الشعر العربي شاهدٌ على الثقافة الإنسانية

بقلم: عبدالرحمن فالح البلوي

مكارم الأخلاق في الشعر العربي

إن كانت اللغة العربية وعاءً حضاريًا وثقافيًا، فإنَّ الشعر العربي مادتُها الأساسيةُ التي استقَتْ مِنهُ الأُممُ الأخرى، فكان أثرهُ جليًا في آدابهم، وثقافتهم؛ مما يدل على أنهُ ذو أثرٍ عظيم لما احتوى عليه مِن آدابٍ، وقيمٍ، وتقاليدٍ، ومكارمَ سمتْ بالعربِ سموًا فكريًا وأخلاقيًا جعلت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يراه وسيلةً للتعلم حينما قال: “تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ”.

فالشعر «ديوان العرب» وعلمهم الذي لم يكن لهم علمٌ أصحُ منه؛ وهو الشاهد على الثقافة الإنسانية المُتجلية في «مكارم الأخلاق» التي عُرِفَ بِها العرب منذُ العصر الجاهلي، حيثُ يُروىَ أنَّ النعمان بن المنذر قال في وصف العرب بأنهم: (أشرف الناس حسبًا وأصرحهم نسبًا وأصدقهم وعدًا وأوفاهم عهدًا)؛ وكان وصفهُ مصداقًا لما جاء عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «إنما بُعِثْتُ لأُتَّمِمَ مكارمَ الأخْلاقِ»؛ والشعرُ الذي بين أيدينا شاهدٌ على ذلك؛ فهذا «حاتم الطائي» ضُرِبَ المثل في كرمه المُغدِق الفيّاض، فهو كثيرُ العطاء مِن غير سؤالٍ للناسِ، متعففًا عما لديهم، فقال:

أَمَاوِيّ إنَّ المالَ غادٍ وَرائحٌ        ويَبَقى مِنَ المالِ الأحادِيثُ وَالذِكرُ
أمَاوِيّ إنِّـي لا أقـولُ لِسائِـلٍ     إِذَا جـاءَ يَومًـا حَـلَّ فـي مالِنا نَــزْرُ

الوفاء بالعهد

ومن مكارم الأخلاق عند العرب «الوفاء بالعهدِ»، والعربُ يعتدّونَ بالوفاءِ اعتداداً عظيماً، ويرونه شرفًا غالياً؛ فإذا ضاع في قومٌ حلّت النوائب بِهم، فقالوا: «إذا ذهب الوفاء نزلَ البلاء»، ومن أبرزِ صور الوفاء بالعهد، وفاء الشاعر العربي «السموأل الأزدي»، إذ ضُرِبَ بهِ المثلُ بالوفاء، فيقال: «أوفى من السموأل»؛ ذلك لأنه ضحَّى بولده على أن يُفَرِّط في دروع استودعها أمانةً عنده الشاعر المشهور «أمرؤ القيس الكندي»، فقال: وفـيــتُ بأدرعِ الكنِّــدي إنِّــي      إذا خـــانَ أقـــــوامٌ وفــيــــتُ

وللوفاء بالوعدِ عند العربِ منزلةٌ رفيعة، وإخلافه جرمٌ جسيم، فقالت العرب: «وعدٌ بلا وفاء عداوةٌ بلا سبب»، ثم جاء الإسلام محذرًا من الإخلاف بالوعد، وجعلهِ من صفات المنافقين؛ فقال أحد شعراء العرب:
لقد وعدتَ وأنتَ أكرمُ واعدٍ     لا خير بوعدٍ لغيرِ تمامِ

المروءة

والمروءةُ خَلَّةٌ كريمة، وخَصْلَةٌ شريفة، فهي صدقٌ في اللسان، وبذلٌ للمعروف، وكفٌ للأذى، وكمالٌ في الرجولة، وفي مدحها يقول منصور الفقيه: وإذا الفتى جمع المروءَة والتُّقَى       وحوى مع الأدبِ الحياءَ فقد كمل

الشجاعة

والشجاعة شدةُ القلبِ في البأس، والإقدام على المكاره والمهالك، فهي بذلُ النفسِ للموتِ دفاعًا عن الدين، والعرض، والمال، وعن الجار المضطهد، وعن المستجير المظلوم، ولنُصرةِ الحق أيَّ ما كان، فقال عنترةُ بن شداد:
إِذَا كَشَف الزَّمَانُ لَكَ الْقِنَاعَا      وَمَــدَّ إِلَيْكَ صَرْفُ الدَّهْرِ بَاعَا
فَلَا تَخْشَ الْمَنِيَّــةَ وَالْقَيَنْهَـا      وَدَافِعْ مَـا اسْتَطَعْتَ لَهَا دِفَاعَا

عزة النفس

ومن حُسنِ خُلُقِ العرب في الجاهلية والإسلام «عزة النفس» وهي شيءٌ داخلي يعبرُ عن العزة والكرامة، وعدم الرضا بالتقليل من شأن النفس، فهي أغلى ما يملِكُ الإنسان، ومن خِلالِهَا يحافظُ على نفسهِ ويصونهَا عن القيام بالأفعال السيئة التي تهمش الروح، فيقول الإمام علي -رضي الله عنه-:
لا تطـلُـبـنَّ مــعِــيـشــةً بـمـذلــــةٍ      واربـــأ بنفسك عن دنــيِّ المطلَـبِ
وإذا افتقرت فداوِ فقركَ بالغنــى        عـن كـلِّ ذي دنِسٍ كجِلْدِ الأجربِ

اصطناع البر

ومن مكارم الأخلاق التي حث الإسلام عليها «اصطناع البر» فيقول امرؤ القيس:
واللهُ أَنْــجَــحُ مــا طَـلَـبْـتَ بِــــهِ     والـبِــرُّ خَـيْــرُ حَــقِــيـبَـةِ الـرَّحْــلِ

العفة والحياء

والعفّة والحياء خُلق رفيع، وثمرةٌ من ثِمار الإيمان بالله عز وجل، ودعوةٌ إلى البعد عن سفاسف الأمور، وانتصارٌ على النفس والشهوات، وتقويةٌ لها على التمسكِ بالأخلاق الحميدة والآداب الفاضلة، فقال عنترةُ بن شداد:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي     حَـتَّـى يُــواري جــارَتي مَــأواهـا

التواضع

والتواضع من أهم مكارم الأخلاق التي دعانا الإسلام إلى التمسكِ بها، حيثُ يلتزمُ المسلمُ المتواضع باحترام وتقدير الأشخاص المحيطين بهِ، وإنْ كان يتميزُ عنهم بمركزه، أو ماله، أو نسبه؛ وللتواضع أهمية كبيرة بالنسبة إلى المجتمع، لأنه سببٌ في الحدِ من انتشار الكراهية والعداوةِ بين الناس، فقال الإمام علي -رضي الله عنه-:

حَـــقــيـــقٌ بِالتَـواضُــعِ مَــن يَـمــوتُ         وَيَــكـفـي الَــمَــرءَ مِــن دُنــيـاهُ قــوتُ
فَــمــا لِلــمَــرءِ يُــصـبــحُ ذا هُـــمـُومٍ         وَحِــــرصٌ لَــيـسَ تُــدرِكُــهُ الــنـُـعــوتُ
صَــنـــيـعُ مَـلِــيـكِنَـا حَــسَنٌ جَـمِـيَـلٌ         ومَــــا أَرزاقُــــنــــا عَــــنّـــــا تَــــفــــوتُ
فَــيــا هَــذا سَــتَــرحَــلُ عَــن قَـريبٍ         إِلـــى قَــــــومٍ كَــــلامُـــهُـــم سُــكُــوتُ

القناعة

والقناعة من محاسن الأخلاق وهي الرضا بما أعطى الله سبحانه وتعالى، والاستغناء بالموجود، يقول لبيد بن ربيعة العامري: فـاقْــنَــعْ بـمــا قَـسَـمَ الْـمَـلِـيـكُ، فـإنَّـمـا      قـَسَـمَ الْخَـلَائِقَ بَيْنَنَا علاَّمُـهَـا

العفو والإحسان

والعَفْوُ والإحِسَان خُلُقان كريمان وصى بهما الإسلام، ودلالةٌ قويةٌ على نبل الأخلاق وقوة الإيمان، وراحةٌ للنفسِ من هم العداوات، ودفعٌ لشرِ والأذى، والحدِ مِن المنازعات بين الناس، فيقول الإمام الشافعي:

لما عفوت ولم أحقْد على أحدٍ     أرحتُ نفسي من هَمِّ العداواتِ
إِنّــي أُحَيِّ عـدوي عـند رؤيتِه     لأدفــعَ الشـــر عـنـي بالـتـحـيـاتِ
الناسُ داءٌ ودواءُ الناسِ قُرْبُهم     وفــي اعتزالـهـمُ قـطـعُ الـمــوداتِ

وهذه الأبيات وغيرها في شعرنا العربي حملت في طياتها معانٍ ساميةٍ انعكس تأثيرها على الثقافات الإنسانية للأُممِ الأخرى، فساهم في بناء بعض القيم في تلك المجتمعات، لاسيما بأنَّ الشعرَ مرآة المجتمع فمن خلاله يكون التبادل الثقافي مع الآخر، لأنّهُ مِثالٌ يُحتذى بهِ، ويُنْسَجُ على غراره؛ فكان البذرة الأولى في تشييد الحضارات التي تقوم على قيم مُتشابهة، مُتأثرةٌ ببعضها البعض، فما وصفهُ (كُولِن ولسن) بأن الشعرَ سبيل الإنسان في مُجابهة الحياة ومساوئها، وحلٌ لواقعهِ المتردي، ذلك لأنه هو الذي يعلّمه الثقافة الإنسانية، تأكيدًا على ما جاء بهِ أبو تمام حينما قال:
ولولا خِلالٌ سَنَّها الشِّعرُ ما دَرَى     بُغاةُ العُلا من أين تُؤتَى المَكارمُ

بقلم: عبدالرحمن فالح البلوي

 

أضف تعليقك هنا