المصطلحات بين الربانية والشيطانية

أهمية وأثر المصطلح في النفس 

ماذا لو قال إبليس لأبينا آدم “كل من الشجرة ليغضب ربك عليك “، تظنه سيأكل؟ يقيناً سيتغير التاريخ، تلك هي الحقيقة، لكن ابليس اللعين قال:”هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120)” طه، لقد كانت إحدى وسائله التلاعب بالمصطلحات لتغيير النظرة للمنكرات تمهيداً لقبولها وممارستها والدفاع عنها بل والموت من أجلها أحياناً.

لقد أدرك الشيطان الرجيم أهمية المصطلحات، فكل مصطلح له أثرٌ في النفوس ويرسم ظلالاً محدده، يتبعها مفهوم ومشاعر ثم سلوك، كما أن لكل مصطلحٍ جذوره التاريخية والتي تلقي بها على النفس البشرية، والمصطلح ابن بيئته التي خرج من رحمها تلك البيئة التي عاش فيها الإنسان، لذا كان لكل أمةٍ مصطلحاتها الخاصة والتي تتفرد بها وتفتخر بها أحياناً.

ونظراً لتلك الأهمية للمصطلحات فقد سعت الدول  الاحتلالية (الاستعمارية) على تغيير المصطلحات تمهيداً للغزو الثقافي في البلد ورسم خارطة طريق جديدة تحقق للمُحتل( للمُستعمر) أهدافه، وأنت تتفق معي أن استخدامنا مصطلح “المستعمر” هو تحريف للواقع وتزويرٌ للحقيقة.

تحرير المصطلحات وبناؤها في القرآن الكريم والسنة النبوية 

ومن هنا فقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية بـ “تحرير المصطلحات” وبناءها بالشكل الإنساني الصحيح البعيد عن هوى البشرية وشهواتهم البربرية، ومما يدل على ذلك:

  1. الإضافة: إضافة مصطلحات جديدة لم تكن معروفة مثل: الإيمان، اليوم الآخر، الجنة، النار، التوكل وغيرها كثير.
  2. التبديل: تبديل بعض المصطلحات، ولك أن تتخيل أن آيات تنزل لهدف تغيير المصطلح، اقرأ معي هذه الآية من سورة البقرة:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)، وإليك بعض الأحاديث:
  • “لا يَقُلْ أحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي، ولْيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي.” مسلم 2251
  • “لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ وضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، ولْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلايَ، ولا يَقُلْ أحَدُكُمْ: عَبْدِي أمَتِي، ولْيَقُلْ: فَتايَ وفَتاتي وغُلامِي.” البخاري 7477
  • “لا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، فإنَّ الكَرْمَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ”. مسلم 224
  1. الدقة: تأمل معي هذه الاية:”قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  (14) الحُجرات، نعم الاسلام والايمان من الدين لكن القرآن الكريم يريد منا أن نكون دقيقين في مصطلحاتنا فنزلت الآية لتعديل المصطلح وذكر الحقيقة.
  2. التغيير: وهو من أخطر المحاذير وأكثرها شيوعاً، لاحظ هذه الأحاديث “يَشْرَبُ ناسٌ من أُمَّتِي الخمرَ ، يُسَمُّونَها بغيرِ اسْمِها“.ص.ج.ص للألباني8092، وعن عبد الله بن عمر: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: “لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ علَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إنَّهَا العِشَاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بالإِبِلِ.”مسلم 25385. يسمونها “العتمة
  3. الارتقاء: وهو مغزى جميل ورائع ويُعطي دلالة على رقي الشارع الحكيم وحرصه على تزكية أتباعه والسمو بهم إلى أعلى الدرجات، فهو ينظر إلى المصطلح المتداول فيُلبسه معنى جديد يرتقي بالنفس الإنسانية ليحررها من محدودية المصطلح أو صورته السيئة، استحضر معي تلك الصورة لرسول الإنسانية ﷺ وهو يخاطب أصحابه:”أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُفِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ.. مسلم 2581 ،

وصورةٌ أخرى حين يطرح عليهم ﷺ جملة يعرفونها لكنه يُلبسها معنى رائع  فيها فيقول”انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا.فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: تَحْجُزُهُأوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ. البخاري 6952

  1. العقوبة: وهذا أمر غريب أن يكون تغيير المصطلح سبباً لعقوبة ربانية، هاهم بنو اسرائيل يُطلب منهم “ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ..” لكنهم ” فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ…” لعلك لاحظت أن القرآن الكريم ذكر تغييرهم للقول(المصطلح) دون الدخول!، فماذا كانت النتيجة ” فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)  البقرة 58-59 ، يتكرر ذكر هذا الموقف في سورة الأعراف والنتيجة نفسها :” فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)والرجز هو العذاب، يا الله عقوبة ربانية بسبب تغيير مصطلح!

أظنك بعد هذا الكلام أيقنت بأهمية ودور المصطلحات في البناء والهدم، ومعركتنا مع المصطلحات بين شياطين الإنس والجن مستمرة وستظل كذلك ابتدأها ابليس بقوله “قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ “(39)الحِجر ومن طرق التزيين تزيين المصطلحات وتجميلها و تغطيتها بما يحببها للنفس. ولما كان المصطلح ابن بيئته، فالعكس صحيح أي مَن تعوَّد على مصطلحات أمة معينة تشرب ثقافتها وقِيمها وإن لم يشعر، وما نعايشه في مجتمعنا خير شاهدٍ على هذا الكلام.

ما خطر اكتساب المصطلحات الغربية وتبنيها؟

إن أولى الخطوات في الانتصار في معركة المصطلحات هي المسارعة في العودة إلى المصطلحات الربانية ونثرها ونشرها واستبدالها بالمصطلحات الأخرى مهما كان مصدرها، ولا نلتفت إلى قاعدة” لا مشاحة في الاصطلاح” على اطلاقها. ولعلك تسأل: ماذا لو أخذنا مصطلحاتهم ووظفناها في حياتنا؟

أقول الخطر القادم من المصطلحات لا يقل عن خطر الدبابات، ذلك أن منطلقات الحضارة الغربية تختلف جذريا عن منطلقاتنا، فهم ينظرون إلى الحياة الدنيا على أنها النهاية(غالباً)، وهم يعتبرون الإنسان محور الكون وسيده، ونحن نقول أن الإنسان عبد لله وسخر الله لهم ما في السموات والأرض، هم يستمدون نظمهم من تشريعٍ انساني ونحن نستمده من وحي رباني، وغيرها كثير.

ضرورة التمسك بالمصطلحات الربانية والبعد عن المصطلحات الشيطانية

والقاعدة تقول من أكثر من مصطلحات القوم أكتسب قيمهم، ومن هنا فإني ادعو وبشدة إلى استبعاد مصطلحاتهم واستخدام مصطلحاتنا الربانية، وخاصة في العلوم الإنسانية والتي انتشرت في الآونة الأخيرة واصطبغت بصبغة مصادرها الغربية -في الغالب- مما ألبسها ثقافة الغرب أو الشرق وربما دينهم، فأصبحنا نرددها مع وجود ما يقابلها من الوحيين.

فالقيادة والإقناع[1]وتطوير الذات أصبحت حديثَ الكثير، ونسينا ما يقابلها من الإمامة[2]والبلاغ المبين وتزكية النفس وغيرها، ويحضرني في هذا قوله تعالى “.. أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ..” البقرة 61 ، نعم الآية كانت عن بني اسرائيل و عن تغيير الطعام، لكن يمكن تعميمها في الحياة. وعلى مقدار قربنا من كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ وبعدنا عن غيرهما، تكون مصطلحاتنا ربانية والعكس تكون مصطلحاتنا أقرب إلى الشيطانية، ولكلِّ خيارٍ ثمرتهُ ونتيجته فمن يزرع الشوك لا يجني العنب، ومَن يزرع العنب لا يجني الشوك.

أعلم أن العملية ليست سهلة وتحتاج إلى تجذير وبحوث ودراسات لكنها ليست خيارية للأمة المحمدية فهي مطالبة بريادة العالم وفق المنهج الرباني، هذا في الدنيا أما الآخرة فغاية كل مسلم الفوز بالجنة ،بل والفردوس الأعلى بغير حساب ولا عذاب، وهذا لايكون إلا عبر المنهج الرباني ومنه المصطلحات الربانية. ذاك هو الطريق ولا سبيل غيره “تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك”[3]، فنحن -بعون الله- عليه سائرون وبه ملتزمون حتى المنون.

  • [1] راجع مقالنا” لا ثم لا للإقناع”
  • [2] الإمامة ليست خاصة بالصلاة فقط راجع مقالنا “بين القيادة والإمامة” ، بل لم يرد مصطلح “الإمامة” في القرآن بمعنى إمامة الصلاة مطلقاً.
  • [3] صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 59.

فيديو مقال المصطلحات بين الربانية والشيطانية

 

أضف تعليقك هنا