الدين في فَلسفة ج-ف-ف-هيجل

بقلم: محمد بوداس

تقديم إشكالي:

إن أَهم مَا يُمَيزُ مَشروع ج-ف-ف-هيجل الفلسفي كَكُل هو النسَقية والترَابُط، وهو (أي هيجل) أكد على هذه المسألة مِرارا في مَتن مُؤلفاتِه، فَالنسقية هي أهم ما يَجعل مِن المشروع الفلسفي مَشروعا، ومَا دُون ذلك يَبقى انتاجات تَتخللها انطباعات شخصية لا تَرقى إلى النسقية التي نَادى بِها هِيجل.

وأثناء حَدِيثِه عَن الفَلسفة، أكد هيجل على أنها (الفلسفة) تُشبه دَائِرة مُؤلفة من عِدة دَوائِر[1]. وهَكذا يَظَهر لَنا أن الفلسفة إما أن تَكون كُلا أو لا شَيء، والكُل هُنا هو النسقية والتَرابُط، والمَشرُوع الفَلسَفِي الذي يَكُون قَادِر على هَيكلة  جُل العلوم والمَنَاحِي المَعرِفية. فَمَالم تُشكل الفلسفة نَسَقا فأنها لن تكون نتاجا علميا، فَالتفلسف غير النسقي لا يُمكن أن نتوقع مِنه سِوى أن يَكُون تَعبير عن خصائص شخصية خاصة بالعقل، دون أن يتضمن مبدأ يُنظم مضمونه[2]. طبعا هِيجل لم يُكن مُنظرا ودَاعِيا للنسقية في التفلسف دون أن يَسلُك هو نفسه ذاك المَسلَك. فالمَشرُوع الهِيجِلي مَشروع نَسَقي من كل النواحي؛ شمل الدين والفلسفة والتاريخ والمَنطِق… ومن خِلال هذه التوطِئَة نَطرح الإشكال الآتي: كَيف نَظر ج-ف-ف-هِيجل إلى الدين؟

الرُؤيَة الهِيجلية للدين:

حَتمت نَسقية مَشروع هِيجل تَنَاوُله لِعدة مَنَاحِي وقَضايا مَعرِفَية، لذلك جاء مَشرُوع هيجل مُترامِي الأطراف، وكان الدين من أهم القضايا التي أولى لها هِيجل أهمية قُصوى. ولأجل فهم رُؤية هيجل للدين لابُد لنا أن ننظر إلى هيجل بِنوع من الشُمولية. فهيجل رأَى التاريخ يسير بِشكل تَطوري، تَطور يَحكُمُه تَطَور وَصِراع الأفكار. والفِكرة عِند هِيجل تَسِير وِفق نَمُوذج ثُلاثِي؛ فِكرة مِن الروح المُطلق إلى الواقع والتاريخ ومن بَعده تَعُود إلى الروح الحَاضِن المُطلق للأفكار. وأثناء اشتغاله في حقل الفلسفة التي قسمها هيجل إلى ثلاث أقسام:

  • المَنطق
  • فَلسفة الطبيعة
  • فَلسفة الروح

ولِكُل قِسم مَجال يَختَص بِالبَحث فِيه. أما فلسفة الروح، والتي تهُمنا أكثر، فمجال اهتمامها هو الفِكرة حينما تُصبح وَاعية؛ أي أنها تَرتقي إلى الوعي الكُلي أو ما يُسميه هِيجل الروح الإلهي[3]. والفِكرة التي تَرتَقِي إلى مَرحلة الوعي الكُلي تتجسد، حسب هيجل، في الفن والفلسفة والدين.

ومن هنا يتبين لنا أن دين في فلسفة هِيجل هو حَاضِن للمرحلة النهائية لتطور الفِكرة، تلك الفِكرة التي تنطلق من الروح وتَعُود إلى الروح المُطلق، والدين هو حَاضن تلك الفكرة. فالروح المُطلق هو نهاية تطور الأفكار، هو المُطلق الذي لا يشمل على تناقضات؛ أي بلوغ الفكرة للمرحلة العليا.

أثناء نَظرتِه للتاريخ الديني الأوربي، رأَى هِيجل في دِين المُجتمع الإغريقي القَديم دِين الدَيْمُومَةُ وحُب الحَياة، عَكس الديانة المسيحية التي تُحَارب حُب الحياة والاستمتاع بعيشها من خلال الدعوة إلى العمل للأخرة وجعل تفكير الإنسان مُرتبط بها. جاءت الديانة المسيحة لتُبشر بخطيئة البَشر، هذه الخطيئة التي ارتكبها “أَدم” حَسب العهد القِديم (التوراة) والعهد الجِديد (الأناجيل)، لِذلك فالإنسانية تَسير فِي التاريخ والخطيئة المُرتبطة بِها، ومن واجب الإنسانية العمل بُغية التكفِير عن الذنب المُرتكب منذ الأزل، وهنا نَجد اللاهُوت المسيحي نَقل المَركزية من العمل من أجل الدنيا إلى العمل من أجل التكفِير عن ذنب للخلاص في الأخِرة. لقد انتقد هيجل العقلية المسيحية ودَعا إلى التجديد في هذا الأمر من خلال العمل على جعل الديانة المسيحية مُوَاكِبة للعصر والتطور.

اشتغل هيجل كثيرا على التاريخ القديم، خاصة المرحلة الكلاسِيكية، وكان التاريخ الإغريقي بِمثابة النمُوذج المثالي بالنسبة له، فاليونان القدماء ربطوا الدين بِالفن والجَمَال، وكانت أَلِهَتهم الكُبرى تتجسد في اللوحات والتماثيل المنحوتة (أثِينا، أفْرُودِيتِي، هِيرمِيس، أَبُولُون…)، وهذا يخدم إلى حد كبير نظرية هِيجل المُرتبطة بالروح المطلق الذي يُعتبر الحَاضِن الأَسمى والنهائِي للأفكار، فَتجَسُد إله مُعين في لوحة مَنْحُوتَة يَجعل الفِكرة والفن يَرْتَقِي لِلمُستوى المَحسُوس، يعني تجسد الفكرة في المحسوس. ويقول هيجل في هذا الصدد: يَستخدم الدين الفن لِيجعل الحقيقة الدينية أكثر محسوسة وأسهل منال على الخيال، إن الفن يُعطي الحقيقة بِأشكالها المُزَوقَةُ أكثر تعبيرا، وأكثر مُطابقة لِماهيتها، ومن هذا القبيل أن الفن كان لدى الإغريق على سبيل المِثال أسمى شكل يُمكن لِلشعب أن يتصور الآلهة[4]. طبعا هذا القول يَنسجم مع المعنى العام لِفلسفة هيجل التي تقول بتطور الأفكار وِفق مسار جَدلي إلى أن تبلغ مرحلة المُطلق، والمُطلق، كما قُلت منذ البداية، يَتجسد في الفن والفلسفة والدين، لذلك فالدين بِكل عناصره هو تَجسِد للمُطلق.

خُلاصة:

من الصعب جِدا فهم مَشروع هيجل إن لم يَتِم التَطرُق لَه بِنوع مِن الشُمُولِية، فَمشروعه يَدخل في نِطاق المَشارِيع النَسقية، مَشارِيع حاولت أن تُؤسِس لِنسقية العُلوم، لذلك نجد هيجل تناول عِدة مناحِي مَعرفية.. ومن أهمها نَجد مَوضُوع الدين. كانت نظرة هيجل إلى الدين نظرة تَمعن ودِرَاسَة، فَهو دَرس اللاهُوت فِي مَعهد تُوبِنْغَنْ[5]، لذلك نَجِده في ثَنايا مَشرُوعه مُهتما بِمسألة الدين، بل ذَهب إلى حَد وَضع الدين إلى جانب الفلسفة والفَن. وقَال أن الفكرة عندما تبلغ أقصى مَرحلة من التطور وٍفق مَنهج ديَالِيكتِيكِي ثُلاثي المَراحِل تتجسد إمَا في الدين أو الفن أو الفلسفة.

اشتغل هيجل في مشروعه النسقي حول مسألة تاريخ ظاهرة الدين، ووجد في النُموذج الإغريقي نَموذج لِديانة مُتعلقة بِحب الحُرية والحَياة والإبدَاع، لذلك كانت ديانة الإغريق حَاضِنة للفنون والإبداع البشري بِمُختلف أنواعِه (نَحت، شِعر، مَسرح…). أما نظرة هيجل للديانة المسيحية فقد وَجد فيها تنقيص من قيمة الإنسان والحياة بِصفة عامة لأنها تدعوا إلى ترك الدنيا من أجل الأخرة، كما تدعوا الإنسان إلى الخضوع بَدل الإبداع…

المراجع

  • [1]  مجموعة من المؤلفين، فلسفة الدين، مَقُول المُقدس بين الإيديولوجيا واليوتوبيا وسؤال التعددية، مَنشورات ضِفاف، ص. 95.
  • [2]  ج-ف-هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، نقلا عن كتاب فلسفة الدين، تأليف جماعي، ص. 95.
  • [3]  مجموعة من المؤلفين، ص. 97.
  • [4]  المرجع نفسه، ص. 100.
  • [5]  أنظر كتاب، زكريا إبراهيم، هيجل أو المثالية المُطلقة، مكتبة مِصر.

بقلم: محمد بوداس

 

أضف تعليقك هنا