقافة الاعتراف بالجميل بالثناء الجميل يجب أن تسود مجتمعا يحترم نفسه ويسعى الى تنمية شاملة لأفراده وجماعاته من باب(من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له)؛ وبدون هذا الاعتراف تُحْبَط الهمم وتُيَأَّسُ عزائم آل آلجأش.

فالتكريم اللائق بمَن يستحقه ليس منّة أو إعلان إحسان أو تباهيا به، بل واجب عرفان لمن أحسن صنعا إلينا من أجل إعلاء شأن القيم النبيلة والحث عليها بصفتها تلعب دورا في تمييز البعد الايجابي الفعال في المجتمع عن غيره من الأبعاد السلبية.

قيمة العمل والعطاء

فقيمة العمل والبذل والسخاء في العطاء والرفع من شأن الأعمال التطوعية داخل مجال آختصاص المرء وخارجه مازالت تحتاج لمزيد من التنويه والتشريف..ولعل هذا جزء من الأمانة التي وعد أن يتحملها الإنسان في عمارة الأرض، وعليه أن يفي بوعده..لمعان واعتبارات منطقية ونفسية تدل على الكرم والتسامي بالفعل الإنساني إلى مراتب أكثر نُبلا.

من هنا، فكرامة المرء هي هِبة ربانية وعطية من المُعْطي الخالق الكريم الذي سخر له خصائص ومزايا حميدة للاتصاف بها استحق بموجب جهده لتمثلها هذا التكريم، كما أن العبرة من التكريم تشجيع الكائن المكرَّم وتحفيز له ولغيره لمزيد من البذل من أجل المحافظة على الصفة وإعلاء من شأن القيم المحمودة التي يكرم من أجلها وتوريثها الأجيال اللاحقة كأُسٍّ هام من أُسُسِ التربية في حضارة الإنسان…

من هنا جرت العادة، وجرى العرف أن يجتهد الناس فيما بينهم في نطاق مجهوداتهم الشخصية المحدودة لقول كلمة..شكرا..بسيطة لزميل لهم قضى بين ظهرانيهم ردحا من الزمن غير يسير، تقولها بصدق أعينُهم وقلوبهم قبل أن تنبس بها نبرات بحات حناجرهم المرتعشة.

يهمسون بها يجهرون في وقت يقف فيه المسؤولون عن القطاع موقف السلب المتفرج الماسك بمقصلة التشطيب يزيحون بها أسماء وألقاب وصفات وكينونات ومصائر من آمنوا خدموا أخلصوا صدقوا كابدوا آجتهدوا صبروا، ليُسَاقَ لهم خروج كيفما آتفق من أبواب ضيقات نكرات مهملات منسيات، كأن هؤلاء الجنود المجندة لم تلبث في خدمة الفرد والجماعة والمجتمع والدولة غير عشية وضحاها..

كيف يؤدي الإنسان الطبيعي عمله؟

آآآفْرَاااحْ بْرااااسَكْ آآآصَاحبي..(٢)أقولُها صادقا لنفسي ولكل مُسْتخدَم ومُيَاوِم وموظف.. واللَّهِي مَا فْرَحْتِي بْنَفْسَكْ لَافْرَحْ بِكْ شِي حَدْ.. الإنسان الطبيعي السوي يقوم بواجبه العملي بتفان وإخلاص وصدق، وفوق طاقة المرء لا يلام..ولا ينتظر، عند طرق بويبات التقاعد مِنْ رؤسائه وسُلمه الإداري وهيئته المشرفة على القطاع الذي يعمل به، أن يذكروه بكلمة محبة أو آعتراف كيفما كانت..جهد جهدهم تحبير رسالة إدارية مقتضبة موجزها..

إنْ كان لا بد من الموت فمن العار أن نموت جبناء

جهزْ أوراقك لتسوية وضعيتك الجديدة وبه الختام والسلام..هكذا بجرة قلم جاحد صفيق تغدو أيها المُسَخِر نفسَه لخدمة نبيلة..متقاعدا.. والكلمة تحمل في طياتها للأسف حمولة وجع موجع عندما يُمْسي الموت نفسُه أمرًا على وجه الاستعلاء:”مُتْ…”مقرونا بصفة وحالة الخنوع والخضوع:”…قاعدا”..لذا، علينا، أقولها أعيدها.. إنْ كان لا بد من الموت فمن العار ان نموت جبناء..لا فض فوك يا متنبي العصور كلها..

مَنْ قال إن المتقاعد كامرأة يائس تم تطليقها، تتقبل الفعل بآستكانة ذل، لا تبادر إلى ردود أفعال كيفما كانت..مَنْ جعل عمرنا الثالث مفعولا يتلقى الأفعال لا يفعلها..لااااا..أوصيكم أعزائي عزيزاتي وأوصي نفسي..كرموا أنفسكم اشمخوا بأنوفكم قليلا وكثيييرا..لقد كرمكم الله عز وجل من فوق سبع سماوات، فكيف ترضون غير الكرامة سمتَ عيش.

لتكن العزة والشهامة سبيلكلم

لتكنِ العزةُ ديدنكم والشهامة والكرامة والأنفة زيدوا لقدام زيدوا القدام(٣)لا تساوموا لا تهنوا لا تحزنوا لا تخضعوا لا تتوسلوا لا تتنازلوا لا تستكينوا لا تتمسحوا بأعتاب أحد لا تنتظروا جزاااااء في دُناكم الدنية فهي لو جازت خيرا أحدا لساد آلعالمين سلاااااام..سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين..”مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ليَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا “…

إحالات

  1. قصة:(كلمة في آلليل)نجيب محفوظ المجموعة القصصية:(دنيا الله)/دار القلم/بيروت ١٩٧٢/صفحة:١٦٥وما بعدها
  2. واللَّهِيمَا فْرَحْتِي بْنَفْسَكْ لَافْرَحْ بِكْ شِي حَدْ:افخر بنفسك لا تنتظر غيرك يفخر بك…
  3. زيدوا لقدام:تقدموا تفاءلوا

بقلم: خطوري عبدالله

 

أضف تعليقك هنا