تجارِب عتَبـةِ المَوْت “فرصة ثانية للحياة؟ أم هلوسات احتضار؟”

بقلم: محمد حسين

أصعب الأسئلة هي أكثرُها بديهيةً.

حتى لو كان الموضوع قيد البحث صادماً في تلقائيته و بساطته، فإيجاد تعريفٍ علميً سهلٍ و واضح يتفق عليه أغلب أهلُ العلم لمفاهيم كونية أساسية تشكل الأعمدة الحقيقية لعالمنا (كما نعرفه الآن على الأقل) مثل “الجاذبية” أو “الزمان” أو “المكان” هو من التعقيد والصعوبة بحيث يكاد يكون مستحيلا. وليس هذا بسبب عيبٍ أو نقصٍ في العلم او العلماء، بل إن الفكرة كلما تعمقت و زادت أصالتها وأهميتها في عالمنا وحياتنا، أصبح إيجاد فكرة نظيرة لها في الأهمية و معاكسة لها في الطبيعة من أجل القياس العلمي و الفكري أكثر صعوبة. فإذا أردنا مثلا تعريف “المكان” ببساطة و وضوح، سيكون لزاما علينا بطريقة ما محاولة تخيُّلِ العيش في عالم لا يوجد فيه هذا البُعْد المسمَّى بالمكان، لكي نستنبط تعريفا صحيحا و دقيقا، وهذه طبعا مهمة شديدة الصعوبة على عقولنا التي تعودت العمل وفقا لظروف محددةٍ بمقدار. هذا بالإضافة إلى أن النقاشات العلمية المتقدمة عادة ما تتجاور حدود العلم النظري البحت لتدخل في معترك قديمٍ متجددٍ مع علوم الدين و الفلسفة و الاجتماع، فيصبح الإجماع و الاتفاق على تفسيرٍ أو توصيفٍ لهذا السؤال أو تلك المسألة أصعب من أي وقت مضى. و إذا كانت كل هذه الصعوبات والتحديات عادةً ما تُرى في العلوم النظرية الصرفة كالفيزياء و الكيمياء و الفلك، فلك أن تتخيل -عزيزي القارئ- مدى صعوبة الخوضِ في المواضيع الوجودية التقليدية عندما يتعلق الأمر بالإنسان نفسه، مع كل ما يتعلق به من اعتبارات وأبعاد وخفايا وأدلة جسدية ونفسية وروحية.

إن الأسئلة الكلاسيكية عندما تتعلق بالإنسان تصبح مثيرة للاهتمام حقا، فابن آدم ممتلئ عن آخره بما لا حصر له من الأسرار المكنونة. فالحياة والخلق والروح والحمل والولادة والدماغ البشري ونخاعنا الشوكي وحدقات أعيننا و حمضنا النووي كلها أمثلة على أسرار ما زال العلم الحديث يسبر أغوارها وهناك غيرها كثير. و من بينها جميعا، يحتل مفهوم الموت وما يأتي بعده مرتبة الصدارة بامتياز، وليس ذلك لقليلٍ من الأسباب. فالموت هو الحقيقة المطلقة الوحيدة في عالمنا الدنيوي المليء بالمرايا والدخان. يستحيل إنكاره ولا يمكن تجنبه أبدا. هذا بالإضافة إلى أن كل ما يتعلق بتلك اللحظات الأثيرية في حياة الانسان محير و غير مفهوم.

من أهم الأسئلة “الحديثة” المتعلقة باللحظات الأخيرة في حيان الإنسان هي تلك التي تُطرح عن “تجارب عتبة الموت” أو “الاقتراب من الموت”، والتي -كما يبدو من اسمها- تتحدث عن مرضى يتم اعتبارهم “أمواتا” لدقائق قد تطول او تقصر قبل ان يَكتُبَ الله لهم عمرا جديدا فيعودون الى عالمنا ليخبرونا عن بعض أكثر الشهادات و الرؤى غموضا و غرابةً، تاركين الأطباء لوحدهم ليحاولوا تفسير مجموعة من الأسئلة الصعبة حقاً. ما الذي نعنيه بالضبط عندما نقول ان شخصا قد مات؟ أهو موت الدماغ ام توقف التنفس و عضلة القلب؟ و ماذا لو كنا نملك من الأجهزة الطبية ما يضمن عمل القلب و الرئة حتى لو كان الضرر على الدماغ قد حصل، فمتى “يموت” المريض حينها؟ و إذا حصل و مات الدماغ، فهل يموتُ كله دفعةً واحدة؟ و بما اننا نستطيع فصل جسد الانسان عن وعيه الآن، فأين “يذهب” وعينا في هذه الحالات؟ و ما الذي يمنع حدوث هذا الانفصال في حالات عتبة الموت؟ و ما هو رأي العلم في ما يختبره المريض في تلك اللحظات العصيبة؟ أي بكلمات أخرى.. هل يمكن لإنسانٍ حقا ان يموت و لو مؤقتا، ثم يعود من العالم الاخر؟

واختلف العلماء.. وحاروا فيما اختلفوا

لا يعد الهوس بمحاولة فهم ما يحصل في نهاية حياتنا شيئا جديدا طبعا، فقد اجتمعت كل الحضارات و الأديان على محورية لحظة العبور من عالمنا هذا إلى ما بعده، حتى لو اختلفت الآراء بشدة بشأن ما يأتي بعد الموت. ولأننا شهدنا طفرة طبية مذهلة في القرنين الأخيرين، وصلت ذروتها مع دخول الألفية الجديدة، فكان طبيعيا أن يزيد متوسط الأعمار عالميا بشكل كبير حيث يبلغ حاليا (٧٣.٤) سنة. (١) إذا تغاضينا عن بضع سنوات إضافية عادة ما تصب لصالح بنات حواء. وكان طبيعيا أكثر أن يقضى الناس فترات أطول يصارعون الأمراض و هم معلقون بين الحياة و الموت، ونقصد هنا تلك الأيام الأخيرة المؤلمة في غرف العناية المركزة، حيث يوضع المرضى على أجهزة صناعيةٍ تستطيع تقريبا تعويض أغلب الوظائف الحيويةِ من التنفس و الجهاز الدوري ووظائف الكلى بالإضافة الى ما لا يُعَدُّ و لا يحصى من الأدوية و الأنابيب و أجهزة المراقبة.

وإذا اضفنا أيضا التقدم الملحوظ في تقنيات التخدير الكامل والإنعاش القلبي الرئوي، فإننا نصبح أمام معضلة أخلاقية -دينية- طبية بامتياز، حيث ان المجالات الطبية الآنف ذكرها، كلها تنطوي بشكل او بآخر، على الفصل بين جسد الانسان و وعيه او ادراكه. فإما ان يتم ذلك بشكل مدروس و تحت السيطرة لأسباب طبية حرجة (كالتخدير الكامل في غرف العمليات و العناية المركزة او ما يعرف اصطلاحا بالغيبوبة الصناعية) او انه يكون خارجا عن إرادتنا، كحالات الإنعاش القلبي الرئوي و الصدمات و الحوادث. و في كل الامِثلة الآنف ذكرها، تغيب تماما علامات الحياة عن المريض و ان كان لا يمكن رسميا اعتباره ميتا بعد، مما يؤخر التشخيص و العلاج (او الدفن)، مع ما قد يترتب على ذلك من تعقيدات كثيرة، فكان لابد من حل جذري.

يُعرِّفُ قاموس ميريام ويبستر الحياة على انها “حالة حيوية، يمكن توصيفها من خلال توافر عوامل معينة، ألا و هي القدرة على توليد الطاقة من عمليات الأيض، و النمو و الاستجابة المناسبة للمؤثرات الخارجية و التكاثر” (٢). بينما أخذ تعريف وكالة الفضاء الامريكية “ناسا” اتجاها أكثر تجردا و ثوريةً حيث نص على أن ” الحياة -على كوكب الأرض- هي نظام كيميائي حيوي مكتفٍ ذاتيا يمتلك القدرة على البقاء و التطور حسب النظرية الداروينية”

(٣). و كما لاحظت عزيزي القارئ، فإنه لا توجد جهة محددة (طبيةٍ او غير طبية) تملك تخويلا لتعريف الحياة، بل ان اتفاقاً على خصائص الحياة و مقوماتها و ما يجعلُ كائنا ما حياً دون آخرٍ يعتبر امرا صعبا بعيد المنال، فظهرت حالات خاصة مميزة ما زالت قيد البحث و الدراسة، فالفيروسات مثلا لا تعتبر من الكائنات الحية رغم قدرتها على التلاعب الجيني و احتلال الخلايا و التكاثر، بينما الشعب المرجانية مثلا و التي رغم جمودها الظاهر تعتبر من أهم الكائنات الحية تحت سطح الماء. و كما ان الخلاف عميق و ظاهرٌ حول ماهية الحياة و كنهها، فإن الوضع ليس بأفضل حالا عندما يتعلق الامر بالموت، بل ان الأمور في الواقع تتعقد كثيرا. فبعض المختصين ذهبوا الى ان الموت هو: ” عملية يتم فيها توقفٌ تامٌ و كاملٌ و نهائيٌ و لا يمكن عكسه في وظائف القلب و الجهاز التنفسي”.

(٤) و رغم ان التوصيف الآنف من القسوة و البرود بما يكفي، فإنه لا يغطي كل الاحتمالات الوارد في المستشفيات، حيث ان توقف وظائف الأعضاء الصدرية الرئيسية (القلب و الرئتان) اصبح امراً يمكن تداركه كما اسلفنا سابقا، فظهر في الشطر الغربي من العالم مصطلحٌ اشد صرامة هو “موت الدماغ” و الذي  تعرفه مؤسسات عريقة  كمستشفى “جونز هوبكنز” الأمريكي و ” المؤسسة الصحية الوطنية البريطانية” (NHS) على انه ” توقف تام و كامل في وظائف الدماغ الحيوية و يشمل ذلك وظائف جذع الدماغ، و يكون المريض الذي يعاني من حالة موت الدماغ ميتا رسميا، حيث انه لن يستيقظ ابدا و لا يمكن علاج الضرر الذي وقع على دماغه”

(٥)،(٦). و هكذا و بجرةِ قلمٍ من مجموعة من الرجال البيض الفانيين، تم رسم حدود واضحة لتعريف الموت في هذه المواقف الصعبة، فوُضعت مجموعة من الشروط الطبية الدقيقة التي يجب استيفائها قبل ان يتم تشخيص المريض بموت الدماغ، و تجنبا للتَقَعُّرِ في التفاصيل الطبية الفنية الجافة، فإن الشروط الآنف ذكرها يجب ان تُثبِت قطعا و دون ادني شكٍ ان المريض لا و لن يستطيع الاستيقاظ من غيبوبته ابداً و ان سبب الغيبوبة لا يمكن علاجه، و يجب أيضا اثبات ان المريض لا يستطيع الحركة و لا التنفس بمفرده دون مساعدةٍ من الأجهزة و ان بعضاً من أهم وظائف دماغه اللاإرادية ( كالتحكم في نبضات القلب و ضغط الدم و حرارة الجسد ) قد اختفت تماما بلا رجعة، تاركةً جسده المتعب قشرةً فارغةً بلا جهازٍ عصبيٍ يقودها لتستحيل الحياة و يتم إعلان وفاة المريض رسميا. و رغم كل هذه التفسيرات (و ربما بسببها بالذات)، إلا ان ذلك لا يعني ان القيام بما هو “صائب” في هذه الحالة – بغض النظر عن نسبية الكلمة هنا – قد أضحى أسهل على الروح او أهون على النفس، ففصل المريض عن الأجهزة الحيوية او ما بات يعرف ” بالسماح للمريض بالموت ” ما زال يُرى من قبل البعض (و هم أناس ليسوا بالقليلين و ليسوا بالجهلة ايضاً و ينتمون لثقافات و خلفيات و اديان مختلفة) على انه حكم رحيم بالإعدام، بل إن كثيراً من المناطق في العالم تتجنب سنَّ أي تشريعات في هذه المسائل الشائكة الشديدة الإزعاج.

تجارب عتَبةِ الموْت..

لو قُدِّرَ للعالم الكبير “ألبرت أينشتاين” ان يُبعثَ من مرقده في زمننا هذا ليرى أثر النظريات العظيمة التي قدَّمَها على حياة الناس، لأدرك فعلا انه لم يحصل على ما يستحق خلال حياته، لا من تكريم المعجبين و ثنائهم و لا حتى من لعنات الناقمين و شتائمهم. بل إن النظرية النسبية و التي كانت حتى الخمسينات و الستينات من الألفية المنصرمة تستعصي فهما و إدراكا إلا على اذكى و ألمع رجال العلم، قد أضحى تفسيرها و استيعابها سهلا يسيرا في أيامنا هذه، و ليس هذا مستغربا على جيل حديث من المراهقين دون الثامنة عشرة من العمر، يستطيع النجيب منهم ان يخترق أي جهاز حاسوب في العالم دون ان يغادر غرفة نومه. تكمن المشكلة هنا عندما ندرك ان المبدأ العلمي الخطير المدعو “بالنسبية” يمكن أن يطبَّقَ على تاريخ العلم ذاته. فكم من نظريةٍ آمن بها أرجح الرجال عقلا و أرقاهم فِكراً، ثم نكتشف زيفها وخطأها لاحقا فيهجرها الناس لتُراكِمَ الغبار في زوايا التاريخ المنسية. فكوكبنا الصغير المرهق هذا ليس مسطحا، و هو بالتأكيد ليس مركز الكون. أما ما يقع بعد المحيط الأطلسي فلم تكن شلالات عظيمة تُحطِّمُ السفن و تلقيها الى نهاية العالم، بل أرضٌ جديدةٌ و ساحرة لم تعرف البؤس و الدمار إلا عندما زارها الرجل “المتحضر”.

لم تعد الذرة أصغر جزء مكتملٍ مستقلٍ من المادة، بل ان ما كان يُعرف بكوكب بلوتو نفسه تم تجريده من لقب كوكب. نستطيع هنا ان نراقب نمطا واضحا من التجديد في العلم، وهذا شيء طبيعي و صحي و لو لم يكن بالضرورة مريحاً. ذلك انه وحتى هذه اللحظة، ما زال الاتفاق على ان الانسان يموت ويفنى، في حادثة او تحول يحصل مرةً واحدةً بين عالمين في اتجاه واحد فقط، و لكننا عندما ننظرُ الى شهادات المرضى الذين مروا بتجارب عتبة الموت، فإن سؤالا ملحا يتبادر للذهن عما اذا كان هذا التحول يحصلُ بسلاسة ويسر، ام ان الموضوع أكثر تعقيدا مما نتصور.

تُعرَّفُ تجارب عتبة الموت على أنها: “تجربة جسدية و ذهنية و نفسية شديدة القوة و التأثير، يمر بها المريض عادةً في مواقفٍ تكون فيها احتمالية الوفاة عالية جدا، و تتوافر بها خصائص معينةٌ متشابهة”، من بين هذه الخصائص ان المريض يكون واعيا لحقيقة انه على وشك الموت أو أنه قد “مات” فعلا، مع إحساسٍ بالانفصالِ عن الجسد و التحرر من قيود الجاذبية، حيث يروي كثيرٌ من المرضى انهم استطاعوا لبرهة ان يراقبوا افراد الطواقم الطبية و هم يحاولون انعاشهم. هناك أيضا بعض الخصائص الشهيرة مثل الإحساس بضوء ساطع في اخر نفق مظلم، و مرور شريط حياة المرء كاملة امام عينيه في لحظة خاطفة، بالإضافة الى إحساس عامٍ بالأمان و السلام الداخلي و عندما تنتهي التجربة، يدرك المريض انه قد حان الوقت لكي “يعود” الى جسده، دون أن يتضح ما اذا كان المريض نفسه قد قرر ذلك أو توهم أنه يمتلك مثل هذا القرار

(٧).و انتبه الباحثون منذ البداية الى ظاهرة مثيرة للاهتمام في شهادات المرضى، فبينما كان هناك اجماع على الخصائص الآنف متمثِّلةً في الأضواء و التجليات و مغادرة الجسد و ما شابه ، الا ان تفسيرات المرضى انفسهم لما مروا به اختلفت جذريا، و سبب ذلك واضح لا لبس فيه، فالعين لا ترى إلا ما يعرفه العقل و يصدقه القلب فتستكين له الروح، و مثل هذه التجارب العميقة والمعقدة تصطبغ بلا شكٍ بقناعات صاحبها و منظومته الروحية، أياً كانت و إن وُجدت من الأساس. وجد الاستنتاج الأخير هذا بما فيه من ربطٍ بين الدين و بعضٍ من العلم من يتحداه طبعاً، فأنكرت بعض الدراسات أي تدخل لمعتقدات المريض الدينية في تجربته اذا اقترب من الموت (٩). ذهبت الأبحاث الى أبعد من ذلك، فلم يرضَ اهل الاختصاص بإثبات وجود تجارب عتبة الموت كظاهرةٍ طبيةٍ تستحق الدراسة و التمحيص فقط، بل و تمادوا الى حد إثبات انها تحصل في حالات الأطفال أيضا

(١٠)، و ان كان هذا الادعاء الأخير طموحاً أكثر من اللازم، إلا انه قد يعني فيما يعني ان الخلفية الدينية تشكل جزءاً من صورة عصبية -سيكولوجية أكثر غريزية و عمقاً و تشابكاً مما كنا نتخيل. جدير بالذكر انه قد كانت هناك محاولات جادة نوعا ما لتقسيم تجارب عتبة الموت الى مراحل وأنواع مختلفة (١١)، فبعضها يتضمن احساسا واضحا بغادرة الجسد، و البعض الآخر يتضمن رؤية ضوء ساطع أبيض و نوع ثالثٌ سلبي و غير لطيف. رغم ما قد ينطوي عليه هذا الاتجاه من تسطيح خاصة إذا كان الحديث هنا عن تسطيح ظاهرةٍ لا نعرف عنها في الحقيقة الكثير.

في كل خليةٍ حيةٍ سرٌّ للحياةِ عظيم

لا يوجد توافق بين الأطباء على أي شيء يتعلق بتجارب عتبة الموت، لا من ناحية مسبباتها و لا معانيها، و لا حتى فيزيولوجيا حدوثها. تنوعت النظريات في محاولة تقديم تفسير منطقي و لو الى حد ما. أحد اهم النظريات المتجردة في توجُهِهَا تقترح ان الدماغ البشري إذا تعرض لمستويات منخفضة للغاية من غاز الأوكسجين و التي لا تتناسب مع استمرارية الحياة فإنه يبدأ بالتصرف بطريقة غريبة لم نعتدها. فالدماغ هنا “يختنق” حرفيا و يدرك أن الموت قد أصبح احتمالية واردة، فلكأنه يشهق شهقته الأخيرة، محاولاً بكل قوته استخلاص اعلى كمية ممكنةٍ من الأوكسجين المذاب في الدم في محاولةٍ أخيرةٍ يائسةٍ هدفها التعلق بآخر فرصة للنجاة. و لأن الدماغ يمتلك قدرات كامنةً ما زالنا لا نفهمها، فإن اعراض تجارب عتبة الموت لا تعتبر امرا غير معقولٍ في هذا السياق، سواء كانت الهلوسات البصرية و السمعية . أما عالم الفيزيولوجيا العصبية الأمريكي ارنست رودين، فقد اقترح ان اعراض تجارب عتبة الموت هي ببساطةٍ تجليات لحالة الذهان الأخيرة التي يمر بها الدماغ قبل الموت، بكل قوتها و حدتها، و التي من الممكن ان يختبرها المريض لحظاته الأخيرة

(١٢). هناك فكرة أخرى نظّر لها رودن أيضا في ورقةٍ أخرى بعدها بعشر سنوات تقترح ان النشاط الزائد لبعض فصوص الدماغ كالفص الصدغي (Temporal lobe) المسؤول عادةً عن الهلوسات السمعية و البصرية و الفص القذالي  (Occipital  lobe) الذي يُعتقد بمسؤوليته عن ما يراه بعض  المرضى في تجاربهم الفريدة بمحاذاة العالم الآخر، نقول هنا ان النشاط المستفيض لهذه الفصوص الدماغية و التي بالكاد نعرف عنها أي شيء قد يكون مسؤولاً و لو جزئيا عن بعض الاعراض التي تطرقنا لها آنفا

(١٣). اما أضعف هذه النظريات فهي التي تقترح ان العقاقير المستخدمة في انعاش المرضى قد تتسبب بهلوسات يظن معها المرضى انهم ذهبوا و عادوا الى ما بعد الموت، و هذا ادعاء ركيك في افضل الأحوال، و لأسباب عديدة أهمها ان عملية الإنعاش القلبي الرئوي تتم بقوانين و قواعد محددةٍ في العالم أجمع، و هذه القوانين تحدد أيضا العقاقير المستخدمة و أهمها ” الادرينالين ” و الذي يستخدم بجرعات عالية لمحاولة رفع ضغط الدم في جسد المريض المنهار، و هناك أيضا عقارات مختصة في محاولة انعاش القلب و رفع نبضاته مثل اللايدوكين Lidocaine)) او الأمايدرون ((Amiodarone و رغم تعقيد هذه العقاقير و كثرة استخداماتها و مضاعفاتها إلا انه لا يُعرف عنها التسبب بأي اعراض نفسية او ذهنية ( حتى وقتنا هذا على الأقل )، ناهيك عن تسببها بأعراض قوية و شديدة كتجارب عتبة الموت. هناك بعض العقاقير المخدرة معروفة بتأثيراتها الذهنية المزعجة، و هذا طبعا جزء من كونها مواد كيميائية صنعت خصيصا لغرض تغييب الوعي عند الحاجة للتخدير، مثل الكيتامين Ketamine)او الميدازولام Midazolam)) ، الا انها لا تصنف ضمن ” عقاقير الإنعاش” التي تستخدم خصيصا لإنعاش ضحايا توقف وظائف القلب و الرئة.

“قُل الرُّوحُ من أمْرِ رَبِّي”

اذن و كما نرى بوضوح، فإن الحدود الفاصلة بين الحياة و الموت في تلك الدقائق القليلة التي تفصل بينهما تكون هلاميةً و متداخلةً للغاية، فلكأن المريض يتأرجح بين عالمين دون ان يحسم امره بعد. فلا مفر من الإقرار كما أسلفنا بأن عملية الموت او العبور من عالم الى آخر ليست خطوة واحدةً حاسمة مثلما يتبادر للذهن، بل لعلها خطوات عديدة وجب استيفاؤها، و وظائف عديدةٌ وَجَبَ توقفها، لفترة زمنية كافية وافية، حتى اذا حدثت جميعا توفي المريض في تلك اللحظة و اعتُبِرَ ميتا إلا فانه يظل متعلقا بالحياة الى آخر رمق،  و ذلك من سنن الله و رحمته، فظل الموت يظل واحدا و ضده ألوان الحياة كثيرة. و قد يكون هذا الاتجاه المركب هو ما يمكن ان يُفسِّر ظاهرة عتبة الموت جزئيا، فالمرضى الذين ” عادوا ” من براثن الموت هم في الحقيقة لم يفارقوا الحياة أصلا، لانهم لم يستوفوا ” الشروط” المطلوبة لتشخيصهم رسميا بانهم أموات.

فهذا رجلٌ سبعيني ينهار في الشارع بسبب ألمٍ شديد في صدره، و يفقد الوعي من شدة الاعياء و نقص الاوكسجين بينما تبدا عضلة قلبه في الذبول، و لكن جهود المسعفين و طواقم الطوارئ تنقذه من الموت، فيتم الحفاظ على دماغه عن طريق توفير الاكسجين اللازم و يتم انقاذ القلب عن طريق علاج السكتة التي اصابته، و تتم حماية أعضائِه عن طريق تقنيات التبريد الطبية المتقدمة، و رغم انه لا يمكن عكس بعض الاضرار التي وقعت على الجسد، الا انه تم تجنب أسوأ الاحتمالات في المجمل. فمتطلبات الموت الكثيرة و المعقَّدة لم تتحقق. الا ان هذا لا يعني ان ظواهر عتبة الموت أصبحت سهلة واضحة، فما تم تفسيره هو النزر المادي اليسير و يبقى لغزٌ قديم ٌ بلا اجابة. فصديقنا هذا قد يتعافى من السكتة القلبية التي ألمَّت به، و قد يجلس في سريره في المستشفى ليحكي لأبنائه و احفاده عن معركته مع الموت، و كيف رأى اناساً و سَمِعَ أصواتاً، بل و لعله يتذكر تفاصيل و أسماء اطبائه و ممرضيه الذين انقذوا حياته. فإن سلمنا بالشق المادي من المعادلة، فإن ما يحدث لوعي الانسان هو ما يحير فعلا. أين يذهب إدراك الانسان و وجدانه عندما يكون على وشك الموت؟ فلا يمكن القول انه قد عبر الى العالم الآخر لأنه عمليا لم يمُت بعد، و لا يمكن أيضا الادعاء بأنه متواجد معنا في عالمنا لأن المريض فاقد للوعي بشكل واضح و لا يمكن التواصل معه لفظيا او حركيا، و هو بالطبع ليس نائما لان واحدةً من صفات النوم الأساسية هي إمكانية ايقاظ النائم. قد نجد الإجابة عن هذا التساؤل بعيدا عن ردهات المستشفيات.

في العام ١٩٩٥ ميلادية، احتفل الأمريكيان “كلايد كواين” و “فريدريك رينس” بفوزهما بجائزة نوبل للفيزياء نظير اكتشافهما الثوري لوجود مجسمات صغيرة للغاية و محايدةٍ كهربائياً سُمِّيت “النيوترينو” (١٤). فهذه الجزيئات المتناهية الصِغَر، تعتبر أكثر صور المادة المحسوسة شيوعا في الكون، و هي بكتلتها التي لا تكاد تقاس، و لأنها غير مشحونةٍ كهربائيا، تكاد تكون لا مرئية تماما، فسميت “بجزيئات الأشباح”. تعبر أي جسم او وسطٍ بأعدادٍ هائلة جدا و دون أي تغيير يذكر عليها او على الجسم الذي مرت من خلاله، و بسرعة تقترب من سرعة الضوء، و لولا ان التجارب العملية أثبتت وجود هذه الأشباح الصغيرة، لكان من الصعب تصديق هذه النظرية.

ولو وضعنا جانبا أهمية مثل هذا الفتح العلمي الهائل، فإن مجرد اثبات حقيقة وجود مجسماتٍ كالنيوترينوز لوحدها و في حد ذاتها تثبت الكثير. فهذه المجسمات (و ربما غيرها من المجسمات دون الذرية التي لا نعرفها) توجد في عالمها الخاص و تتصرف وفقا لقوانينها و سننها المميزة و المتباينة عن قوانين عالمنا المحسوس. فمن المحتمل ان وجود مجسمات النيوترينو يعتبر دليلا إضافيا و محسوساً على إمكانية وجود أشكال معينةٍ من الطاقة او المادة او ما قد يشبههما في أماكن او أبعاد اضافيةٍ و متوازية، قد تتصرف فيها المادة او الطاقة بشكل مختلف و مغاير لما تعودنا عليه، و أحد هذه “الأماكن” قد يكون موقع وجود “وعي” الانسان او ” ادراكه” او “روحه”.

نستطيع التسليم بأن صلة الانسان بالعالم اللامادي تكمن في دماغه، فالأفكار و الأحلام و العقل الباطن كلها تجليات ذهنية غير ملموسة و لا محسوسة، و لا يمكن لمادة الجسد المجردة ان تتجها او تتعامل معها، فهي مقصورةً حصراً على الدماغ، فلربما اذاً كانت تجارب عتبة الموت احدى نتائج وجود وعينا و افكارنا في أثيرٍ آخر لا نعرفه، صلتنا به تكمن في الدماغ الذي يربط – في الظروف الاعتيادية –  بين ما هو مادي و ما هو معنوي في اجسادنا بهدوء و تناغم، حتى اذا أضِفنا الى هذه المعادلة الدقيقة صدمة عنيفة او حالةً طبية طارئة اضطرب النظام و اختل التوازن، و هنا يتصرف الدماغ بتلقائيةٍ من طرف واحد، في وسطٍ غريب علينا لا نملك ادراكه، و لا نعرف الضبط ما هي ردة الفعل ” المتوقعة ” في هذه الحالة. لعل تجليات عتبة الموت تكون أي شيء مما ذكرنا سابقا، او لعلها خليط منها جميعا، فتجتمع الهلوسات و التفاعلات الكيميائية و نقص الاوكسجين لتندمج في لحظة واحدة، و لا يمنع كل ذلك وجود جانب روحي لا مادي يلعب دورا في هذه التجليات.

أهو ضوءٌ في آخر النفق؟

إن تحقيق فهمٍ بسيط و واضح لطريقة تصرف الدماغ تحت ظروف لا تتوافق مع الحياة يكشف لنا الكثير عن طريقة عمل نظامنا العصبي و تداخلاته المعقدة مع الوعي. احدى هاته النقاط التي سببت صداعا للأطباء و ما زالت هي تأثيرات نقص الأوكسجين على قدرات الدماغ العليا و التي تظلُّ غير واضحةٍ تماما، فالمنطق الطبي ينص على ان نقص الاوكسجين يفترض به ان يؤدي الى هبوطٍ في وظائف الجهاز العصبي المعروف بشراهته العالية لاستهلاك الاوكسجين و عدم قدرته على استخدام بدائل أيضية أخرى لفترة تتعدى الخمسة دقائق كحد اقصى. كيف اذً يمكن لمرضى عتبة الموت ان يتمتعوا بقدرات قوية لا تُظهِرُ أي ضعف او تراجع، رغم ان مستويات الأوكسجين المتوافرة لأدمغتهم تعتبر منخفضة جدا؟ فإما ان هناك نقصا في فهمنا لطريقة عمل خلايانا العصبية او اننا ما زلنا لا نعرف ما نظن اننا نعرفه عن هذا الإكسير المسمى بالأوكسجين، والأغلب إن كلا الظنين صحيح الى حد ما.

أما إذا سلمنا جدلا بأن تجارب عتبة الموت هي حالة فزعٍ و ذُهانٍ اخيرةٍ للدماغ قبل أن يقضي الله أمره، و أن مهمتها الأساسية هي مساعدة المريض على الموت، فهل من الممكن في هذه الحالة استنساخ هذه الرؤى طبياً لمساعدة المرضى المصابين بأمراض قاسية مستعصية وصلت لمراحلها الأخيرة لتخفيف آلامهم و مساعدتهم على العبور الى الجانب الآخر بأقل قدر ممكن من المعاناة؟ و اذا كانت ادمغتنا تعمل فعلا كنقطة وصل بين عالمنا المحسوس هذا و نطاقات أخرى لا نعرفها، فإن ذلك يمكن ان يكون مفيدا في علاج الامراض النفسية و الألم المزمن، بل انها فكرةٌ تحول الدماغ البشري الى سلاح فتاك لا نعرف في الحقيقة مدى خطورته، فنحن ما زلنا لا نعرف اكثر من خمسة بالمائة عن ادمغتنا حسب اكثر التقديرات تفاؤلاً.

تملك تجليات عتبة الموت القدرة على تغيير نظرة العاملين في القطاع الصحي لأسوأ كارثة يمكن ان يتخيلوها، ألا وهي وفاة المريض، إذ يبدو ان الدماغ البشري يملك ما يشبه “نظام طوارئ” يتم تفعيله فور استشعار احتمالية الموت، فإما أن ينجح هذا النظام في إنقاذ المريض (عن طريق محاولة انقاذ الدماغ) وإلا فإنه يسهل عملية الوفاة و الانتقال الى مرحلةٍ مختلفةٍ تماما، وربما يجب علينا تقبل ذلك في بعض الأحيان، إذ لا يجب النظر الى كل حالة وفاة لمريض داخل المستشفى على انها فشلٌ في التشخيص او العلاج، ففي بعض الأحيان، يعتبر الموت هو النهاية الطبيعية للأمور، ولعل تجارب عتبة الموت تساعدنا على التصالح مع هذا الواقع.

سيظل الموت دوما محاطا بهالة من القُدْسِيَّةِ و الهيْبَة تمنع تبسيطه وتمحيصه، ولا يعني هذا ان اهل العلم لا يتحملون بعض المسؤولية عن ذلك. اما أولئك الباحثون عن الإجابات في ردهات الجامعات و المختبرات الطبية الفاخرة، فلا يسع المرء الا ان يتمنى لهم حظا موفقا و يذكرهم بأن الحقيقة المطلقة هي ما يراه المريض و هو على بعد لحظة من الموت، و قد توقف قلبه و انهار جسده و اسلم روحه لمصيرها المحتوم، و لا يملك العلماء غير احترام تلك الرؤى و تقبلها، لأنهم في الحقيقة لا يملكون أي تفسيرٍ آخر.

المراجع

  1. int. 2021. Global Health Estimates: Life expectancy and leading causes of death and disability. [online] Available at: <https://www.who.int/data/gho/data/themes/mortality-and-global-health-estimates> [Accessed 25 October 2021].
  2. com. 2021. life. [online] Available at: <https://medical-dictionary.thefreedictionary.com/life> [Accessed 25 October 2021].
  3.  Voytek, Mary a. (6 March 2021). “About Life Detection”NASAArchived from the original on 18 March 2021. Retrieved 8 March 2021.
  4. dictionary.com. 2021. Definition of death | Dictionary.com. [online] Available at: <https://www.dictionary.com/browse/death> [Accessed 27 October 2021].
  5. org. 2021. The Challenges of Defining and Diagnosing Brain Death. [online] Available at: <https://www.hopkinsmedicine.org/news/articles/the-challenges-of-defining-and-diagnosing-brain-death> [Accessed 1 December 2021].
  6. uk. 2021. Brain death. [online] Available at: <https://www.nhs.uk/conditions/brain-death/> [Accessed 1 December 2021].
  7. Sleutjes, A., Moreira-Almeida, A., & Greyson, B. (1970, January 1). [PDF] almost 40 years investigating near-death experiences: An overview of mainstream scientific journals: Semantic scholar. undefined. Retrieved December 29, 2021, from https://www.semanticscholar.org/paper/Almost-40-Years-Investigating-Near-Death-An-of-Sleutjes-Moreira-Almeida/fbc52625d9f07a88a5a9874e681341c7508a3371
  8. Shushan, Gregory. (2011). Conceptions of the Afterlife in Early Civilizations: Universalism, Constructivism and Near-Death Experience.
  9. HN;, McLaughlin SA;Malony. “Near-Death Experiences and Religion: A Further Investigation.” Journal of Religion and Health, U.S. National Library of Medicine, https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/24307003/.
  10. Morse M;Castillo P;Venecia D;Milstein J;Tyler DC; (n.d.). Childhood near-death experiences. American journal of diseases of children (1960). Retrieved January 15, 2022, from https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/3020964/
  11. Lowe, J. (2017, July 27). What happens when you die? scientists attempt to find out how similar near-death experiences really are. Newsweek. Retrieved January 27, 2022, from https://www.newsweek.com/near-death-experiences-what-happens-when-you-die-643032
  12. Neurology, D. of. (n.d.). The reality of death experiences: A personal perspective : The Journal of nervous and mental disease. LWW. Retrieved November 10, 2022, from https://journals.lww.com/jonmd/Abstract/1980/05000/The_Reality_of_Death_Experiences__A_Personal.1.aspx
  13. Comments on “A neurobiological model for near-death experiences& X201D; (n.d.). Retrieved November 10, 2022, from https://www.newdualism.org/nde-papers/Rodin/Rodin-Journal%20of%20Near-Death%20Studies_1989-7-255-259.pdf
  14. The nobel prize in physics 1995. NobelPrize.org. (n.d.). Retrieved November 10, 2022, from https://www.nobelprize.org/prizes/physics/1995/reines/facts/

بقلم: محمد حسين

 

أضف تعليقك هنا