الإبستمولوجيا التكوينية

بقلم: آيات قبها

المنهاج التكويني في الإبستمولوجيا

“جان بياجيه”

“The core insight throughout Piaget’s work is that we cannot understand what knowledge is unless we understand how it is acquired In turn; we cannot understand how knowledge is acquired unless we carry out psychological and historical investigations”

Jean Piaget

المقدمة

يعد البحث في نظرية المعرفة من أقدم وأهم الموضوعات التي بحث فيها معظم العلماء والفلاسفة على مر العصور وذلك كونها شكلت قضية إشكالية بالنسبة لهم وعملت على تقسيمهم إلى مذاهب ونظريات عديده، وذلك وفقا لطبيعة المعرفة التي تم تصورها ومن ثم ما هي مصادرها وكيف يمكن للإنسان أن يحصل عليها؟.

و ما جعل سؤال ما المعرفة؟ تزداد أهميته- خصوصا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين- هي تلك التطورات التي رافقت النظريات العلمية، و تأخر النظريات الإنسانية في تطور العلم وعدم اللحاق به، ما جعل الكثير من الفلاسفة والعلماء ينحون منحى أن يتم الفصل ما بين مفهوم نظرية المعرفة كنسق فلسفي يهتم بالبحث عن مصادر المعرفة وطبيعتها، وبين مفهوم نظرية المعرفة كعلم له موضوعاته الخاصة ومناهجه النوعية.

وقد كان من بين الباحثين والعاملين على الفصل وتبيان الهفوات التي وقعت فيها النظريات السابقة التي حاولت التوفيق الإبستمولوجي بين الفلسفة و العلم العالم “جان بياجيه”.

جان بياجيه وهو عالم وفيلسوف سويسري ولد في نيوشاتيل سنة (1896) ، عاش أربعة وثمانين عاما منها أربعة أعوام في القرن التاسع عشر وثمانية عقود في القرن العشرين(1896-1980). بمعنى أنه عاش الأحداث الكبرى للقرن العشرين وأهمها الحربان العالميتان اللتان كان لهما أعمق الأثر على أوروبا بأكملها.

كانت البيولوجيا لدى بياجيه هي المنطلق الشخصي الذي ساعده في طرح مسألة المعرفة في صيغة جديده، و من ثم الابستمولوجيا وهو العلم الجديد الذي يبحث في نظرية المعرفة من وجهة نظر العلم، فكان لا بد من علم وسيط يمكننا من وضع الفرضيات والقيام بالتجارب والملاحظات للوقائع بدل الاستمرار بالتفكير التأملي في مسألة المعرفة والتي كانت مأخذا على الفلاسفة التي نقدهم بياجيه، فعلم النفس كان الميدان الذي اعتبره بياجيه الجسر الذي ينبغي على الباحث المرور عبره للعبور من كيفية طرح مسألة المعرفة في البيولوجيا إلى كيفية طرح مسألة المعرفة كما يجب أن يتم طرحها إبستمولوجيا.

ABESTRACT

   The research in the theory of knowledge is one of the oldest and most important topics that most scientists and philosophers have researched through the ages, because it formed a problematic issue for them and worked to divide them into many doctrines and theories, according to the nature of the knowledge that was conceived and then what are its sources and how can human get For it?

And what made the question of what IS knowledge? Its importance is increasing, especially at the end of the nineteenth century and the beginning of the twentieth century is the developments that accompanied scientific theories and the delay of human theories in the development of science and not to follow it, which made many philosophers and scientists tend to be separated between the concept of the theory of knowledge as a philosophical pattern interested in research About the sources and nature of knowledge and between the concept of the theory of knowledge as a science with its own subjects and qualitative approaches.

Among the researchers and practitioners of the separation and explanation of the lapses in previous theories that tried to reconcile the epistemological between philosophy and science was the scientist Jean Piaget.

Jean Piaget, a Swiss scientist and philosopher born in Neuchatel in 1896, lived eighty-four years, four years in the 19th century and eight decades in the 20th century (1896-1980). In other words, he lived through the great events of the twentieth century, the most important of which were the two world wars, which had the deepest impact on the whole of Europe.

Piaget’s biology was the personal starting point that helped him to raise the question of knowledge in a new form and absolutism, which is the new science, which researches the theory of knowledge from the point of view of science. By meditating on the question of knowledge, which was a boon to the philosophers whom Piaget criticized, the psychology of the soul was the field that Piaget considered the bridge through which the researcher should go from how to raise the question of knowledge in biology to how to raise the question of knowledge as it should be raised, Epistemology.

(الإبستمولوجيات ما قبل التكوينية)

يعترف بياجيه بأن هنالك نظرية فلسفية في المعرفه، و علم نفسي فلسفي، وان الاختلاف الواقع بين كل من العلم والفلسفة ليس اختلافا في الطبيعة انما اختلاف في المنهج، يقول بياجيه :”علينا أن نتذكر أنه ليس هناك اختلاف في الطبيعة بين المشاكل المعرفية الفلسفية والمشاكل المعرفية العلمية. انه مجرد اختلاف في التحديد والتخصيص وهو بالأخص اختلاف منهجي. فالمنهج اما أن يكون تأمليا فلسفيا أو أن يعتمد الملاحظة المنظمة أو التجريبية أو الاستنباط الدقيق”[1]

ان من أهم مميزات نظرية المعرفة عند جان بياجيه هو كونها تربط بين الإبستمولوجيا وعلم النفس وهي من أهم ركائز المنهج التكويني، بحيث يرفض جان بياجيه الطرح التقليدي لمشكلة المعرفة ويرى أن في هذا الطرح الكثير من العيوب، فنظريات المعرفة التقليديه لم تعتبر المعرفة العلمية سلسلة وعملية تطور، ومن ثم فإن المشكلات التي كانت تعترض المعرفة في ذلك الوقت كانت تؤدي بالباحثين في الخوض بالمسائل الميتافيزيقية مما يؤديهم الى الابتعاد عن الساحة المعرفية، يقول بياجي :”لا يمكن للمعرفة أن تعتبر تامة التحديد لا في البنيات الباطنية للذات العارفة ما دامت تلك البنيات حصيلة انشاء فعلي متواصل ولا في الخصائص التي يتحدد بها الموضوع المعروف”[2]

يقسم بياجيه الابستمولوجيا التي عرفها تاريخ العلم والفلسفة الى ثلاثة أنواع حيث يقسمه بياجيه على أساس أنه إذا تم القبول بتسمية كل تفكير في العلم وكل تأسيس لنظرية حول المعرفة العلمية بالإبستيمولوجيا : “الإبستمولوجيات الميتافيزيقية أو ما بعد العلمية ،والإبتسمولوجيات الموازية للعلم ،ثم الإبستمولوجيات العلمية”[3]

التحول الذي يدعو له جان بياجي في المعرفة

ان التحول الذي يدعو له بياجي في المعرفة يجعلها تتحول من حالة السكون الى حالة التطور، وهدفه كان ربط الإبستمولوجيا بالعلوم الأخرى كعلم النفس مثلا، بحيث يرى جان بياجيه أن طبيعة الأسئلة التي وضعتها نظريات المعرفة التقليدية كانت تجعلها لا محالة تقع تحت وطأة الميتافيزيقيا مما حذى بالعلم أن يقع تحت رحمة الأنساق الفلسفية ،صحيح أن العلم أيضا اعتقد لفترة طويلة أنه قبض على الحقيقة وأنه أعطى إجابات نهائية عن سؤال ما المعرفة؟، ومن وجهة نظر بياجيه أنه علينا أن نتخلص من فكرة الثبات والاستقرار وعلينا أن ننظر الى المعرفة والذات العارفة والموضوع المعروف في نموه وحركته وليس في ثباته واستقراره.

اذا فإن هدف بياجيه هو أن يحدث تحولا في مسار ميدان الابستمولوجيا بحيث يعمل على نقلها من ميدان الفلسفة الى ميدان العلم من خلال استقلالها عن التأمل الفلسفي وتصبح فيما بعد الابستمولوجيا قائمة بذاتها مع موضوعاتها ومنهاجها الخاص. فهو يرى من جهته أن الخطأ الذي تم ارتكابه من قبل الفلاسفة في موضوع المعرفة أنهم كانوا ينظرون الى المعرفة كواقعة نهائية كاملة وليست عملية تطور ونمو، وهذا ما جعل آرائهم تبقى عقيمة غير منتجة، وغير مواكبة للتطور، ولا يجب الشك فيها أو الطعن في صدقها.

ويرى بياجيه أننا تجاوزنا اليوم هذه النظرة المعيبة، وذلك بفضل تطور العلم فلم يعد هنالك قول بقضايا نهائية غير خاضعة للتمحيص والمراجعة والتصحيح هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ليس هنالك قضايا بلا معنى والى الأبد، بل هنالك قضايا بلا معنى حاليا وذلك يحيلنا الى استنتاج أنه سيتم الكشف عن معناها يوما ما، وذلك بالرجوع الى الأساس الذي يدعونا بياجيه الى الاعتماد عليه بأن المعرفة ليست نهائية انما هي عبارة عن نمو وتطور تتعدل وتتطور باستمرار. إذا عمل بياجيه على تصنيف الابستمولوجيا كما ذكرنا سابقا الى ثلاث ابستمولوجيات، فالإبستمولوجيات ما بعد العلمية يعرفها ب: “أنها نظريات المعرفة التي إذ تنطلق من تفكير في العلوم تميل إلى أن تجعل هذا التفكير يتسع لكي يصبح نظرية عامة في المعرفة”[4].

حيث يرى بياجيه أن هذا النوع من الابستمولوجيات ساهم في تجديد ومحاولة تأسيس نظريات حول العلم، فأفلاطون الذي حاول أن يبني أسسا لنظرية المعرفة، لاحظ بياجيه أنه أغفل التحليل النفسي لدور الذات في المعرفة مع أنه اعتمد على العلوم الرياضية التي كانت معروفة قبله أو المعاصرة له، ولكن لا يمكن الاعتماد على نظرية أفلاطون بتأسيس الإبستمولوجيا، ذلك كونها لم تستطع مجاوزة النظرة الميتافيزيقية للعلم، وكما أرسطو أيضا الذي كان له مجال أكبر من حيث لم يعتمد فقط على الرياضيات انما زاد عليها المنطق، ولكن أيضا لم يتجاوز النظرة الميتافيزيقية حيث أهمل أرسطو أيضا دور الذات الفاعلة في عملية المعرفة و عمل على منح الصور وجودا مستقلا عن الذات وبذلك لم يتخلص من الطابع الميتافيزيقي الذي ميز النظريات التقليدية حول العلم.

لا ينكر بياجيه كون الفلسفة اليونانية استطاعت أن تميز الفكر الإنساني وأن تجعله ينطلق ويبرز فعالياته الفكرية، ولكن إغفالها عن الدور الفاعل للذات في عملية المعرفة جعلها تهمل الوعي الذي تنطلق منه الذات لتنتج أفكارا عن طريق البناء والتطور فلم يكن أمامها الا أن تضع الأفكار في عالم ميزته عن هذا العالم المحسوس.

و يوضح بياجيه أن العصر الحديث من ديكارت و حتى كانط عمل على اقامة توازن بين الإمتداد والفكر حيث كانت نظرتهم للذات بكونها فاعلة في موضوعات المعرفة لا بوصفها مجرد ذات متأمله، ولكنه يرى أن ما ينقصها أنها اعتمدت على علم النفس وهو غير مستقل عن التأمل الفلسفي مما جعلها تقع في تناقض إنطلاقها من علم عصر سبقها وبناء نظرية المعرفة على أساس هذه الإنطلاقة مما يحذو بها أن تنطبع بالطابع الميتافيزيقي.

اذا لم تكتمل من وجهة نظر بياجيه الشروط الموضوعية التي تمكن من تأسيس ابستمولوجيا تكون تحليلا علميا لشروط انتاج المعرفة العلمية وتكونها في هذا النوع من الابستمولوجيات. أما بالنسبة للإبستمولوجيات الموازية للعلم حيث يعرفها بياجي : “هي الإبستمولوجيات التي لا تقوم أبدا على أساس التفكير في شروط الفكر العلمي بهدف الوصول الى نظرية عامة في المعرفة، بل إنها تجتهد إنطلاقا من نقد يضع حدودا للعلم لكي تؤسس خارج حدود العلم صورة أخرى من المعرفة المختلفة عنها”[5]

ويرى أن من الممثلين لهذا الاتجاه هو الاتجاه الفلسفي الروحاني أمثال رافيسون وبيرغسون، ولكن ما يميزها عن الابستمولوجيات الفوق علمية السابقة الذكر هو أنها تضع نفسها في موازاة العلم لتبين قصور منهجه و من ثم تأكد على أن التفكير الميتافيزيقي هو التفكير الوحيد القادر على إدراك الحقيقة المطلقة للأشياء.

وقد عرض لنا بياجيه كل من وجهة نظر بيرغسون ذو النزعة الروحانية، وادموند هوسرل (الفينومينولوجيا) من خلال مبدأ القصديه، حيث يرى بياجيه أن بيرغسون قام على نقد العلم ليضع بموازاته قيمة في دراسة الواقع الطبيعي والنفسي، وهو الحدس بمقابل الذكاء، فالذكاء لا يستطيع أن يدرك الواقع الا بتمايزه وانفصاله كونه مرتبط بالعمل والمنفعة، أما الحدس فهو القادر على إدراك الواقع بحركته وديمومته، ولا يتردد بياجيه بوصف الإبستمولوجيا الموازية للعلم بأنها محاولة إحتواء وتأويل النظريات العلمية إنطلاقا من نظريات ميتافيزيقية.

كما الحال عند هوسرل الذي ينتقد علم النفس التجريبي ويضع مكانه الفينومينولوجيا بوصفها دراسة للشعور من حيث هو قصد “القصديه”، بمحاولة منه لفهم دور الشعور في فهم موضوعات المعرفة وإدراك معانيها فهو يرى أن الفلسفات التي سبقته تقتصر على الإقرار بوجود موضوعات مستقلة عن الشعور.

وكانت هذه نقطة الخلاف عند بياجيه بالبنسبة لفينومينولوجيا هوسرل، حيث يرى بياجيه أنه ينبغي الفصل بين علم النفس التجريبي و التأويل التجريبي للوقائع حيث أن هدف بياجيه هو الخروج بالإبستمولوجيا من التبعية للتأمل الفلسفي الى الإستقلال عنه. ولا ينكر بياجيه كون هذه الابستمولوجيات هي التراث التاريخي السابق الذي دعا الى جعل الإبستمولوجيا تتحرك لتحول وتغير من موضوعاتها ومنهجها وبالمقابل طبيعة نتائجها.

أما بالنسبة للإبستمولوجيات العلمية والتي يعرفها بياجيه: “هي الإبستمولوجيات التي تحصر هدفها الخاص في تفسير المعرفة العلمية ولا تهدف أبدا إلى دراسة المعرفة بصفة عامة، إما لأنها تعتبر أن المعرفة العلمية هي المعرفة الممكنة الوحيدة، أو لأنها تجعل من اختصاصها تأويل هذه المعرفة في ذاتها”[6]، والتي يصنف اتجاهه بياجيه على أساسها كونها تستنبط نظرياتها من داخل العلم والتي تكون هي في حد ذاتها علم تتبع طرق البحث العلمي والتي نقلت الإبستمولوجيا من التأمل الفلسفي الى الإستقلال بموضوعاتها ومن ثم انتهاج نهجها الخاص والوصول الى نتائجها التي استقرأتها من داخل منظومتها.

ولكن ما يميز الإبستمولوجيا التكوينية والتي تبناها بياجيه عن الإبستمولوجيات السابقه أنه يعطي علم النفس التكويني الأولوية حيث تصبح تحليلا علميا للمعرفة العلمية ويكون موضوعها هو دراسة للشروط التي تعمل على السماح للمعارف بالنمو وتكوين مفاهيم علمية خاصة بها، بمعنى آخر إقامة الإبستمولوجيا بوصفها علما يتخذ العلوم الإنسانية كعلم النفس أنموذجا كونه إستقل عن التأمل الفلسفي ومن ثم أن تتبع طريق تطوره ونموه.

Genetic epistemology

Piaget did not call what he was doing psychology. As we have seen, he preferred to identify his enterprise as genetic epistemology.

 The core insight throughout Piaget’s work is that we cannot understand what knowledge is unless we understand how it is acquired, In turn; we cannot understand how knowledge is acquired unless we carry out psychological and historical investigations.

 We have to test our hypotheses by collecting data, not only about the thinking of human infants and children, but also about the historical development of scientific ideas.

Piaget firmly rejected the idea that epistemology could be done from the armchair; he also rejected the practice, still widespread in cognitive psychology, of theorizing about memory, problem-solving, visual imagery and categorizing in adults, without regard to the manner in which these abilities developed, Piaget believed that the development of knowledge was a biological process, a matter of adaptation by an organism to an environment. He advocated what some others have called “evolutionary epistemology”.[7]

الأساس الذي يقوم عليه المنهج التكويني عند بياجيه

يقوم المنهج التكويني عند بياجيه على دراسة المعارف من حيث بناؤها الواقعي أو النفسي حيث يعتبر كل معرفة مستقلة بمستوى معين عن ميكانيزم هذا البناء، حيث يعتمد على دراسة العلاقة بين المعرفة والنمو السيكولوجي للمبادئ والمفاهيم الفكرية “المنطق” والابستمولوجيا التكوينية تهتم بدراسة المعرفة دراسة سيكولوجية علمية بوصفها عملية إنتقال من حالة دنيا إلى حالة عليا.

تعتمد أيضا على علم النفس وعلى علم نفس الطفل بالتحديد وذلك للتعرف على مراحل نمو المفاهيم العقلية ومن ثم ان اعتمادها على المنطق هو من أجل الدراسة الصورية لهذا النمو عبر مراحله المختلفة، حيث تتبع منهجا التحليل المنطقي والتحليل التكويني.

فالمبدأ الأساسي الذي تنطلق منه الإبستمولوجيا التكوينية هو كما يوضحه بياجيه: “هو نفس المبدأ الذي تشترك فيه جميع الدراسات التي تتخذ موضوعا لها : النمو العضوي، وهو أنه لا يمكن الكشف عن طبيعة واقع حي بمجرد دراسة مراحله الأولية وحدها ولا بدراسة مراحله الأخيرة وحدها بل بدراسة حركة تحولاته نفسها”[8]

اذا فمهمة التحليل المنطقي أن يدرس المعرفة من خلال الإنتقال من حالة دنيا من الصدق إلى حالة عليا منه بمعنى أن المعرفة ليست حالة ساكنة يمكن وصفها وصفا نهائيا مطلقا بل هي صيرورة فالبنيات الرياضية والمنطقية والتجريبية لا تتحقق دفعة واحدة وتبقى كذلك الى ما نهاية بل هي نتيجة لتاريخ من التحولات و من الثورات فهو بحث تاريخي في العلوم يتجاوز الطرح الفلسفي التقليدي لمسألة المعرفة فالتفكير بالمفاهيم العلمية عبر تطورها في الزمن يجعلنا لا نفترض وجود هذه البنيات بصورة قبلية في الذهن وعدم بناء المعرفة من خلال تبعية مطلقة لموضوعات المعرفة.

التحليل التاريخي التكويني

أما التحليل التاريخي التكويني الذي يدعو له بياجيه فهو يظهر المعرفة بوصفها جدلا مستمرا بين الذات والموضوع ومن ثم يتم التطور عبر هذا الجدل فصيرورة المعرفة تجعل من غير الممكن الفصل بين المعرفة وسياقها التاريخي ومن ثم البحث في المفاهيم و في جذورها الأولية في الفكر الإنساني.

يقول بياجيه بهذا الصدد : “إذا كانت الإبستمولوجيا التكوينية تعود بنا الى البحث التاريخي فإنها تفعل ذلك بقصد مزدوج هو تأسيس منهج يكون قادرا على منحنا وسائل مراقبة وعلى العودة بنا بصفة خاصة الى المصادر أي الى تكون المعارف ذاته وهو ما لم تكن الإبستمولوجيا التقليدية تعرف إلا مراحله العليا ،أو بتعبير آخر إنها لم تكن تعرف إلا نتائجه”[9]

يحاول بياجيه أن يجعل الإبستمولوجيا عبارة عن جمع بين الدراسة الوضعية والدراسة المعيارية، يقول : “فلو كان الأمر يتعلق بالصلاحية وحدها فإن الإبستمولوجيا تؤول الى المنطق ،ولكن المشكل الذي تهتم به الإبستمولوجيا ليس مجرد شكل صوري بل إنه يرجع إلى تحديد الكيفية التي تبلغ بها المعرفة الواقع ،وبالتالي إلى تعيين العلاقات التي تربط الذات بالموضوع . ولو كان الأمر يتعلق بالوقائع وحدها فإن الإبستمولوجيا تؤول الى مجرد علم نفس والى سيكولوجيا تدرس الوظائف المعرفية. إلا أن هذه ليست قادرة على حل مشاكل الصلاحية”[10]  .

اذا فالابستمولوجيا التكوينية التي يريدها بياجيه عبارة عن بحث يدرس دلالة المعارف والبنيات الإجرائية والمفاهيم بالاستعانة بكل من تاريخ المعارف قصد الدراسة وحالتها الراهنة في علم معين وهيما يزودنا بها المختصون في هذا العلم ومن جهة أخرى الرجوع الى الجانب المنطقي بالإستعانة بالمناطقة وأخيرا إلى تشكلها النفساني وعلاقتها بالبنيات الذهنية.

اذا ما أصبح يهم الإبستمولوجيا التي تطبق المنهج التكويني هو الإنتقال من ذات عارفة مجردة إلى دراسة ذات نفسية عينية في وضع محدد وهذا الوضع هو الأفعال التي تقوم بها هذه الذات من أجل أن تصل إلى المعرفة وتنتجها، وهذه الأفعال نفسها تنقل المعرفة من كونها حالة إلى صيرورة وهذا الإنتقال من ذات عارفة إلى ذات نفسية هو ما كان يبحث عنه بياجيه عند قوله عن الإبستمولوجيا التكوينية. فعودة الإبستمولوجيا الى المعطيات النفسية ذلك لأهميتها في فهم نمو المعارف والمفاهيم المرتبطة بالنمو لدى الإنسان والمرتبطة بالتطور العقلي لدى الإنسان منذ ولادته الى لحظة إكتمال النضج العقلي وهو سن المراهقة.

ولكن يؤكد بياجيه أن إرجاع أصل أي مفهوم لدى الإنسان إلى سن الطفولة لا يعني أننا نبحث عن أصل المعنى المطلق بل شروط تكون المفاهيم بالايستمولوجيا التكوينية تقوم على تطبيق مبدأ أنه ليس هنالك بداية مطلقة ولا نهاية مطلقة . ومن ثم فالتأكيد على ضرورة الرجوع الى سنوات التكون الأولى لا يعني أن لها أفضلية أو تميز عن غيرها من المراحل بل هو تأكيد على وجود بناء مستمروتطور ونمو في البنية وفي المعرفة على حد سواء.

اذا فالمنهج التكويني الذي يستند الى المعطيات النفسية التكوينية يؤدي الى طرح المعرفة طرحا جديدا قالتساؤل الذي ينطلق من دراسة المفاهيم وتكونها من مثل “العدد، المكان، الزمان، العلية، والصدفة”عند التطور من الطفولة إلى المراهقةيساعد على دراسة الكيفية التي تتكون بها المفاهيم ذاتها في العلم دون إغفال قيمة هذه الدراسة لعلم النفس أيضا خصوصا علم نفس الطفل.

المراجع

  1. [1] عبد السلام بن عبد العالي/سالم يفوت. (1988). درس الإبيستيمولوجيا. الدار البيضاء، المغرب: دار توبقال للنشر ص59.
  2. [2]المصدر نفسه ص 54
  3. [3]محمد وقيدي.(2007).الإبستمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه.الدار البيضاء، المغرب: أفريقيا الشرق للنشر ص65.
  4. [4]  المصدر نفسه ص66.
  5. [5]  المصدر نفسه ص 72.
  6. [6]  المصدر نفسه، ص77.
  7. [7] Robert L. Campbell, Jean Piaget’s Genetic Epistemology Appreciation and Critique:,Charlottesville, VA, July 7 and 8, 1997
  8. [8]  الدكتور محمد عابد الجابري الطبعة الخامسة (2002).مدخل إلى فلسفة العلوم ،العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي.الحمراء-بيروت لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية ص38-39.
  9. [9] محمد وقيدي. (2007).الإبستمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه.الدار البيضاء ،المغرب ،أفريقيا الشرق للنشر ص 106.
  10. [10] عبد السلام بن عبد العالي/سالم يفوت. (1988). درس الإبيستيمولوجيا. الدار البيضاء، المغرب: دار توبقال للنشر ص 58.

بقلم: آيات قبها

 

أضف تعليقك هنا