الرُوح المُطلق في فلسفة هيجل

إن المُطلِع على مَتن فَلسفة جُورج هِيجل يَجِد مَدى تَماسُك هذا الأخير، ذَلِك نَظَرا لِكونه حَاول تقديم وِجهة نَظر فَلسفية شَامِلة لِكل مَا هو مَوجُود، وَكيفِية سَير هذا الوُجُود. فَبِالرغم من التركِيز وإعطاء الأولية لما هو فِكري على حِساب ما هو وَاقِعي، إلا أن هذا لا يَعنِي أنه تم إغفَال الوَاقِع، بل العكس؛ فَهِيجل دَرس الوَاقِع جَيِدا باعتبارهِ طَبِيعة تَتَجسد فيها الأفكار، تلك الأفكار التي تَنطلِق من المُطلق لِتَعُود إلى المُطلق أكثر تَكامُلاٌ. ومن هذا المُنطلق نطرح السؤال الاتي: ما المقصُود بالمُطلق في فلسفة جُورج فيلهيلم هِيجل؟

الروح المُطلق في فلسفة هيجل

لقد بَلَغت المثالية مع هِيجل أوجَها، فهو جَعل مِنها شِعار مَشرُوعِه الفلسفي المُمتد، لذلك فعالم الأفكار سَابِق على الواقع عند هيجل، والرغبة في فَهم الواقِع تتطلب تتبع تطور الأفكار منذ ظهورها وتَجسُدها على أرض الواقِع (الطبيعة) حتى تَطوُرها وِفق مسار جَدلِي ثُلاثي المراحِل. والأفكار في تطورها لها غاية وليست عشوائِية، والشيء في الطبيعة كمادة ملمُوسة مُنطلقها الفكرة ونهايتها عالم الأفكار.

يَتَشكل عَالم أَفكار هِيجل من عِدة أفكار؛ أفكار مُتناقضة فيما بينها أو ما يُمكن أن نُسمِيه بعالم المُطلق. لقد اختلف شُراح هِيجل حول مسألة المُطلق؛ فهُناك من اعتبره هو الله، وهناك مَن قال على أنه عالم الأفكار المَعزُولة عن الواقع (الذات) التي تتجسد في الموضوع مع تطور الأزمِنة (الطبيعة).

لقد شكلت الاختلافات التي أفرزتها فلسفة جُورج هيجل قوة أكثر ومتانة لهذا المتن، ذلك عبر نقده وتطويره؛ فالفكر عامة يَتطور عبر نقده وتَجاوزِه، لذلك فنَد فِكر هيجل لا يعني هدمهِ بقدر ما هو إعادة بناء وإعادة تشكيل. لذلك فمسألة المطلق كمفهوم من أهم القضايا التي أُختلف في مكنونها، لكن الشيء أساس هو كون المطلق الهيجلي بداية الفكر ونهايته؛ هذا المُطلق الذي يُشكل العالم في وحدته وكماله، وهو أزلي؛ خارج عن الزمان والمكان لأنه يَتضمن كُل زمان ومكان في فِكره المُتناهي الذي يشمل كل شيء، ويُصبح هذا المطلق أكثر واعيا في الإنسان، أي أنه ينتقل من الروح المطلق ويعي نفسه في وعي الإنسان.
إن المطلق يتطور وِفق مسار ثُلاثِي من فِكرة مُطلقة في ذاتِها (المنطق)، إلى الفكرة مُتجسدة في الطبيعة (فلسفة الطبيعة)، وأخيرا الفكرة المُطلقة؛ أي عودة الأفكار إلى الأصل من الروح المُطلق إلى الرُوح المُطلق.

لقد جعل هيجل الروح المُطلق في تطور أبدي ومُطلق، وجعل من التاريخ زمنا لتطوره، ومن الطبيعة مكنا لِيُجسد أفكارهِ؛ فمثلا فِكرة العدالة والديمقراطية كفكرة تتجسد في مؤسسات الدولة (البرلمان مثلا)، وكذلك الإنسان كفكرة يتجسد في جسد وجِسم الإنسان الذي يتكون من عِدة أعضاء تُشكل لنا الكُل المُتماسِك.

تنتقل الفكرة المُطلقة عن طريق جدل مُثلثات كثيرة لكل منها له موضوعه، ونقيضه، ومركبه . طبعا تطور المُطلق وفق هذا المسار الجدلي، يَتطلب توظيف نفس المنهج لإدراك مَكنُون هذا التطور. فالمذهب الهِيجلي بوجه عام ينسجم مع مسار تطور الروح المُطلق الثلاثي، حيث نجد المنطق وفلسفة الطبيعة ثم فلسفة الروح، فلكل تخصص مجال يدرسه؛ المنطق (الفكرة في ذاتها؛ أي قبل خُروجها من الروح المُطلق إلى الطبيعة)، وفلسفة الطبيعة تدرس الفكرة في الطبيعة، أما فلسفة الروح فهي تهتم بعودة الفكرة إلى الأصل، إلى الروح المُطلق ويُقسمها هِيجل كالاتي: الفلسفة والدين والفن.

الفن كَتَجسِيد للروح المُطلق

من أجل مُعالجة مسألة الفن في فلسفة هِيجل، من الضروري إعادة التذكِير بِنسقية العلوم عِند هِيجل، والتي قسمها كالاتي: المنطق، فلسفة الطبيعة، فلسفة الرُوح. وفلسفة الروح في جوهرها تدرس الفكرة في المرحلة الأخيرة من تطورها، والفكرة في نهايتها –عند هيجل- تتجسد في الفن والدين والفلسفة. لذلك ففلسفة الروح بِصفة عامة في المتن الهِيجلي تُشير إلى التجارب الحضارية الإنسانية بِشكل عام. كان هيجل يرى أن الفكرة عندما تتطور حتما سَتصِل إلى المُطلق لِتتجسد في الفن والدين والفلسفة؛ فالفن هو رُؤية للأفكار بِشكل مَحسُوس؛ الجمال يتجسد في لوحة فنية أو منحوتة أو قصيدة شعرية أو تِمثال لأحد الآلهة اليونانية… أما الدين فهو وحَدة والتقاء بين الإلهي والبشري، أما في الفلسفة فينكشِف المُطلق في تصوُرات الفكر الخالص. وثِمة علاقة وثيقة للغاية بين تلك الإنجازات الثلاثة العُليا للروح، والتي يكتما بها المذهب .
من أهم مظاهر ظهور وتجسُد الحقيقة؛ تجسُدِها في الفن باعتبارها حقيقة أو واقِعة مُطلقة في وسيط محسوس يتجلى إبداع فني سواء لوحة أو قصيدة شعرية أو ألحان موسيقية…إلخ

خُلاصة عامة:

كان هِيجل يرى في العقل كل شيء؛ الأفكار في ذِاتها والأفكار الخَارِجَة عن ذاتِها والأفكار لِذاتها، والفِكرة كي تنتقل من مَرحلة لأخرى لابُد من سلك مسار جدلِي ثُلاثي: من المنطق (الفكرة في ذاتها)، فلسفة الطبيعة (الفكرة خارجة عن ذاتِها)، والفكرة لِذاتها (فلسفة الطبيعة). طبعا مُنطلق هذا الأفكار ونِهايثُها يُشكل لنا المُطلق؛ يعني الروح المُطلق هو البداية والنهاية (بِداية الفكرة ونِهايَتُها)، هذه النهاية التي تتجسد في الدين والفلسفة والفن.

فيديو مقال الرُوح المُطلق في فلسفة هيجل

 

أضف تعليقك هنا