عرض كتاب: ما المعرفة؟

يهدف هذا المقال الى تقديم عرض موجز لكتاب “ما المعرفة” ما أجل تعميم فائدته على القراء. ويتمثل هذا العرض فيما يلي:

  • هيكل الكتاب: يقع كتاب “ما المعرفة؟”  تأليف دنكان بريتشارد – استاذ الفلسفة في جامعة سترلنغ، و أستاذ الابستمولوجيا في جامعة ادنبرة- و ترجمة مصطفى ناصر في (294) صفحة؛ و هو من منشورات سلسلة عالم المعرفة العدد (404)، دولة الكويت، عام (2013)

يحتوي الكتاب على مقدمة المترجم، و مقدمة الكتاب ثمّ ثلاثة أجزاء متتالية. يضم الجزء الأول تحت عنوان “ما المعرفة؟” ستة فصول هي: بعض المسائل التمهيدية، قيمة المعرفة، تعريف المعرفة، تركيبة المعرفة، العقلانية، مهارات و قدرات. و يضم الجزء الثاني بعنوان “ما مصادر المعرفة؟” خمسة فصول هي: الأدراك الحسي، الشهادة و الذاكرة، البديهة و الاستدلال، مشكلة الاستقراء، المعرفة الأخلاقية (دراسة حالة). و يضم الجزء الثالث بعنوان “هل نعرف أي شيء؟” ثلاثة فصول هي: الشكوكية بشأن وجود عقول أخرى، الشكوكية المتطرفة، الحقيقية و الموضوعية. ويختتم الكتاب بقراءات عامة مقترحة و ملاحق المصطلحات و الأمثلة الرئيسية. فالكتاب على هذا النحو ذا تنظيم عالٍ من حيث هيكله و تسلسل أفكار يدور حول ثلاث نقاط و هي:١) تحديد المعرفة و تعريفها ٢) مصادر المعرفة مع توضيح تطبيقي على المعرفة الأخلاقية و ٣) معقولية أن نعرف شيئا.

  •  مقدمة المترجم: أشارت مقدمة المترجم القصيرة الى أهمية المعرفة في حياتنا ما تشي بسر اهتمامنا بها مع تعريج سريع على نظرية المعرفة و وصف مقتضب للكتاب على أنه ‘نموذجياً لأرشادياً على الابحار في محيط نظرية المعرفة و مواجهة تياراتها الفكرية’، و لهذا أختار أنه يترجمه الى العربية
  • مقدمة الكتاب: أكد مؤلف الكتاب في مقدمة قصيرة عنوانها “ما فائدة هذا الكتاب؟” أنه أتبع اسلوباً سلساً في كتابته ليكون مرشداً للقارىء في سبر أغوار نظرية المعرفة، ثمّ عرض سريعاً أجزاء الكتاب الثلاثة و فصوله المتعددة مع الأشارة أنه ختم كل فصل بخلاصة للنقاط الأساسية التي وردت فيه مع بعض الأسئلة التي تفيد في المراجعة و النقاش.

الجزء الأول: ما المعرفة؟

(1) بعض المسائل التمهيدية: أشار الى الابستولوجيا هي نظرية المعرفة تبحث في أحدى جوانبها عن الأساس المشترك بل كل أنواع المعرفة كالمعرفة الجغرافية و اللغوية و الاخلاقية و الرياضية.. الخ. و حدّد نمطين من المعرفة هما: أولا، “المعرفة الافتراضية” التي تنطوي على افتراض يثبت شيء او حادثة على وجه حقيقي و مبرّر. و حتى يصل المرء الى امتلاك افتراض معين ينبغي أن يعتقد به اعتقادا حقيقيا يطابق فيه الافتراض المعتقد حقيقة الشيء المعتقد به، و ينبغي أيضا أن يكون هذا الاعتقاد الحقيقي قد وصل اليه وفق مبررات و ليس بمحض الصدفة. و لذا، تتطلب هذه المعرفة امكانات فكرية معقدة من جانب الشخص الذي تنسب اليه. ثانيا، “معرفة القدرة” أي اتقان المرء لطريقة عمل شيء ما دون أي يعرف مبادئها و فرضياتها. و هذه تتطلب امكانات فكرية اقل تعقيداً من المعرفة الافتراضية.

(2) قيمة المعرفة: تسعى نظرية المعرفة الى تفسير قيمة المعرفة مع أن أسباب ذلك غير محدد بوجه قطعي. يمكن معرفة قيمة المعرفة من خلال ملاحظة أن للمرء افتراض معين أي لديه اعتقاد حقيقي بهذا الافتراض التي بذاتها لها فائدة لا يمكن تجاوزها اذ أن للاعتقاد الحقيقي ذاته قيمة لأنه يتيح السبيل من تحقيق الأهداف. و لكن ليست كل الاعتقادات الحقيقية ذات قيمة فعالة؛ ترتبط اعتقاداتنا أحيانا بأمور تافهة. و قد تكون الأعتقادات الزائفة أحيانا ذا قيمة أكبر من لو كانت اعتقادات حقيقية. لذا، نجد المخرج في الايمان بأن قيمة المعرفة في أنها تتيح لنا تحقيق الكثير من اهدافنا أن استقر لدينا الاعتقاد الحقيقي و أصبح مبرّرا ما يجنبنا الخطأ. و أشار أيضا الى وجود بعض أشكال المعرفة ذات قيمة جوهرية في ذاتها مثل المعرفة التي ترتبط دائماً بأمور نافعة مثل الصداقة أي أن أعرف أصدقاء، ‘الحكمة’ التي تتسم بذاتها بالسمو الروحي.

(3) تعريف المعرفة: تحاول نظرية الأبستمولوجيا تعريف المعرفة لكنّها تقع في ‘مشكلة المعايير’ التي ينبغي اتباعها في التعريف. يوجد مسلكين هما؛ مسلك الخصوصية نبدأ فيه من خلال تحديد أمثلة تقع ضمن نطاق المعرفة ثم نستخلص معايير مشتركة للمعرفة، و لكن مأزق هذا المسار هو أننا نفترض حالات معرفية مسبقا قبل تحديد المعايير. أو مسلك المنهجية و نبدأ فيه بالتأمل الفلسفي في طبيعة المعرفة و تحديد جوهرها! و مأزق هذا المسلك هو صعوبة ايجاد طريقة تتيح لنا تحديد معايير المعرفة دون أن نتمكن من تحديد حالات معرفية. ربما ان معايير المعرفة بسيطة بحيث نتمكّن عبر التأمل وحده الى الوصول لها، و لكن لا يبدو ان هذه البساطة تساعدنا في التوصل الى حل. و قد ناقش مقترحين لحل المشكلة، هما: 1. ان المعرفة مجرد ‘اعتقاد حقيقي’ لكنه يتقوّض بفعل حالات من الاعتقاد الحقيقي التي ترتبط بالحظ و لا تعد حالات معرفية. 2. ان المعرفة ‘اعتقاد حقيقي مبرّر’، لكن يتقوّض هذا المقترح بفعل “حالات غيتير” التي بىهن صاحبها أن بأمكان المرء امتلاك معرفة دون ان تنطبق عليه المعايير الثلاثة: اعتقاد حقيقي مبرّر. و هكذا يصل المؤلف الى الأقرار بعد وجود تحليل مقبول و مبسط للمعرفة داعياً الى التعاون على مستوى العالم من أجل  ابتكار طريقة جديدة لفهم المعرفة.

(4) تركيبة المعرفة: تبيّن أن التبرير أمر ضروري للأعتقاد الحقيقي، و لهذا ناقش هذا الفصل ماهية التبرير. تواجه ماهية التبرير معضلة تُعرف باسم “ثلاثي معضلة أغريبا” على اسم الفيلسوف الأغريقي أغريبا تتضمن ثلاثة بدائل مزعجة حول ما الذي يمكن ان يبرر الاعتقاد وهي: أولا، أنه لاشيء يبرر الاعتقاد، فلا حاجة للأدلة المساندة الأخرى حتى يتحقق الأعتقاد في نفس صاحبه. و هذا غير مقبول لأن أي اعتقاد حقيقي لابد أن يقف على أدلة مساندة تدعمه، فهذه الادلة بمثابة الأسس التي يقوم عليها المنزل. ثانيا، ان نسند اعتقادنا الى اعتقادات الأخرين مثل أن اعتقد بنحو مبرّر أن الأرض تدور حول الشمس لأني قراءته في كتاب علمي موثوق أي بنيت اعتقادي على أعتقاد أخرين. و لكن ما الأدلة التي تدعم اعتقادات الأخرين و تجعلها مبرّرة حتى يصبح اعتقادي القائم عليها أيضاً مبرّرا. نفشل في تقديم أدلة داعمة قائمة اساس عقلي. هكذا، سأقع في تقديم سلسلة غير محدودة من تبريرات الأضافية التي لا تتضمن دليلا داعما يظهر أكثر من مرة. ثالثا، يقود أيضا اسناد اعتقادي الى الى اعتقادات الاخرين الى الوقوع في سلسلة مغلقة من التبريرات فيها دليلا مساندا محدودا يظهر أكثر من مرة؛ أعتقد بدوران الأرض حول الشمس لأن أستاذي في المدرسة أكد لي أنه جلبه من مصدر علمي موثوق، و لكن ما يبرر ثقتي بما أخبرني به استاذي، أنه كان يقول أنه ينسجم مع ما هو مذكور في الكتب العلمية. فهي فعلا سلسلة تبريرات دائرية يظهر فيها الدليل نفسه مرة تلو المرة. جاء الرد على هذه المعضلة الثلاثية أيضا بثلاثة ردود هي: اولا، ترى اللامحدودية أن أي سلسلة من الأدلة التي لا نهاية محدودة لها بامكانها أن تبرر الاعتقاد. ثانيا، تنص الترابطية المنطقية عند كوين أن السلسلة الدائرية من الأدلة ما دامت تمتاز بالخصائص الصحيحة بصرف النظر عن نوعها يمكنها أن تبرر الاعتقاد. وهذا لأن الأدلة التي نقدمها للاعتقاد بأي اي افتراض تنطوي ضمنيا على شبكة عامة من الاعتقادات الأخرى التي نتمسك بها و تشكّل نظرتنا الى العالم. ثالثا، تنص التأسيسية عند ديكارت على وجود بعض الأدلة التي لا تتطلب أي اسناد اضافي، و يمكنها بالتالي أن تفيدنا بذاتها كأسس داعمة للاعتقادات التي تستند اليها، فهي تبرّر ذاتها بذاتها. أي تتركب المعرفة بطريقة معينة تنتهي سلاسل متعددة من التبريرات باعتقادات تأسيسية تبرر ذاتها بذاتها دون الحاجة الى اسناد اضافي.

(5) العقلانية: تهتم نظرية المعرفة بطريقة التمييز بين الموقف العقلاني و الغير عقلاني لأن أولا الأعتقادات العقلانية مرشحة أكثر أن تقع ضمن ميدان المعرفة لأنها تقوم على أسس رصينة تجعلها اعتقادات حقيقية، و ثانيا لوجود علاقة قوية بين  العقلانية و التبرير الذي يعد ضرورة لتحقق المعرفة؛ اذ كل اعتقاد حقيقي مبرّر يكون مبرّراً. ذكر المؤلف أن العقلانية المعرفية هي ميدان اهتمام نظرية المعرفة؛ فهي نوع من العقلانية تركز على الاعتقاد الحقيقي لا غير، و هكذا تختلف عن عقلانية خداع الذات الذي فيها يحاول المرء اقناع نفسه باعتقاد معين حتى يتجاوز مشكلة ما كأن يقنع نفسه أن يستطيع القفز من مكان مرتفع هرباً من عصابة تطارده. يقترح المهتمون طريقة لفهم العقلانية المعرفية و هي “محاولة المرء زيادة اعتقاداته الحقيقية، أي أن يحصل على أكبر قدر من الحقائق. و لكن يواجه هذا الطريق مشكلتين هما: ١. يمكن أن يصل المرء الى اعتقادات تافهة مثل محاولة حفظ كل ألاسماء و الأرقام في دليل الهاتف من خلال سعيه الى زيادة اعتقاداته. فكان الاقتراح لهذا المأزق، أما اعتبار كل ما يظهر في هذه الحالة شيء عقلاني من منظور معرفي، أو اعتبارها مشكلة وهمية لأنها لا تصمد أمام التفحص الدقيق، فلا تعد عقلانية من الناحية المعرفية. ٢. تظهر اعتقادات زائفة غير حقيقية مع محاولة جمع اكبر قدر من الاعتقادات الحقيقية. و هذا ما يقودنا الى فهم جديد للعقلانية المعرفية و هو “تقليص الاعتقادات الزائفة” و لكن هذا يعني ان لا نعتقد بشيء طالما لا نريد الخطأ و هذا بطبيعة الحال سلوكاً غير عقلاني معرفياً. اذن، نستنتج أن فهم العقلانية المعرفية يتطلب “تحقيق نوع من التوازن بين هدفي زيادة الاعتقادات الحقيقية و تقليص الاعتقادات الزائفة”. ثم مضى المؤلف في سياق الحديث عن العقلانية و المسؤولية الى التمييز بين نوعين من المفاهيم عن العقلانية المعرفية هما: 1. العقلانية المعرفية الأخلاقية التي تحكم على المرء بأنه عقلاني من الناحية المعرفية ما دام أنه توصل الى اعتقاداته بطريقة تجنبه اللوم حتى لو طبّق معايير معرفية خاطئة مثل أن يصدر المرء حكماً ببراءة أخر عن طريق رمي قطعة نقدية لأنه تعلّم أن هذه الطريقة هي المتبعة في الوصول الى الحكم مع أنها خاطئة، فهو بهذا لا يقع عليه اللوم. أي أن هذا المفهوم يربط بشكل وثيق بين الموقف المعرفي و مسؤولية المرء عمّا يصدر عنه و لهذا يعتبر هذا الفهم شكلاً من الباطنية المعرفية. 2. العقلانية المعرفية الغير أخلاقية التي ترفض الشكل الأول و تلتزم بموقف صارم فلابد حسب هذا المفهوم من الوصول الى اعتقادات حقيقية عبر اتباع معايير معرفية صحيحة، اذ ينبغي أن يتفحص المرء الأدلة حتى يصدر الحكم ببراءة شخص أخر، و لا يكون الحكم الا بهذا الطريق سواء تعلّمه أم تعلّم غيره. أي يفصل هذا المفهوم بين الموقف المعرفي و الأخلاق بحيث يسمح للوضع المعرفي أن يكون قابلاً للأعتماد على عوامل تقع خارج نطاق سيطرة المرء، و لهذا يعد هذا الفهم ظاهرانية معرفية. و يشير المؤلف الى أن العقلانية المعرفية الأخلاقية أقرب لفهمنا الاعتيادي لمصطلح ‘عقلاني’ و هو أقرب الى فهمنا لمصطلح ‘التبرير’، لكن هذا النمط من العقلانية كما يبدو لا يتضمن علاقة قوية مع المعرفة. و لهذا اقترح المؤلف بناء على ما سبق مشروعين ابستمولوجيين – أحدهما يتناول دراسة المعرفة، و الاخر يركز على التبرير و العقلانية المعرفية الاخلاقية.

(6) مهارات و قدرات: يناقش هذا الفصل “الموثوقية” تحت عنوان ‘مهارات و قدرات’ انطلاقاً من أن المعرفة انجاز ادراكي من نوع ما لابد أن تتحقق بنحو مبرّرٍ و ليس بمحض الصدفة. و لكن اعتبار المعرفة ‘اعتقاد حقيقي مبرّر’ تمّ التشكيك فيه بفعل حالات غيتير ما دفع الى القول: ينبغي اعتبار المعرفة اعتقادا حقيقيا يتم التوصل اليه بطريقة موثوق بها، أي ادراج ‘الموثوقية’ ضمن معايير المعرفة؛ فتكون طريق المعرفة موثوقة في حال استشار المرء مثلا – لمعرفة الطقس ليوم غد – السلطة المختصة بأحوال الطقس، و تكون غير موثوقة اذا اعتمد على رمي قطعة نقدية على الأرض. و لكن الموثوقية ذاتها لا تصمد أمام حالات غيتير. على سبيل المثال، أن كان المر يعرف درجة حرارة الغرفة من خلال النظر الى محرار موثوق به، و لكن هذه المرة اختبىء شخص في الغرفة و أخذ يلعب بالمحرار وفق اعتقادك، فانت تصل الى اعتقاد حقيقي عن درجة الحرارة و لكن بطريقة غير موثوقة لأن شخصاً ما يعدّل درجة حرارة المحرار على هواك. و لهذا بدت ‘الموثوقية’ ضعيفة ليس بالامكان الدفاع عنها. فجاء الحل بما يسمى “ابستمولوجيا المهارة” التي تنص على أن: المعرفة تتطلب اعتقادا حقيقيا يتوصل اليه المرء عبر عملية تتطلب ‘مهارات معرفية أو قدرات ادراكية’ موثوقا بها. أي تتم المعرفة عبر مهارة معرفية بصفتها مزية شخصية او بلغة اخرى ‘الوعي’ حيث يعرف المرء طريقة الوصل الى اعتقاداته من خلال توخي الحذر و تفادي ارتكاب الأخطاء. أو يتوصل للمعرفة من خلال قدرة ادراكية تلقائية لاارادية بصفتها قدرات طبيعية غير مكتسبة مثل البصر تتيح له طريقاً موثوقاً به في الوصول الى الاعتقادات. و يواجه هذا الشكل المعدّل من الموثوقية مشكلة هي ‘امتلاك المرء اعتقادات زائفة بصورة موثوقة عن طريقة الفعل’ مثل الشخص الذي يعرف جنس الدجاج من خلال اللمس و لكنه عملياً يعرفه من خلال الرائحة، فهو بهذا لا يعرف طريقته في الفعل. كما قد لا يملك المرء مبررات وجيهة تدعو الى التفكير في أن طريقته للفعل موثوق بها. فانقسم الرأي بين اتجاهين هما: تؤيد الظاهرانية المعرفية الموثوقية و تعتقد بوجود معرفة في مثل هذه الحالات حيث يُسمح للمرء ان يتوصل الى معرفة في بعض الأحيان ان لم تتوافر لديه أدلة على موثوقية طريقته طالما يلبي شروط لها علاقة بالموثوقية. بينما تنكر الباطنية المعرفية وجود معرفة في مثل هذه الحالات أذ لابد أن يقدم المرء أدلة أضافية تدعو للتفكير في أنه موثوق به.

الجزء الثاني: ما مصادر المعرفة؟

(7) الأدراك الحسّي: نكتسب كثير من معرفتنا عن العالم عن طريق الأدراك الحسي، أي اعتماداً على القدرات الحسية مثل السمع و البصر و اللمس و غيرها. تتمثل أحد مشاكل الادراك الحسي في أن الشكل الذي تبدو عليه الأشياء ظاهرياً بالنسبة لنا لا يعبر دائماً عن شكل تلك الأشياء واقعياً مثل أننا نرى العصا المستقيمة تنحني عندما توضع تحت سطح الماء او مثل ظاهرة السراب، أي قد تخدعنا حواسنا و تنقل لنا واقعاً غير الواقع الحقيقي. و يزداد وهم الحواس غرابة في تجارب حسية بعيدة جدا عن الوثوق بها مثل اخفاء الألوان الحقيقية للأشياء من خلال تسليط أضواء الفلورسنت عليها أو اللجوء الى الخدع البصري. و بذا، فان الادراك الحسي يكون فيه دائماً احتمال لأن تقودنا الى اعتقادات زائفة. يمكن أن نتغلب على احتمال الخطأ في الأدراك الحسي حينما نعرف مثلا عن انكسار الضور فندرك أن العصا الا تنحني حقيقةً في الماء، و نعرف حركة الهواء الجاف فندرك ان ما نراه سراباً و ليس ماء.

لكن المشكلة الحقيقية في أن الأدراك الحسي يصنع لنا ‘واقع وهمي’ عن الواقع الحقيقي مثلما أننا حقاً نعيش التجربة. فحين يرى المرء واحة ماء حقيقية أمامه، و يرى آخر بفعل الهلوسة واحة ماء حقيقية؛ فكلاهما رأى واحة ماء و لكن الأول حقيقة و الثاني وهم، و لهذا سميت هذه الظاهرة “الدليل المستمد من الوهم” اذ ان معرفتنا التي نكتسبها هي نوع غير مباشر من المعرفة ليست مؤكدة أبداً. فهي لا تضعنا في حالة تواصل مباشر مع العالم بل تستند الى ‘الاستدلال’. و هذا ما أدى الى ظهور [الواقعية غير المباشرة] التي ترى أننا نكتسب معرفتنا عن العالم بصورة غير مباشرة و ذلك باجراء استدلالات تستند الى انطباعاتنا الحسية، حيث تبيّن ظاهرة الوهم في الادراك الحسي أن تجربتنا لا تقدّم لنا العالم ذاته بل هو انطباع عن العالم يجب علينا بعدها ان نقوم باستدلالات عن الصورة الحقيقية للعالم. و دعم هذا التوجه ‘جون لوك’ الذي ميّز بين ‘الخصائص الأولية’ و هي سمة في الشيء يكتسبها بمعزل عن ادراك الانسان لها مثل الشكل، و ‘الخصائص الثانوية’ للشيء التي تعتمد على ادراك الانسان مثل اللون. حيث تكون الواقعية غير المباشرة في وضع يؤهلها لاستيعاب الفرق بين هذه الخصائص للأشياء. و تتعقّد المشكلة حينما نصل الى أن يكون العالم مثلما يدرك حسيا و العالم مثلما هو في الواقع شيئين مختلفين جذرياً، و هذا ما يعرف “مشكلة العالم الخارجي“. و بهذا تمهّدت الطريق – بعد أن فقدنا الأسس التي تدعونا لتصور عالم حقيقي بمعزل عن تجاربنا فيه- الى ظهور [مثالية] بيركلي التي ترفض وجود عالم خارجي او وجود عالم مستقل عن تجاربنا فيه بقوله: “ان معنى وجود الأشياء أنها تدرك حسيا”، فمعرفة الادراك الحسي ليست عن عالم يقع بمعزل عن ادراكنا الحسي فيه بل معرفة عن عالم تتشكل صورته من ادراكنا الحسي له.  ان العالم يتوقف عن الوجود حين يعجز أحدنا عن ادراكه حسيا، فلا استطيع القول ان شجرة تسقط في غابة لانني لم اراها و لم يرها أحد، فالحادثة لم تحصل من وجهة نظر المثاليين. و ظهرت تبعا [المثالية المتسامية او المتعالية] لايمانويل كانط و التي تنص على أننا فيما نعجز عن التوصل الى أي معرفة تجريبية عن العالم الخارجي (المستقل عن التجربة)، فاننا لابد أن نفترض وجود هذا العالم الخارجي حتى نتمكن من استخدام العقل لاظهار حتمية وجود عالم خارجي تتجسد فيه تلك التجارب بوضوح. و أخيراً، تتضمن [الواقعية المباشرة] أننا نستطيع بصورة مباشرة ادراك العالم من خلال تجاربنا، و ترفض الاستنتاج القائل ان ادراك العالم من خلال التجربة المباشرة شيء مستحيل. انني حين ارى واحة أمامي بشكل واضح فانني ادرك وجودها مباشرة، هكذا اصل الى معرفة الادراك الحسي عن واحة حقيقية أمامي دون اجراء استدلال.

(8) الشهادة: نعتمد في اعتقاداتنا كثيرا على النقل اللفظي مباشرة من الاخرين، و نأخذ عنهم بطرق غير مباشرة مثل أخذ الافكار من الكتب و غيرها؛ و هذا ما يسمى “الشهادة” أي المعرفة المستمدة من شهادة الاخرين. اذ يصعب علينا التخلي عن هذا الطريق في نيل المعرفة لأننا لا نستطيع أن نتحقق من كل اعتقاد بأنفسنا. و لكن المشكلة في أنه قد تكون الشهادة زائفة أو غادعة يسعى ناقلها الى تظليلنا، فكيف نتأكد من حقيقة ما ينقل الينا؟ نصبح عادة متشككين أكثر حين نشعر بكذب ناقل الشهادة أو تكون الشهادة ذاتها مثيرة للأستغراب، و مع ذلك لا يمكننا البحث عن أدلة تدعم كل ما نسمعه أو نقرأءه. جاءت [الاختزالية] تدعو الى محاولة تعقّب التبرير الذي يدعم الشهادة رجوعا الى دليل لا يعتمد على الشهادة؛ أي اختزال التبرير الذي يعتمد على الشهادة و تحويله الى تبرير لا يعتمد على الشهادة كما رأي ديفيد هيوم كأن نخوض تجربة تثبت أن الشخص الذي يدلي بشهادته موثوق به – و هذا طريق انتهجه علماء الحديث في التأكد من صحة الأحاديث النبوية] لكن مشكلة الاختزالية تكمن أن لدينا عدد هائل من الاعتقادات القائمة على الشهادة لا يمكننا تعقب تبريرا لها أو التأكد من موثوقية ناقلها لنا. و لهذا يبدو أن القليل مما نتصوره عادة أننا نعرفه. فجاءت [التصديقية] كما عند توماس ريد تنص على أننا نستطيع التمسك بالشكل الصحيح بالاعتقاد الذي يستند الى الشهادة حتى اذا كنا عاجزين عن تقديم أسناد حقيقي له بشرط عدم وجود أسباب خاصة تدعو الى الشك. اذن لسنا بحاجة الى أدلة مستقلة تدعم الاعتقاد القادم من شهادة الاخرين، و لكن هذا قد يخول للمرء التصرف بسذاجة. قد تُفهم التصديقية كفرضية ظاهرانية معرفية حيث يمكن للمرء الوصول لاعتقادات مبررة تستند الى الشهادة حتى لو كان عاجزا عن تقديم أدلة كافية طالما انها تلبي شرط الوصول لها بطريقة موثوق بها. و تحدث الفصل اخيرا عن “ابستمولوجيا الذاكرة” اي امتلاك الاعتقادات بناء على ما تمدنا به الذاكرة، فهو يعاني من نفس مشاكل معرفة الشهادة، فاتباع الاختزالية او التصديقية لا تستطيع ان تحل جميع المشاكل.

(9) البديهة و الاستدلال: عرّف هذا الفصل[المعرفة البديهية] بأنها معرفة ناتجة عن تأمل داخلي دون تفحص العالم (و أنت جالس على الكرسي) من خلال التفكير في الكلمات مثل الوصول الى معرفة أن كل العزاب غير متزوجين، و عرّف[المعرفة التجريبية] بالمعرفة التي نتوصل لها من خلال تفحص العالم. و تجدر الاشارة، انه بالامكان الوصول الى المعرفة البديهية من خلال معرفة تجريبية كأن نتفحص عمليا أن العزب هو غير متزوج. و لابد من جهة اخرى أن تستفيد المعرفة التجريبية من المعرفة البديهية، اذ يصبح الوصول للاستدلالات التجريبية دون بديهة. ثم انتقل للحديث عن [الاستبطان] و هو نوع من المعرفة البديهية يقوم به المرء في النظر الى داخله و تفحص اوضاعه السيكولوجية بدلا من النظر الى الخارج، و لكن قد يكون الاستبطان تجريبيا اي يختبر تجارب معينة و لكن بطريق بديهي و هو التأمل في التجارب. ثم ينتقل الى [الاستنباط] الذي يضع فرضيات او مقدمات صحيحة و يخرج منها باستنتاج صحيح، و من ميزتها أنها تتصف بالمصداقية المنطقية اذ صحة الفرصيات توجب حتما صحة الاستنتاج. ثم تحول الحديث عن [الاستقراء] الذي يصل الى الاستنتاج من حالات متعددة مثل أن يقول المرء: جميع طيور النعام التي رأيتها لا تطير، اذن طيور النعام لا تطير. و هذه الفرضية غير الاستنباط لا تضمن صحة الاستنتاج و لهذا من توسيع عدد الحالات لأكبر عدد ممكن حتى يكون الاستنتاج صحيحا. و أخيرا، انتقل الحديث عن [الاستدلال الاستبعادي] و هو نسخة مختزلة من الاستدلال الاستقرائي حيث يتضمن وضع فرضيات محتملة لظاهرة محددة ثم اجراء استدلال أفضل تفسير للظاهرة أو الفرضية الأمثل من خلال ما يتوصل اليه من معلومات اضافية.

(10) مشكلة الأستقراء: يتمثل الاستقراء في وضع فرضية من مجرد ملاحظة عينة معينة يسقطها على بقية الأفراد من نفس جنس العينة، و لهذا كان شرط توسيع العينة طريق لعقلانية الاستدلال الاستقرائي. أثار هيوم مشكلة حول الاستقراء مفادها أنه غير مبرر لأن الاستنتاج الاستقرائي لابد أن يعتمد على استدلال استقرائي اخر و هكذا ينطوي على سلسلة دائرية. ففرضية ان كل طيور النعام لا تطير قائمة على استدلال استقرائي اخر ربط فيه حالات تكرار ملاحظة عجز عدد من طيور النعام عن الطيران، و هذا ربط استقرائي. جاء الرد على مشكلة هيوم بطريقة غير مقنعة فكريا و هي بالقول: ان الممارسة المعرفية الاستقرائية لا تحتاج الى تبرير و لهذا نمارسها بصورة شرعية. و جار ردّ اخرى من ذات المنظور ينادي به جماعة الظاهرانية المعرفية يرى أن ما دام الاستقراء يؤدي عمله – أي يؤمن المرء بأن لديه ما يبرر تمسكه باعتقاد معين فيتوصل بذلك الى معرفة- فليس من المهم اذاً ان لم يكن لديه أدلة مساندة كافية تدعم الاستقراء. و اتخذ طريق ‘التعايش مع الاستقراء’ مسارين هما: ١. الدحض أو اثبات النفي الذي دعا اليه كارل بوبر حيث رأى أن المرء يقوم – مثل العلماء – بوضع فرضيات جريئة ثم اختبار نفيها أي السعي الى ايجاد حالات و أمثله تدحضها، و هذه بذاتها طريقة استنباطية و ليس استقرائية تقود الى استدلال صحيح. لكنها من جهة اخرى تؤدي الى الغاء قدر كبير من معرفتنا العلمية لأننا لا نستطيع بحث كل افراد العينة حتى نجد حالة مناقضة للفرضية التي صغناها انما نبحث حالات كثيرة و نعتمد عليها في وضت الفرضية. ثم أننا لن نثق بشهادة مفردة تناقض فرضيتنا الاستقرائية التي جاءت من مشاهدات كثيرة و سنلجأ الى تأويلها او التشكيك بها و غيره. ٢. البراغماتية او النفعية و رائدها هانز ريخنباخ الذي يؤمن بافتقار الاستقراء للتبرير و لكن لابد من تطبيقه لانه الطريق المتاح لنا كي نكسب معارفنا الكثيرة عن العالم. فما دام انه الطريق المتوفر لاكتساب معرفة فلابد ان نثق به و نبرره حتى لو لم يكن له تبرير معرفي عقلاني.

(11) المعرفة الأخلاقية – دراسة حالة: يقوم هذا الفصل بتطبيق مصادر المعرفة التي تناولها في السابق على نوع محدد من المعرفة هي ‘المعرفة الأخلاقية’ التي تشير الى حالة معرفية نموذجية تسمح لنا بالحكم الأخلاقي على الأفعال و المواقف. بدأ الفصل بالحديث عن ‘الشكوكية بشأن الحقائق الأخلاقية. يقر هنا بأن الحقائق الأخلاقية – ان وجدت – فهي مختلفة عن الحقائق العلمية التي تمتاز بالموضوعية لأنها تعتمد على طبيعة الأشياء كما هي في الواقع مثل القول أن الماء يغلي على درجة ١٠٠، فهذه حقيقة تجريبية موضوعية نابعة من طبيعة الماء و ليس رأي الشخص. و تختلف كذلك عن حقائق تتسم بالذاتية الكاملة مثل اطلاق الحكم على فيلم بأنه مضحك ام غير مضحك، أو الحديث عن اللون المفضل و ما شابه؛ اذ تعتمد هذه الأمثلة على مؤثراتنا الأدراكية الذاتية الصرفة. و لكن الحقائق الأخلاقية تتشف بالذاتية لانها ترتبط على ادراك المرء ذاته و لكنها ليس ذاتية كاملة لأنها فيها شيء مشترك بين الناس، فمثل رفض ضرب طفل من أجل المتعة يكون لأنه يسبب الألم، و البشر يرفضون الألم و لهذا يعدون هذا الفعل فعلا لا أخلاقيا، و هذا ما يشير الى درجة معينة من الموضوعية و لكنها ليست كموضوعية الحقائق العلمية. و لكن هذه الحالة تفسر الأراء الاخلاقية على نطاق محدود جدا، اذ حق التعبير مثلا حق أخلاقي لكنه يسبب الألم للاخرين و مع ذلك نراه أخلاقي، ثم ان الاراء الاخلاقية تعتمد على ثقافة الناس اذ يختلف البشر في اراءهم الاخلاقية في ذات المسألة تبعا لثقافاتهم الخاصة و بهذا تكون هذه الاراء ذاتية تعتمد على اذواقنا و موضوعية من حيث تشارك مجموعة من الناس بها في نطاق ثقافتهم. أي بالمحصلة، وصل النقاش الى اعتبار الاراء الاخلاقية مجرد اراء ذاتية؛ فلا توجد حقائق اخلاقية، و لا توجد بالتالي معرفة أخلاقية كما يرى “التعبيريين الأخلاقيين” الذين يفسرون أرائنا الاخلاقية على انها ليست تأكيد على حقيقة بل هي مثل الأوامر تعبر عن رأي/تصور معين يوجه لفعل ما. ثم تطرق الفصل في ‘الشكوكية بشأن المعرفة الأخلاقية’ الى ظاهرة تنوع الاراء الاخلاقية حول القضايا مثل تعدد الاحكام الاخلاقية حول الاجهاض، و اجراء التجارب على الحيوانات و غيرها. و يشير الى أن ظاهرة التنوع او الاختلاف تمتد الى العلم رغم انه يتوجب ان يكون طريقة نموذجية. و لكن الاختلافات العلمية تتميز عن الاختلافات الاخلاقية من جانبين: ١- لا تعتمد الاختلافات العلمية على تأثيرات ثقافية مثلما تعتمد الاختلافات الاخلاقية، ٢- يمكن حسم الخلاف في العلم من خلال التجربة و تقديم البراهين العملية و هذا غير سهل في جانب الاختلاف الاخلاقي. ربما يكون المخرج في ايجاد طريقة موضوعية تحسم الاختلافات الاخلاقية. تناول الفصل ثلاث مقترحات حول طبيعة المعرفة الاخلاقية هما: ١) التأسيسية: و تفترض وجود مبادىء اخلاقية على نطاق واسع من البشر مثل رفض الألم و حرمة الحياة الأنسانية و احترام الرأي الشخصي و الحفاظ على السلامة الشخصية و غيرها. حيث تشكل هذه المبادىء أساسا ابستمولوجيا للمعرفة الاخلاقية باعتبارها معرفة بديهية يصل اليها المرء بالتأمل دون تجريب اذ لا تحتاج الى اسناد من اعتقادات اخرى. و لكن هذه المبادىء غير كافية بل تتطلب معرفة تفاصيل الحالة التي يريد المرء الحكم عليها، و لهذا تحتاج المعرفة البديهية الى أن يدعهما تقصي تجريبي للواقعة التي نتعامل معها حتى نصل الى حكم اخلاقي صحيح. ٢) الترابطية المنطقية: ترفض المعرفة البديهية للمبادىء الأخلاقية و ترى بأن اكتساب هذه المبادىء يكون من خلال تفحص حالات محددة، اي يملك النرء منظومة مبادىء يعدلها من خلال تفاعله مع المواقف المختلفة. يبدأ المرء باصدار أحكام معينة في نطاق حالات محدودة، فيتشكل لديه مبدأ أخلاقي عام؛ و هكذا تنشأ المبادىء الاخلاقية، و بالتالي المعرفة الاخلاقية من تفاعل الانسان مع محيطه و تفاعله مع المبادىء ذاتها التي شكلها. ٣)  نمط من ابستمولوجيا المهارة يسمح لنا في حالات محددة بالتوصل بصورة مباشرة الى معرفة أخلاقية- على الرغم من افتقار المرء ربما الى أساس عقلاني مستقل يدعم اعتقاده- ما دام يطبق بالشكل الصحيح مهاراته المعرفية.

الجزء الثالث: هل نعرف أي شيء

(12) الشكوكية بشأن وجود عقول أخرى: يبحث الفصل في ‘مشكلة العقول الأخرى’ التي تنص أننا نرى الأشياء المادية و نرى أجساد الناس وسلوكاتهم ولكننا لا نرى عقولهم التي تقبع في مكان عميق في اجسادهم و سلوكاتهم. كيف نعرف أن للأخرين عقولاً؟ ربما أنهم لا يملكون عقولا و يسيرون موتى مثل الزومبي بلا أفكار أو مشاعر. أجاب جون ستوارت مل بما يسمى ‘الدليل المستمد من التماثل’ الذي ينص على أننا نعرف بان لدينا عقولا، و نرى سلوكات الاخرين تماثل عقولنا؛ فنستدل بذلك استقرائيا ان للأخرين عقولاً. تكمن مشكلة الدليل المستمد من التماثل انه يتبع اسلوبا استقرائيا غير جيدا يبدأ من ملاحظة حالة واحدة – هي سلوكي و وجود عقل لدي – ثم أعمم ذلك من خلال ملاحظة تماثل سلوكات الاخرين مع سلوكي أن لهم عقولاً كما لي عقل. فملاحظة حالة واحدة لا يبرهن تعميمها على جميع الحالات اذ نجاح الاستقراء يعتمد على توسيع نطاق الأمثلة الملاحظة. اذن، لدينا مشكلتين متداخلتين هما: 1- هل لدى الاخرين عقولاً؟ 2- ان وجدت لهم عقولاً، فهل هذه العقول تشبه عقلي تماما؟ اذ يدرك الاخرون العالم عن طريق تجتربهم بطريقة مختلفة عن طريقتنا في ادراك العالم اذ يتعذر اكتشاف الاختلافات في التجربة الذاتية. ثم انتهى الفصل الى القول:  اننا نتمكن من الوصول الى معرفة مباشرة بوجود عقل لشخص اخر. فان رأيت شخصاً يتلوى من الألم على الأرض أمامي، أعرف دون حاجة الى أي نوع من الاستدلال أن هذا الشخص يعاني من الألم. و لكنها تبقى نظرة مثيرة للجدل.

(13) الشكوكية المتطرفة: ترى الشكوكية المتطرفة أنه من المستحيل علينا التوصل الى معرفة أي شيء على الاطلاق عن العالم. و تُقيم هذه الرؤية على عنصرين هما: ١. فرضية التشكك أي أن المرء منا قد يتعرض لخداع جذري في  ادراك العالم و كأنه يُدركه حقيقةً مثل فيلم ماتركس حيث طفى البطل في حوض يحتوي على سوائل مغذية و حُقِن بتجارب عن العالم لم يعشها أبداً. ٢. دليل التشكك أي أن المرء يعجز عن معرفة أشياء كثيرة جداً طالما أنه لا يستطيع معرفة أنه لا يخضع لعملية خداع جذري. يستند هذا الجدل عند المتشككين على ‘مبدأ الانغلاق’ الذي ينص على أن المرء اذا توثل الى معرفة افتراض معين (مثل أنك جالس أمام الكمبيوتر و تطبع شيئا) و كان يعرف أيضا أن هذا يستلزم افتراضا ثانيا (مثل أنك لست دماغا يغطس في حوض) فهو يعرف الافتراض الثاني. و لكن يمكننا رفض هذا المبدأ بالقول ان المرء يتمكن من معرفة افتراضات ترتبط بالحياة الاعتيادية (مثل انك جالس امام كمبيوتر) حتى لو عجز عن نعرفة افتراضات مضادة للتشكك (مثل انك لست دماغا في حوض). و لكن في الواقع رفض مبدأ الانغلاق سهل قولاً صعب تطبيقاً ما دفع الابستمولوجيين الى ‘مبدأ الحساسية’ الذي يعتبر الاعتقادات الحقيقبة حسّاسة فلا يمكن ان يعتقد بها المرء لو كانت زائفة، فاعتقاداتنا اليومية تكون حساسة و لكن اعتقاداتنا المضادة للتشككل ليست حسّاسة. كذلك يخدم هنا ‘مذهب مور’ الذي يرى أن بالامكان التوصل الى معرفة الأشياء من حياتنا اليومية (مثلا اعرف ان لدي يدين حين اعمل اشارة بيدي اليمنى و اعمل اشارة اخرى بيدي اليسرى، فهذا دليل عليهما)، و هذا المذهب هو نوع من ‘الواقعية المباشرة’ التي ترى أننا نكتسب تجتاربنا بصورة مباشرة عن العالم. و يوجد ‘مبدأ الأمان’ في سياق الرد على المتشككين و هو مبدأ يرى ان المعرفة بالأساس تهتم بالتوصل الى اعتقادات حقيقية تمتاز بالأمان اي ليس من السهولة أن تكون زائفة. و اخيرا، تمثل الرد في “نظرية السياق” التي ترى ان ادراك ان المعرفة مفهوم حساس للقرينة او سياق للكلام الى درجة عالية. فكلمة ‘فارغ، فراغ’ تختلف معناها في الكلام العادي و معناها عند العلماء، و كذلك “يعرف” تتأثر بسياق الكلام اذ نعتبر انفسنا نعرف الشيء الكثير بما يتوافق مع معاييرنا الاعتيادية، و ان كنا لا نعتبر انفسنا نعرف الشيء الكثير بما يتوافق مع معايير اكثر صرامة يطبقها الانسان المتشكك. أي أن المتشكك يرفع سقف معايير المعرفة بحيث يعتبر الشخص قد توصل الى معرفة في حال انه استبعد احتمالات الخطأ بعيدة جدا و تقع ضمن سياقات التشكك.

(14) الحقيقة و الموضوعية: تمتلك الحقيقة صفة [الموضوعية] لأن مجرد تصورنا عن العالم على أنه تصور حقيقي لا يجعل منه بالفعل حقيقة. و بهذا يلتقي مع مفهوم ‘قابلية الخطأ’ حيث اعتقاداتنا تحتمل الخطأ، و تلتقي الموضوعية بهذا المفهوم مع ‘التواضع المعرفي’. يناقش هذا الفصل ثلاثة مواقف معرفية تجاه الحقيقية، و هي:

  • أولا، الواقعية و هي شكل قوي تنص على من الممكن “دائما” أن تكون اعتقاداتنا زائفة، و بذلك تكون الحقيقة لها وجود سابق و منفصل عن الاعتقاد. فلو تجمعت الأدلة حول صنف محدد من الافتراضات، فان مؤيد الواقعية يرى أن اعتقادنا بهذه الفرضية بالأمكان أن يبقى زائفاً فقد يكون الرأي الأفضل بعيداً عن الحقيقة.
  • ثانيا، معارضة الواقعية و هي نوع ضعيف من الموضوعية ترى أن ما نعتقد به الان فقط عن العالم يمكن أن يكون زائفا. أي تجعل الرأي الأفضل الذي تجتمع له الأدلة حول مسألة معينة مساوٍ للحقيقة. اذ تجمع الأدلة حول فرضية معينة يعني أن هذه الفرضية هي الحقيقة حسب مؤيدي معارضة الواقعية، فينبغي أن نريح أنفسنا من العناء و نتجنّب الخوض فيما يتجاوز هذا الحد. و هذا ما يثير تساؤل لدينا: ان جمعنا الأدلة و وصلنا الى الرأي الأفضل و اعتبرناه هو الحقيقة، فكيف نتأكد بعدم وجود ثغرة بين الحقيقة و هذا الرأي الأفضل؟ يرى أنصار معارضة الواقعية أننا عاجزين عن التمييز بين الحقيقة و الرأي الأفضل و لهذا لابد أن نعطي القيمة نفسها للطرفين. و لكن من جهة أخرى عدم قابلبة التمييز بين طرفين لا يعني أن لهما ذات القيمة. تخيل وجود أول كتاب طُبعَ في أول مطبعة، و كتاب أخرى طبق الأصل عن الكتاب الأول فهل لهما ذات القيمة! طبعاً لا، لأن الأول هو الأصيل و الأخر تقليدنا حتى لو لم نميّز بينهما؛ فنحن نميل الى منح قيمة أعلى للأصالة و للحياة الحقيقية لا الزائف التي نتعرض فيها لخداع جذري. ثم ينادي أنصار معارضة الواقعية أننا طالما أننا نبحث عن الحقيقة، و طالما أننا لا نميز بين الحقيقة و الرأي الأفضل، ينبغي علينا أن نطمح الى الهدف الأسهل في التحقيق و هو الرأي الأفضل. و لكن هذا الدفاع عن معارضة الواقعية يوقع أنصارها في التتاقض فهم بهذا الدفاع يؤيدون انفصال الحقيقة عن الرأي الأفضل و لكن نظراً لعجزهم عن الظفر بل الحقيقة يميلون الى التشبّث بالطرف الأسهل و الأقرب للتحقّق و هو الرأي الأفضل.
  • ثالثا، النسبية و تنص على أن ما يعتقد به المرء عن العالم فهو حقيقي أي تجعل الحقيقة عبارة عن رأي شخصي، و هذا على خلاف معارضة الحقيقة التي تجعل الرأي الأفضل الذي تجتمع عليه الأدلة هو الحقيقة لا مجرد وجهة النظر الشخصية. أن النسبية بهذه الصيغة زائفة تدحض ذاتها بذاتها لأنها قد تعتبر رأيين متناقضين حول مسألة واحدة حقيقيين لمجرد أنهما رأيين شخصيين. أي أن النسبية تعتبر رأي مؤيد الواقعية حقيقة، و تعتبر رأي مؤيد معارضة الواقعية حقيقة أيضا؛ و هذا بالتأكيد باطل زائف. و هذا كله يدفع دائما الى الاهتمام بالمعرفة على أنها اعتقاد حقيقي لم يتحصّل بالحظ لأن للمعرفة قيمة جوهرية في حياتنا.

و يختتم الكتاب بقائمة تحتوي على تعريف موجز للمصطلحات الرئيسية الواردة في فصول الكتاب المختلفة.

فيديو مقال عرض كتاب: ما المعرفة؟

 

https://youtu.be/hV1–RC1-jg

أضف تعليقك هنا