الفتوحات الإسلامية لشمال إفريقيا؛ نحو قراءة تاريخية مُركزة.

بقلم: الأستاذ محمد بوداس

ملخص:

لم تكن فكرة الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا لِتَتَبلور، أو حتى التفكير فيها كفكرة من طرف الفاتحين، لولا تَحقق فتح بلاد مصر من طرف عمرو بن العاص سنة 21ه، خلال عهد الخليفة عمر بن الخطاب. بعد استباب الأمر في مصر لعمرو بن العاص، بدأت تتبلور فكرة فتح الجبهة الغربية لشمال أفريقيا؛ طبعا بُغية تأمين الجبهة الغربية من الخطر البيزنطي، فالعامل العسكري الأمني كان له حَظ أوفر -طبعا إلى جانب عوامل أخرى سيأتي ذِكرها- في مسألة الفتح الإسلامي غرب مصر، ذلك نظرا للخطر الذي كانت تُشكله الدولة، بيزنطة، أنداك على دولة الخُلفاء.

وكان أول بعث أرسله المسلمون ناحية الغرب بعث الصحابي عمرو بن العاص في خلافة عمر (13ه-23ه)، حيث انطلقت سرايا الفتح من مصر متجهة نحو الغرب…بعده توالت الحملات والسرايا. وأمام الجهل بجغرافية المجال (شمال إفريقيا) التي صعبت مُهمة الفتح على أصحابها (الفاتحين)،الذين لقوا وعنوا من صعوبة طبيعة المجال الجغرافي الشيء الكثير. إلى جانب جغرافية المجال –التي تميزت بالوعورة والقساوة- شكلت مقاومة السكان المحليين (الأمازيغ) للفتاحين الحاجز الأصعب لمهمة الفتح، فقد ظهرت شخصيات على مسرح الأحداث عقدت من مهمة الفتح نوعا ما.

لقد ارتبط فتح شمال إفريقيا أشد ارتباط بما يحدث في الدولة الإسلامية بالشرق، فكلما كان هناك استقرار إلا وتخلله استمرار؛ بمعنى وجود استقرار سياسي بالشرق يعني وجود مجال تحت سرايا الفتح بالشمال الإفريقي، طبعا والعكس صحيح كما يُقال. لقد تميزت سياسة الفاتحين المسلمين بالتباين؛ الشدة والقساوة تارة واللين والحوار تارة أخري، ذلك طبعا حسب الظروف والسياق العام لزمن الفتوحات، وكذلك شخصية وطبيعة قائد الحملة (شخصية الفاتح) التي لعبت دور مُهم في الطريقة التي تُفتح بها مِنطقة ما.

تخللت وتحققت نتائج لمجهود الفاتحين، ونتج عن عنف وقساوة البعض منهم معرك طاحنة؛ معارك راح ضحيتها فاتحين ومقاومين، والمصادر تجود لنا بأخبار لمعارك دامية بين أطراف أنداك، أطراف شاركوا في صناعة أحداث فوق رقعة مجالية لها خصوصيات؛ مجال جغرافي يتميز بالصعوبة، صعوبة جعلت مُهمة الفتح صعبة، وجعلت المهمة كذلك تطول زمنيا…

انتهت مُهمة الفاتحين بفتح الشمال الإفريقي، طبعا بعد كبح جِماح الدولة البيزنطية والقضاء على المقاومة المحلية بطرق مُختلفة، حسب الظروف العامة، تارة القساوة وتارة اللين. وانتهى الأمر بدخول الإسلام وأفكاره الجديدة  على البلاد والعباد، لتظهر معالم أفكار وأحداث جديدة، هي بمثابة الحد أو القطيعة التاريخية والفكرية…بين ما قبل وما بعد الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي.

الإطار المنهجي:

تماشيا مع موضوع البحث، وانسجاما مع طبيعة الموضوع الذي يَنهل ويَمتح من ما هو تاريخي؛ من خلال مُحاولة رصد لأهم محطات وسياقات الفتح الإسلامي لشمال افريقيا. لذلك سنعمل في هذا البحث وفق إطار منطقي مُتسلسل، بُغيَة استعراض أهم محطات الفتح والوقوف عند كل محطة على حِدى؛ سَارِدين ومُتسائِلين، نَاقِدين ومُحللين. طبعا ذلك يحتاج إلى إطار منهجي صارم، وهو ما حولنا جاهدين الانضباط وفقه، من خلال:

  • أولا: تقديم ملخص للبحث.
  • ثانيا: صياغة مُقدمة عامة تتخللها تساؤلات تصب في جوهر الموضوع.
  • ثالثا: حاولنا جاهدين الإفصاح عن إشكالية الموضوع -صُلب الموضوع- التي جعلتنا نتوقف لصياغة فرضيات تخص إشكالية البحث كمحطة
  • رابعاً، هذه الفرضيات انطلقنا منها للبحث عن سند تاريخي يؤكدها أو يَدحضها؛ من خلال الاطلاع على الدراسات التي تناولت الموضوع.

طبعا كل ذلك وفق منهج تاريخي مُتسلسل ذو معنى وسِياق. لم نتوقف فقط في محطة السرد، بل حاولنا جاهدين نقد تلك السرديات؛ البحث عن غايات ومُحركات الحدث؛ أي كيف حدث ولماذا حدث؟ وكيف ساهمت الرقعة المجالية، باعتبارها حاضِنة الحدث، في حدوث ذاك الحدث؟ وأين تتجلى تأثيرات المجال في الحدث؟ ربما هنا يُمكن لمس المقاربة الجغرافية التاريخية؛ التي تُركز على دور خصوصيات المجال في صناعة الحدث وفق طريقة وسياق مُعين. طبعا كل ذلك تمت صياغته في قالب تاريخي مُتسلسل، وبِلغة مُبسطة نوعا ما، كذلك بشكل مختصر نوعا ما؛ الاختصار ليس لنذرة المادة المُتعلقة بالموضوع، وإنما انسجاما مع غايتنا من هذا البحث، ألا وهي الاختصار والتبسيط مع احترام أساسيات علم التاريخ.

مقدمة:

يقول الأستاذ إبراهيم حركات: “ترجع فكرة فتح المغرب العربي إلى عهد عمر بن الخطاب سنة احدَى وعشرين هجرية. بعد أن تم لعمرو بن العاص فتح مصر”[1]. هنا السؤال الذي يفرض نفسه: -ما علاقة استتباب الأمر لدولة الخلافة (عهد عمر) بمصر بِمسألة قرار توجيه سرايا الفتح للشمال الإفريقي؟ نعم، إذا كانت مسألة فتح مصر مسألة ضرورية لضمان أمن دولة الخلافة؛ خُصوصا الخطر البيزنطي من جهة الغرب، فلماذا قَرَر الخليفة عمر تَوجيه الفتوحات ناحية غرب مصر، أي رقعة الشمال الإفريقي؟.

لقد ظهر الإسلام خلال القرن 7 م، في مجال يتوسط إمبراطوريتين عظيمتين؛ الفرس الساسانيين شرقا والبيزنطيين غربا (الروم أو الرمان الشرقيين). هذا السِياق العام سَيجعل الدولة الإسلامية بين قوتين، لكل منهما مميزات وتاريخ عريق وكذلك توجه توسعي. لقد سعت الدولة الإسلامية منذ البدايات إلى التوسع والغزو بُغية تحقيق أهداف مُعينة، من بينها نشر الدين الجديد (الإسلام)[2]. هذا الأمر سوف يَجعل الدولة الإسلامية تدخل بشكل حتمي ومُباشر في صراع مع القِوى التقليدية أنداك، حيث ستجمع دولة الخُلفاء بنظِرتها الساسانية معارك طاحنة ودامية[3]، نتج عنها تغيُرات جذرية في الخريطة السياسية للمنطقة أنداك[4].

لقد نتج عن حَتمية الاصطدام بين الدولة الإسلامية والقوى السياسية التقليدية أنداك عدة تجليات للصراع شرقا وغربا…لذلك فبعد سيرورة من الاحتكاكات العسكرية تمكنت (الدولة الاسلامية) من سحق الامبراطوريتين البيزنطية والفارسية اللتين أنهكتهما الحروب المُتتالية[5]. لقد كان الصراع على رقعة الشمال الإفريقي في أشد أوجه، لكن في نهاية المطاف راح البيزنطيون ضحية هذا الصراع؛ فالدولة البيزنطية كانت مُتهالكة الأطراف منذ نهاية مرحلة الإمبراطور جُوستنيان.

شكل دُخول الفاَتحين لأراضي الشمال الإفريقي عبر بوابة مصر بداية لِصفحات جديدة من تاريخ المِنطقة، طبعا نظرا للمُتغيرات التي ستُرافق دخول الإسلام للمنطقة؛ سواء إداريا أو فكريا…إلخ. كَحال أي تغير تاريخي، فَسَيَقَع اصطدام بين الفاتحين والسكان المحليين، وفي هذا الصدد تجود لنا المصادر بالكثير من الأخبار عن وقائع نتجت عن اصطدام جيوش الفتح بالسكان المحليين. طبعا هناك تعدد لأسباب هذا الاصطدام الذي راح ضحيته الكثير من رجالات الفتح وكذلك من السكان المحليين.

لذلك سنحاول في هذا البحث مُعالجة موضوع السياق العام للفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي، طبعا ذلك من خلال مُحاولة تِقديم إجابات لأسئلة من قبيل: كيف حدث الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي؟ متى حدث؟ لماذا حدث؛ هل لنشر الدين الجديد أم استغلال هذا الدين لتحقيق أهداف مُعينة؟ أم أن الهدف كان هو التوسع وتأسيس إمبراطورية مُترامية الأطراف تحت غِطاء إيديولوجي إسلامي؟ كيف تعامل الفاتحون مع صعوبة المجال الجغرافي للشمال الإفريقي؟ كيف أثر هذا المجال وخصوصياته في سَير سرايا الفتح؟ كيف تعامل الفاتحين مع السكان المحليين؛ هل باللين أم القساوة أم كلا الطريقتين؟ ما هي ردة فعل السكان المحليين تجاه الدين الجديد؟ هل قَبِل السكان المحليين (الأمازيغ) الدين الجديد أن قَبَول واعتناق الدين الجديد كان مُرتبِط بِقساوة الفاتحين؟ لماذا تُخبِرنا المصادر بوقائع تَدل على قساوة الفاتحين أثناء تعاملهم مع الأمازيغ؟ هل هذه التلميحات المصدرية صحيحة أم مُجانبة للصواب؟ وإلى أي حد يُمكن تصديق هذه الروايات؟

إشكالية:

السياق العام للفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي؛ ما هي الظروف العامة للفتح الإسلامي لشمال إفريقيا؟ لماذا قرر المسلمون الغوص في ثنايا مجال الشمال الإفريقي؛ فاتحين ومُرابطين؟ هل لنشر الدين الجديد؟ أم بُغية الثراء والاستفادة من الغنائم؟ كيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث أصلا؟ وفي أي سياق حدث؟ وما هي أهم الشخصيات التي صنعت تلك الأحداث؟ وما هي طبيعة المجال الذي احتضن تلك الأحداث؟

فرضية:

  1. جَاءت سَرايا الفُتُوحات الإسلامية للشمال الإفريقي في سياق توسع الدولة الإسلامية، التي تأسست مع الرسول ونَضَجَت مع الخُلفاء، وتَوسعت كإمبراطورية مُترامية الأطراف زمن الأمويين والعباسيين فيما بعد؛
  2. تعددت أسباب وصول سرايا الفاتحين إلى منطقة شمال إفريقيا؛ تارة للثراء والمغانِم، وتارة لنشر الدين الجديد؛
  3. تنوعت طُرق تعامل الفاتحين مع السكان المحليين للشمال الإفريقي؛ تارة باللين وتارة أخرى بالعنف والشِدة والقساوة؛

منهجية البحث:

الانطلاق من ما تجود به المصادر التاريخية، وكذلك الدراسات التي تناولت موضوع الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي، ذلك بُغية رصد أهم محطات الفتح، وكذلك تحديد أهداف هذا الفتح؛ ذلك من خلال مُحاولة لتفسير السياق العام الذي جاءت فيه الفتوحات، عبر البحث عن الأسباب والغايات، ذلك من خلال مُساءلة المصادر التاريخية وتفكيك خطابها –طبعا بالاعتماد على دراسات تناولت الموضوع-

الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي:

 أ) السرد:

لقد ظهر العرب المسلمون بالمغرب الأقصى في أواخر القرن السابع الميلادي والنصف الثاني من المئة الأولى، فوجدوا أمامهم خلقا لا يحصون، وأُمما وممالك مختلفة، وحضارة ضاربة في القدم[6]. تُرى، كيف تعامل الفاتحون المسلمون مع هذه الحضارة الضاربة في التاريخ التي كانت موجود بالشمال الإفريقي؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، من الأَوْلَى تقديم صورة عامة عن سرايا الفاتحين المسلمين بالشمال إفريقي. كما يقول الباحثين، لم تكن فكرة فتح الشمال الإفريقي عامة والمغرب خاصة لتتبلور في ذهن الفاتحين، لولا وصول سرايا الفتح إلى مصر، مع عمرو بن العاص، أيام الخليفة عمر بن الخطاب.

فبعد أن وصل عمرو بن العاص إلى مصر التي جعلته يُفكر في طرابلس وبرقة، التي تم فتحها فيما بعد على يد نفس الفاتح، كتب إلى الخليفة عمر يقول: “إنا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين إفريقية تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها فعل”، فكتب إليه عمر: “إنها ليست بإفريقية ولكنها المفرقة”[7]، فرغم وجود تشكيك في هذا القول من طرف عدة باحثين ومتخصصين[8]، إلا أن الشيء الذي يُمكن أن يُستشف من خلال هذا القول، هو وجود ارتباط بين سرايا الفاتحين والخلافة المركزية بالشرق، فتشاور عمرو بن العاص يعني أن الأمور تحت سيطرة الخلافة، وأن أي قرار بِفتح منطقة ما يكون بإذن الخليفة وليس خارج عن سيطرته، طبعا وهذا ما سيتأكد من خلال وقائع وأحداث أخرى سيتم إدراجها فيما بعد. لقد كان الجهل بخصوصيات منطقة الشمال الإفريقي من أهم ما صعبة مُهمة الفاتحين، طبعا إلى جانب عوائق أخرى، لذلك فمن الصعوبة بما كان أن نتصور المعلومات التي كانت لدى العرب على شمال إفريقيا[9].

فبعد وفاة الخليفة عمر بن الخطاب، وتولي الخليفة عثمان بن عفان الحكم، تم عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر، وتم تعيين مباشرة عبد الله بن أبي السرح الذي باشر الفتح، والذي يمكننا أن نقول أن التفكير الجدي في فتح المغرب العربي قد بدأ على يده[10]، إلا أن صُعوبة مهمة الفتح جعلت الأمر بطيء بعض الشيء، وجعلت المهمة صعبة المنال، حتى وصلت سنة 45 ه ليتم تعيين معاوية بن حديج من طرف الخليفة معاوية بن أبي سفيان، الذي اقتصر على مُناوشات مع سُكان الشمال الإفريقي، إلا أنه فتح المجال لِتَعرف الفاتحين على خبايا المنطقة من الناحية الجُغرافية، وكذلك على عقلية السكان المحليين.

لقد جاءت مرحلة عقبة بن نافع الفهري، ليصبح واليا على إفريقية سنة 46ه على ما ذكره ابن عبد الحكم[11]. وقد فتح عقبة في ولايته الأولى عدة حصون في ليبيا، ولما دخل إلى إفريقية قام ببناء حصن القيروان كمركز لسرايا الفتوحات. جاءت سنة 51ه، ليتم عزل عقبة بن نافع على يد مسلمة بن مخلد الأنصاري، وتم تعيين مكانه أبا المهاجر دينار واليا جديدا على إفريقية، وقد كان لعقبة بن نافع وأبا المهاجر عداوة، هذه العداوة ستظهر من خلال رفض أبا المهاجر الاستقرار بالقيروان، باعتبارها مدينة وحصن تدل على مرحلة عقبة بن نافع، وكذلك من خلال رفض عقبة بن نافع أثناء ولايته الثانية العمل وفق وصايا ونصائح أبا المهاجر دينار[12].

لقد أساء عقبة بن نافع مُعاملة السكان المحليين، لكن يبقى عقبة بن نافع من أهم الفاتحين المسلمين للشمال الإفريقي، فخلال مرحلة ولايته الثانية وصلت طَلائِع الجيوش الإسلامية إلى المغرب، ذلك ما بين سنتي 62ه-63ه[13]، ذلك خلال مرحلة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، وكخطوة أولى بعد توليه منصب الولاية للمرة الثانية، قام عقبة بِعزل الولي السابق أبا المهاجر دينار.

لَقِي عقبة بن نافع الفهري جُمُوع من السكان المحليين، وحقق انتصارات ودخل بجيوشه إلى بلاد المغرب الأقصى؛ من منطقة طنجة إلى منطقة سوس، لكن سُوء حُسن تصرفه مع السكان الأصلين، كما تقول المصادر، جعلت الكثير منهم يشعر بِالهُوة بينه وبين الفاتحين، الأمر الذي جعل القائد الأمازيغي كُسيلة يبحث عن فرصة للانتقام، وهذا ما تحقق فيما بعد، فقد تم القضاء على عقبة، من خلال اغتياله في معركة هو والعديد من افراد جيشه. لقد استعاد الأمازيغ والروم المغرب بعد النجاح في القضاء على عقبة بن نافع سنة 63ه، وقد استعادوا القيروان من أيدي الفاتحين، رغم محاولة المسلمين التصدي لذلك تحت قيادة زهير بن قيس البلوي، الذي تراجع هو وجيشه من الفاتحين أمام شراسة المقاومة المحلية.

تواصلت الهجمات بين الكَرْ والفَرْ، بين الفاتحين والسكان المحلين لسنوات، فرغم نجاح زهير بن قيس البلوي في القضاء على كُسيلة، إلا أنه فشل في استعادة ما للفاتِحين بالشمال الإفريقي أيام عُقبة بن نافع. وقد تزامنت هذه الفترة مع وفاة الخليفة الأموي مروان بن الحكم وتولي ابنه عبد المالك بن مروان الحكم سنة 65ه[14].

جاءت مرحلة حَسان بن النُعمان، الذي سيعمل على تأمين الجبهة الغربية رغم صعوبة المهمة، إلا أنه نجح في مواجهة المقاومة المحلية الشَرِسة، التي تجسدت في شخصية الكَاهِنَةُ داهية، والتي تم القضاء على مقاومتها خلال مرحة هذا الوالي. أمام صعوبة مهمة تأمين ما تم فتحه في الشمال الإفريقي، تم تعيين والي جديد على المنطقة، وهو موسى بن نصير، ذلك سنة 89ه[15].

لقد نجح الوالي موسى بن نصير في فتح المغرب بشكل نهائي، فقد استطاع أن يبلغ بجيوشه إلى ناحية درعة[16]. بعده سيتم التفكير في العبور إلى الأندلس، وهذا ما تَحقق مع سَرِية القائد طارق بن زياد سنة 711م، ذلك بعد العمل على استغلال التناقضات الموجودة بين حُكام الممالك الموجودة بإسبانيا أنداك (قضية يُوليان ولوذريق). بعد تمام الفتح على يد جيش موسى بن نصير، ونهاية مرحلة أل موسى بن نصير بالمغرب، سيدخل المغرب مرحة أو عصر الولاة، وذلك  ما بين سنتي (97-122/715-739م)[17].

ب) النقد:

قبل الدخول في ثنايا هذا المحور، كان لِزاما التنبيه لأغراض مَنهجية، أن النقد هنا سينصب حول مسألة ما يتم الترويج له حول مسألة الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي، فمن جهة يتم استغلال بعض المفاهيم من أجل بناء لأحكام في بعض الأحيان تكون بعيدة عن الواقع التاريخي، وكذلك نجد في الطرف الثاني من يَدعِي ويقول بِقدسية الفتوحات الإسلامية؛ شخصيات وأحداث، في حين نجد المصادر نفسها تجود لنا بوقائع تبين الخُروقات التي تخللت عملية الفتح… الفتح؟ أو الغزو؟ بِصراحة ومنذ البداية، فلا تهمنا هذه المفاهيم، بمعنى هدفنا أبلغ من هذه المفاهيم، العمليات الإسلامية بالشمال الإفريقي سواء كانت فتحا أو غزوا، الشيء المُهم هو ما هي التغييرات التي جاءت بها هذه العمليات؟ وكيف تمت هذه العمليات؟ وما هي مَصادر معلوماتنا حول هذه العمليات؟

من الأولى أن نَنطلق من واقع المادة المصدرية التي كُتبت حول الفتوحات الإسلامية بالشمال الإفريقي؛ هذه المصادر التي تشوبها عِدة الشوائب، تَحيُزات قبلية ومذهبية وسياسية… كما أنها تفتقد لعنصر الموضوعية، لذلك فقد عَمِل شَيخ المؤرخين المُسلمين عبد الرحمن بن خلدون على توجيه نقد لهذه المصادر[18]؛ مَنهَجا ومَوضُوعا، ودعا في خِضَم نَقدِه إلى ضرورة إعمال العقل في الخبر. إلى جانب هذا، نَجد المصادر الإسلامية التي تناولت عمليات الفتح الإسلامي جاءت مُتأخرة نوعا ما؛ بِمعنى عدم مُعاصرتها لوقوع الأحداث، ومن هنا يُطرح السؤال: إلى أي حد نَقلت هذه المَصادر التاريخية ما وقع دُون أن تَشوبه شَوائب؟

رغم وجود بعص المصادر التي واكبت عمليات الفتح (الفتح الإسلامي بشكل عام، والفتح الإسلامي للشمال الإفريقي بشكل خاص…)، إلا أن هذه المصادر في أغلبها مَشرقية[19]، وبالتالي نجدها حَامِلة لخطاب تحيزي لكل شيء يعود بأُصُولِه للمشرق الإسلامي، وبالتالي فعلى أي مُتناول لهذه المصادر إعمال النقد، كما هو مُتفق عليه عِلميا، نَقد داخِلي وخَارِجي، كما على المُؤرخ أن يَتجاوز كل التحيزات والإيديولوجيات أثناء تعامله مع المادة المصدرية التي نقلت أخبار فترة الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي…

إن أي دَارِس لفترة الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي، سيجد أهداف هذه الفتوحات مُتعددة كتعدد الأحداث التي أفرزتها هذه العمليات (الفتوحات)، ولا يُمكن تحديد هدف واحد لها. من الصعب أن نقول أن هدف الفتوحات كان هو نشر الدين الجديد (الإسلام)، ومن الصعب كذلك تحديد أهداف أخرى ذات طبيعة أحادية؛ بمعنى تعددت أسباب ودوافع الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي، فتارة كان الهدف هو البحث عن مناطق النفوذ، وتارة كان الهدف هو تبليغ الرسالة؛ والحد الفاصل بين الهدفين صعب التحديد، إن لم نقل صعب جِدا…

جاء الإسلام في سِياق ضُعف الإمبراطوريات التقليدية؛ الفارسية والبيزنطية، الإسلام كَفِكرة تَغلغل في نُفوس الناس، وانتشر بشكل مُهول؛ لأنه فكرة ركبت القديم بالحديث، فكرة وظفت التراث الموجود بالعالم القديم أنداك لتصنع لرؤية حاملة للجديد؛ جديد يتميز بسهولة الإدراك وضد التعقيد[20]، هذا الجديد هو الذي سَيُميز المجتمع الإسلامي فيما بعد، إلا أنه سيصبح في غيابات الماضي مع تطور التاريخ الإسلامي؛ سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.

لقد ظهرت شخصيات في التاريخ الإسلامي استفادت من الإسلام كفكرة؛ استِفَادَة اقتِصَادِيَة قبل كل شيء، لذلك فمنذ البدايات الأولى لظهور الإسلام، إن لم نقل قبل ظهور الرسالة المُحمدية، ظهرت هذه الأطراف التي تصارعت حول النفوذ؛ نفوذ روحي وأخلاقي واقتصادي، إلا أن النفوذ الاقتصادي كان هو الأولى، لذلك تم توظيف النفوذ الروحي لخدمة مَكَاسِب اقتصادية.

تصارعت الأطراف، تصارعت وتصارعت[21]، وبين هذا وذاك ظهر الإسلام، ظهر لتظهر معه أطراف جديدة ستشعل نيران صراع جديد، وستظهر دول وأفكار ونظريات سياسية زينت التاريخ الإسلامي على المستوى الفكري، لكن لا يُمكن فهمها دون إرجاعها إلى سياق طبيعة الصراع. فإذا كانت الميكيافيلية قد ظهرت في سياق خاص؛ سياق صراع مصالح وجاء كتاب الأمير لينكولا ميكيافيلي[22] من أجل غرض معين، تمثل أساسا في البحث عن وسيلة لتوطيد السلطة والقضاء على التجزئة السياسة التي ميزت إيطاليا أيام ميكيافيلي. لذلك فحتى الأفكار الإسلامية لها سياق ومصالح، ويجب ربط هذا وذاك في إطار مُقاربة تركيبية بُغية إدراك وفهم لغيابات وتعقيدات هذه الأفكار…

خلاصة عامة

الفتوحات الإسلامية للشمال الإفريقي حدث تاريخي كباقي الأحداث التاريخية، لذلك يجب على الباحث في حقل التاريخ نزع صِفة القداسة على كل الأطراف التي تُشكل أطراف هذا الموضوع النسقي والمُتشعب؛ شخصيات وأحداث، رواية تاريخية وأثار أركيولوجية…طبعا بُغية فهم أدق لسياق الأحداث واخذ الاعتبار منها، بمعنى فهم صحيح للماضي وتطلع أدق للمستقبل… (شاهد فيديو موقع مقال على اليوتيوب)

المراجع

  1. [1]  إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الجزء الأول، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2020، ص. 71.
  2. [2]  طبعا ذلك تماشيا مع طبيعة الدين الجديد الذي جاءت به الرسالة المحمدية، هذا الدين ذو الطابع التبشيري، القائم على أساس استقطاب مزيدا من المُعتنقين، لذلك سنجد الرسالة الإسلامية منذ البدايات وهي قائمة على فكرة التوسع ونشر الدين الجديد.
  3. [3]  لعل أبرز معركة بين المسلمون والفرس هي معركة (القادسية) سنة 637 م، خلال عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد قاد الجيوش الإسلامية القائد سعد بن أبي وقاص الذي استطاع هزيمة الجيش الفارسي بقيادة القائد رستم فروخزاد.  للمزيد أنظر كتاب،  نجاة  محمود سليم، معجم المعارك التاريخية، الطبعة الأولى، 2011، ص. 403.
  4. [4]  نتج عن معركة القادسية سنة 637 م نهاية الدولة الساسانية، وبسط المُسلمون نفوذهم على منطقة فارس، فبعد الهزيمة ترك الملك الفارسي (يزدجر الثالث) العرش والمملكة لتسقط البلاد في فراغ سياسي نتج عنه ضم المسلمون المنطقة لنفوذهم. للمزيد أنظر كتاب،  نجاة  محمود سليم، معجم المعارك التاريخية، ص. 403.
  5. [5]  أولاف، التاريخ الخفي للإسلام، ترجمة عزيز العساوي، الطبعة الأولى، 2019،  ص. 66.
  6. [6]  امحمد جبرون، تاريخ المغرب الأقصى: من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال، دار الإحياء للنشر والتوزيع، ص. 13.
  7. [7]  إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، الجزء الأول، ص. 71.
  8. [8]  هناك من الباحثين من يُشكك في هذا القول، من خلال طرح سؤال؛ إذا كان عمرو بن العاص قد تشاور مع الخليفة عمر بن الخطاب في مسألة فتح إفريقية، هل هو تَشاور معه أصلا في فتح برقة وطرابلس قبل فتحهما، قبل أن يَتشاور معه في مسألة فَتح إفريقية؟
  9. [9]  حركات، المغرب عبر التاريخ، ص. 71.
  10. [10]  نفسه، ص. 72.
  11. [11]  نقلا عن إبراهيم حركات، ص. 77.
  12. [12]  من أهم نصائح أبا المهاجر دينار، حسن معالمة السكان المحليين (الأمازيغ)؛ خاصة كُسيلة، الذي كان قد أسلم خلال مرحلة أبا المهاجر دينار، لكن بعد عودة عقبة وسوء تصرفه مع زعيم الأمازيغ (أوربة) جعلته يبحث عن فرصة للانتقام من عقبة ورِفاقه، وهذا ما تحقق فيما بعد.
  13. [13]  امحمد جبرون، تاريخ المغرب الأقصى، ص. 23.
  14. [14]  نفسه، ص. 30.
  15. [15]  إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، ص. 80.
  16. [16]  نفسه، نفس الصفحة.
  17. [17]  امحمد جبرون، ص. 35.
  18. [18]  أنظر عبد الرحمن بن خلدون، فهو يؤكد بِضرورة إعمال العقل في النص؛ العقل قبل النقل.
  19. [19]  المقصود هم المؤرخين المسلمين الذي عاصروا نوعا ما عمليات الفتح الإسلامي؛ الواقدي، البلاذري…
  20. [20]  المقصود من سهولة وسلاسة أفكار الدين الإسلامي؛ الدين الإسلامي في بداياته الأولى، أما مع تطور الزمن، وتوسع الرقعة المجالية للنفوذ الإسلامي، ستظهر مذاهب جديدة، وفُرق كلامية، وهنا سينحرف الإسلام من السلاسة إلى التعقيد، من البساطة إلى التركيب والصعوبة في الإدراك والاستيعاب، وكذلك حتى الصعوبة في الممارسة…
  21. [21]  أنظر مؤلفات السيد القمني؛ حروب دولة الرسول، الجزء الأول، مكتبة  مدبولي الصغير، الطبعة الثانية، 1996م.
  22. [22]  ولد نيكولا ميكيافيلي في ماي عام 1469م من أسرة توسكانية عريقة. كان والده محاميا بارزا، وكانت والدته شاعِرة، وكان معظم أفراد أسرته يشغلون مراكز بارزة في فلورنسا…عاش حياته كلها مُتنقلا من مكان إلى مكان أخر إلى أن توفي في فلورنسا سنة 1527م.

بقلم: الأستاذ محمد بوداس

 

أضف تعليقك هنا