قراءة نقدية في كتاب (معجم الملابس والزينة في منطقة عسير) للأستاذ/ محمد بن أحمد معبر.

ترتبط الملابس والزينة بالعناصر الثقافية للمجتمعات والشعوب، فأول ما يطل عليك هو الملابس والزينة، بل هي في ارتباطها بالثقافة تسبق اللغة والآداب و العادات والتقاليد والسلوك، كونها أول ما يطل عليك من الثقافة، وكونك تعرف المجتمع وتنسب أصحابه إليه من مشاهدتك ملابسه وزينته، ولكن الملابس والزينة ــ على تلك الأهمية الثقافية ــ هي أول ما يقع فيه التغير الثقافي، ففي قائمة كل التغيرات الثقافية تجد تغير الملابس والزينة أول عناصر هذه القائمة.

وقبل أن يحدث التغير الكامل في عناصر الملابس والزينة، فإن ثمة تطور يصيب الملابس والزينة في فترات متعددة، فيكون لكل عصر ملابسه وزينته تبعًا للتقدم الاجتماعي والاقتصادي في هذا المجتمع أو ذاك، والحقيقة أن العرب القدماء لم يفردوا مصنفات خاصة توثق ملابسهم وزينتهم، وإنما تعرفنا إليها من المصادر العامة، واللغوية والأدبية منها بخاصة، لذلك كانت دواوين الشعر  ومعاجم اللغة من أهم المصادر التي نعود إليها في مثل هذه البحوث والدراسات.

وعلى النهج نفسه سار كاتبنا ابن معبِّرِ في تأليف كتابه الفذ (معجم الملابس والزينة في منطقة عسير) إذ توسل باللغة إلى التوثيق، وتوسل بالجمع إلى التحقيق، وحفظ تراث عسير وثقافتها فيما يمكن أن نسميه (كبسولات) لغوية، يتغير الزمان حولها، بينما تبقى مادته محفوظة في سلامة بين كتبه ومصنفاته.

لقد أدرك محمد بن معبِّرِ ما يصيب المجتمعات من تطور، وأن هذا التطور هو في حقيقته تغير، ووعى ما طرأ على عسير من عناصر ثقافية واجتماعية واقتصادية شاهدها بنفسه تستطيع أن تغير وجه الحياة في عسير، فرأى أن يلاحق هذا التغير بأعمال تجمع وتحقق، بل توثق وتدقق أيضًا، فجعل من منطقة عسير الميدان، و اختار قرنًا من الزمان، واتخذ إجراءات منهجية لجمع مادته، وضبطها، ثم شرحها وتأصيلها.

 مقدمة الكتاب

 تعد مقدمة الكتاب طويلة نسبيًا بالقياس إلى ما اعتدنا عليه من مقدمات ابن معبِّرِ التي يكثر أن تكون في صفحتين أو ثلاث صفحات، بينما هي في كتاب(معجم الملابس والزينة) تصل إلى ثماني صفحات وثق فيها آراءه ودعمها بمصادرها ومراجعها، فباتت مقدمته بحثًا تمهيديًا موجزًا يمهد لدراسته التالية.

عرض ابن معبِّرِ في مقدمته تطور صناعة الملابس منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث في الفترة التي شهدها بنفسها، مرورًا بعصور الحضارة الإسلامية، ثم تحدثه عن منهجه ومصادره في تأليف هذا الكتاب، وكذلك أشار إلى أهدافه، ثم اختتم المقدمة بدعوة النقاد إلى قراءة نقدية لكتابه بالتعليق أو الإضافة أو النقد.

موضوع الدراسة

 إنَّ موضوع هذه الدراسة هو الألفاظ والمصطلحات الدالة على الملابس والزينة في منطقة عسير، مع شرح لهذه الألفاظ وتأصيل لها، لذلك فإن الفضاء المعرفي لهذه الألفاظ يتسع لملابس الرجال وزينتهم وملابس النساء وزينتهن، وملابس الأطفال، والعمال والزراع والصناع وغيرهم مما هو في منطقة عسير، وسواء في ذلك الملابس المستحدثة التي شاهدها الكاتب أو الملابس التراثية، مع شرح لها ومكوناتها ووظيفتها، وبيان أصولها، لذلك فإنه من المتوقع أن يتمثل الموضوع في حجم كبير من الصفحات، وهو ما تأكد بالفعل من ظهور الدراسة في ثلاثة مجلدات.

 

وليست المعجمية والألفاظ إلا الإطار الشكلي الذي اختار المؤلف أن يعرض من خلاله الموضوع تنسيقًا لغويًا، كما أنه عرض الموضوع بشكل تاريخي يتوقف عند مرحلة زمنية هي القرن الأخير، ويتناول ميدانًا جغرافيا خاصًا هو منطقة عسير.

منهج الدراسة

اعتمد المؤلف في هذا الكتاب مجموعة من الآليات المنهجية، أولها التأريخ، فقد كان مشغولا طوال كتابه بتأصيل الملابس والزينة، منذ أقدم العهود التي أتيح له دراستها، كما عني المؤلف البحث المعجمي الذي قدم من خلاله المادة العلمية بشكل منظم وسليم، ثم آلية المقارنة التي تفرعت عند المؤلف إلى مقارنات متعددة، منها مقارنة بين المناطق، أو مقارنة بين الشعوب، وهذه الآليات الثلاثة كانت نافذة المؤلف في صياغة هذه الدراسة المعجمية الرائدة، إذ لم يقدم الكاتب لنا مجرد معجم، بل قدم معجمًا وموضوعًا ومنهجًا ودراسة تأصيلية مقارنة، ما يعني أن سلط الأضواء المنهجية كلها على موضوع الملابس والزينة، فأسهم كتابه بذلك في عمليات التحليل الثقافي للمنطقة الجغرافية عسير، وأضاف إليها كتابًا جديدًا.

وتستحق آلية التأصيل أن نتوقف عندها كثيرًا، إذ يتضح أن الكاتب انشغل بها كثيرًا، تأريخًا وتوثيقا وتفسيرًا وتحليلا، فلم يترك للتأصيل سبيلأ إلا سلكه، ولم يترك للفهم والدراسة نافذة إلا أطل منها على موضوع دراسته، فابن معبِّرِ يطل من نوافذ اللغة والأدب جميعها عند عرض مادته المعجمية، حتى أوشك كتابه أن يكون صورة مستحدثة عصرية من كتبنا في التراث العربي، يصول فيها المؤلف ويجول من وحي لفظةٍ في فضاءات اللغة والتاريخ والأدب، وغيرها من العلوم.

أهمية الكتاب

حيث إنَّ الملابس والزينة مجال معرفي تتقاسمه عدة مجالات علمية، فإنَّ الكتاب يقدم مادة علمية وفق منهج محكم إلى كثيرٍ من المجالات، فالمهتمون بالزينة والتجميل، يجدون في الكتاب مادة ثرية جديرة بالبحث، والمهتمون بالديكورات و الصناعات النسيجية يجدون في الكتاب عطاءً ينهلون منه، والمهتمون بالتاريخ والتطور الاجتماعي يجدون في الكتاب فحصًا وتحليلا للتطور التاريخي للملابس والزينة في عسير، أما المهتمون بالأنثروبولوجيا فسيجدون مادة ثقافية عن ثقافة الإنسان وتطورها في منطقة عسير.

وعلى الرغم من هذه الأهمية العلمية لكتاب معجم الزينة الملابس في منطقة عسير إلا أن الكتاب على مستوى القارئ العادي يقدم له خلاصة سنوات في دراسة الملابس التي يراها، وطرق الزينة التي يعيش بينها، فيشرح له الكتاب تاريخها وحقيقتها تأصيلا وتحليلا.

نماذج من الكتاب

اللَّبَّة: قلادة للنساء من الفضة، تعلق في الرقبة وتتدلى على الصدر، وتكون ذات شكل  مربع أو مستطيل، مزينة بقطع اسطوانية من الفضة، ويرضع بعضها بالفصوص الملونة، وهي لفظة في سبيلها للانقراض، ” وكانت اللبة تصاغ من الفضة،و تلبس حليًا للنساء في جنوب المملكة، وفي اليمن، وهي كثيرة الانتشار في تلك البلاد، ولم تكن من حلي نساء المناطق الأخرى(سعد الجنيدل: الحلي والزينة صــ 269) واللبة: وسط الصدر  والمنحر، والجمع لبات ولبابـ واللبب كاللَّبَّة: وهو موضع القلادة من الصدر من كل شيء( لسان العرب: مادة لبب).

واللَّبَّة: بتشديد اللام وفتحها، وهي عبارة عن عقود  من اللؤلؤ كبيرة تفصل بينها خرزات كبيرة من الضفار أو قطع كبيرة مستديرة من الذهب، وهذه اللبة كبيرة الحجم بحيث تملأ الصدر بعد إحاطتها بالعنق، وهذه اللبة لا تستعمل إلا في الأعراس(محمد علي مغربي: ملامح الحياة الاجتماعية في الحجازصـ 114) وتستخدم اللبة بمعنى القلادة(قانون صنعاء: صــ 243) وتستخدم بمعنى موضع القلادة في العنق (المعجم الوسيط: ج2 صــ 818) ويقول عبدالله بن رواحة (ديوانه: صــ 118)

تُزَيِّنُ معقد اللباتِ منها            شنوف من القلائد والفريدا

وقد يفيض ابن معبِّرِ في التأصيل فيعرض المادة اللغوية الواحدة في قرابة عشر صفحات، مثل مادة (مشلح) في صـ 1328 من المجلد الثالث، فيق عند هذه اللفظة في مصر والعراق والجزيرة العربية واليمن، بل ينتقل إلى أصلها الفارسي فيقول: والمشلح البشت، وأصله في الفارسية بشت دار، أي حافظ الظهر، وهو لباس صوف غليظ يلبس فوق سائر الألبسة، ذو كمين قصيرين، يمتد إلى ما تحت الركبتين بقليل، يلبسه الفلاحون والحمالون وأمثالهم، وعربيته: المدرعة (جلال الدين الحنفي: معجم اللغة العامية البغدادية، ج2صــ 85     )

وقد يهتم ابن معبِّرِ بشرح الأصل العربي والأجنبي للكلمة كما في عرضه لمادة (شُرَّاب) في المجلد الثاني صــ 700 إذ يقول: شُرَّاب: لباس القدم للرجال والنساء، من الصوف أو القطن أو النايلون، ومن المؤكد أنه استعمل في منطقة عسير قبل سنة 1380هـ  ويقال له في نطاق ضيق (الجورب) وفي معجم الالفاظ التاريخية(الشرب: هو نسيج لطيف رقيق، منه الإشارب أو الشُّراب) (دهمان: معجم الالفاظ التاريخية: صــ 97)  وكلمة شُرَّاب مأخوذة من اللغة التركية تشوراب:Qorap وقد حرفت قليلا، فهم يقولونها بالتاء، وفي مكة يقولونها بدونها( عامية مكة: فتحية عطار) وفي الفارسية مركبة من كور: أي قبر، وبا: أي قدم، ثم يؤصل ابن معبِّرِ هذه الكلمة من الشعر العربي فيروي عن ابن الشمقمق قوله:

ولقد قلت حين أقفر بيتي        من جراب الدقيق والفخَّارة

ثم ينتقل ابن معبِّرِ إلى تأصيل الجورب على مستوى الصناعة، فيقول: ظهرت الجوارب النايلون بوساطة فريق من الباحثين في شركة(ديبون الأمريكية) بقيادة الدكتور كاروثرز وقد أحدثت هذه الصناعة تحولا خطيرا في سوق الجوارب، ولم تظهر الجوارب النايلون في أوربا إلا في عام 1945م

تفسير ما ذكرته المعاجم العربية عن تفسير الجورب

ويسعى ابن معبِّرِ سعيًا حثيثًا إلى تفسير ما ذكرته المعاجم العربية عن تفسير الجورب بأنه لفافة الرجل، ويعثر في سبيل بحثه عن دلالة (لفافة الرجل) على نص ذكره الرحالة نيبور في كتابه(رحلة إلى البلاد العربية) ويرى ابن معبِّرِ أن هذا النص بوسعه أن يلقي ضوءًا  أو بعض الضوء على هذا التفسير، حيث يقول الرحالة: (إن الشرقيين يلفون أقدامهم وسيقانهم بخرق صوفية كبيرة، وفوق هذه اللفافات يلبسون خفافهم الواسعة) ثم يبحث ابن معبِّرِ عما ذكره الرحالة العرب في هذا الصدد، فيتوقف عند كلام ابن بطوطة الذي قال: (إنَّ المسلمين يرتدون الجوارب حين طوافهم حول الكعبة لحماية أقدامهم من الحرارة اللاهبة(دوزي: المعجم المفصل بأسماء الملابس عند العرب،صــ 25)

مصادر الدراسة

 بالقياس إلى عدد المواد اللغوية في كتاب معجم الملابس والزينة، وعددها كبير استغرق ثلاثة مجلدات، والفترة الزمنية الكبيرة التي تناولتها الدراسة حيث تصل إلى قرن كامل من تاريخ منطقة عسير، وبالنظر أيضًا إلى عمليات التأصيل والمقارنة التي أجراها المؤلف ابن معبِّرِ على مواده اللغوية، فإنه من المتوقع أن يعود المؤلف إلى عدد كبير من المصادر والمراجع، وهو ما اتضح جليًا في ثبت المصادر والمراجع في نهاية المجلد الثالث، إذ تبين عودة المؤلف إلى 703 من المصادر والمراجع، استغرق تدوينها 120 صفحة وهو عدد كبير يظهر حجم المشقة والجهد المبذول من المؤلف كما يبرز في الوقت ذاته جديته في الكتابة عن موضوع الزينة والملابس في منطقة عسير.

وعلى الرغم من هذا الفضاء المعرفي المتسع أمام الكاتب كما تبين في مصادره ومراجعه، إلا أن بعض المواد توقف أمامها ابن معبِّرِ ليقول رأيه في مسألة أصلها، ففي مادة(وغبة) صــ 1512يقول: الوغب: الناعمُ والليِّنُ في الملابس والأثاث، والوغبة: الشعر الناعم، والقماش اللين في الملابس مما يلي جسم الإنسان، لم أجد لها أصلا بالمعنى المراد هنا، إلا إذا كانوا ينظرون إلى هذا اللين بمعنى الضعف والرقة، ففي اللسان (الوغب: الضعيف في بدنه).

هل أحسن المؤلف اختيار موضوعه؟

لقد أحسن المؤلف اختيار موضوعه، فجسَّد ثقافة عسير في دراسة لغوية محكمة، تمتاز بخصوصية الموضوع وخصوصية المنهج، برز فيها جهده واجتهاده، أما عن الأسلوب، فلقد سيطر الإيجاز والوضوح التام على أسلوب ابن معبِّرِ في هذا الكتاب على الرغم من أن كل العناصر المحددة لموضوع الكتاب تدعوه للإطناب، ولعل هذه خصيصة أسلوبية لكل الدراسات اللغوية والمعجمية منها بخاصة، ولا أظن ابن معبِّرِ قصد من ذلك إلا تلخيص المعنى وتوضيح المراد للقارئ، فهو يوجز في شرحه بأقل الألفاظ ويؤصل بأقل الألفاظ، بل ويقارن بأقل الألفاظ أيضًا.

لغة الكتاب

وقد اعتمد الكاتب على اللغة اعتماد كاملا، فاللغة مادة معجمه، واللغة وسيلته إلى شرح هذه المواد اللغوية، لقد شرح اللغة باللغة، متخذًا من الزينة والملابس موضوعًا، لذلك كنت أستحسن لو استخدم الكاتب الشرح والتوضيح عن طريق استخدام الصور الفوتوغرافية توضيحًا لمعجمه، وبخاصة في وصف الملابس وأدوات الزينة القديمة مما هو غير متاح في مشاهدة المعاصرين في زماننا، لذلك كان وجود الصور التوضيحية شيئًا مهمًا في هذا العمل التوثيقي، وبخاصة للأجيال القادمة.

وكذلك لم يعبأ الكتاب بالخصوصيات الجغرافية لكافة مناطق عسير، فكنت أود أن يوضح الكاتب خصوصية معينة لإحدى مناطق عسير في الملابس والزينة، كأن يبين لنا انتشار نوع من الملابس في منطقة بعينة من مناطق عسير، ولكن يبدو أن الكاتب لم يتوقف عند هذه الناحية، واكتفى بالنظر إلى كافة مناطق عسير على الإجمال دون حاجة إلى التخصيص.

فيديو مقال قراءة نقدية في كتاب (معجم الملابس والزينة في منطقة عسير) للأستاذ/ محمد بن أحمد معبر.

 

أضف تعليقك هنا