منذ سنوات عديدة، وجدت لنفسي هواية مفضلة، وهي التأمل، ولكني لم أجد بالعالم المحيط أعجب من البشر أنفسهم، وإن كان الكون مليئاً بالمذهلات المثيرات للتفكر، إلا أنّ الكائنات البشرية العاقلة، المدركة، المُختارة، المُكرمة، المُتخيرة، أصحاب امتياز الإرادة، والإدراك، والإبداع، والإصلاح، والإفساد، إن أرادوا التعمير، أو التخريب كما تسوّل لهم أنفسهم، المتشابهون في كمٍّ لا يُعَدُّ ولا يُحصى من الصفات، والمختلفون تماماً في كمٍّ مثله، حتى الذين جُمعوا في رحم واحد سوياً، كلّ فرد له خصائصه المُميِزة، وتفرُّده الخاص به؟
بكل المعايير، لم يحتل البشر المرتبة الأولى في قائمة المثيرات للتأمل فحسب، بل كان البشر في كفّة، وكلّ ما في الكون -برغم ما بالكون من إعجاز- من عجائب في كفّة، كان من الطبيعي والمنطقيّ والاعتياديّ أن يعيش البشر حياة مذهلة، تتناسب مع قدراتهم على التفكير والإرادة والإبداع والتطوير، ولكن ليس هكذا تجرى الأمور لبشر في حالة من العته الواضح، في الكفّة الأخرى تجد الكون، كل ما بالكون، يسير متناغماً بشدة في غاية التناسق والدقة، حتى على هذه الأرض التي تحوي البشر، والملايين من الكائنات غير العاقلة -والتي بالطبع أدنى من البشر- لا تجد هذا العته الجالب للمشقّة كما عند البشر، الأمر أبسط، وأيسر، وأكثر أماناً، وتناسقاً، وأريحية من البشر، بل الأغرب من ذاك أننا بتنا نتعامل مع هذه الحياة بهكذا شكل، وكأنها من طبائع الأمور! هل استخدم البشر قدرتهم المُمِيزة على التفكير لجعل الحياة أكثر مشقّة؟
في البدء كان آدم -عليه السلام- وحواء، وكنا جميعاً في ظهره، ومن قبل لم نك شيئاً، وآدم -أبانا جميعاً- قد تلقى الدرس نظرياً وعملياً، فعاش في الجنة، ولم يُطلب منه شيء، إلا أنْ لا يأكل من شجرة واحدة، جنة مليئة بشتى أنواع الشجر، وشجرة واحدة ممنوعة، ويقربها، ويأكل منها ناسياً التحذير، متبعاً وسوسة اللعين، ولا لوم.
وتعلم آدم الدرس، وعلّمه ذُريّته الأقربين، وذُريّته علموه لذرياتهم، حتى نسوا أو تناسوا إلى أن وصل الأمر لسيدنا نوح -عليه السلام-، والطوفان، وهلاك من بالأرض جميعاً ممن كفروا، وتاريخ طويل للبشر، منهم من تعلم، وتذكر، ورُدّ إلى الجنة، مسكن أبيهم القديم، ومنهم من جهل، وتناسى، ورُدّ في أسفل سافلين.
هل عرف البشر سرّ النجاة بعد الدرس الذي تلقاه النبيّ “آدم”؟
للبشر تاريخ طويل حقاً، ولكن الدرس الأول تعاملنا معه بأعجب الأعاجيب، كان من المنطقي جداً ومن البديهي أن نستخلص من هذا الدرس الأعظم سر النجاة للبشرية، وتحقيق حد لا نقول أدنى، وإنما حداً متوسطاً من السعادة والخيرية والتراضي والمعايشة السلمية، لم نك لنضطر بالأصل لاستخدام مصطلح المعايشة السلمية، لأننا ما كنا سنعرف معايشة غير سلمية، كيف نحن إذاً تعاملنا مع هذا الدرس الأول، وما العلاقة أيضاً بين هذا الدرس، والمشقة التي نحياها، وجلبناها لأنفسنا جلباناً!
العجيب أن جميع المذاهب الفكرية، والغالبية العُظمى من الدساتير والقوانين اتفقت على مبدأ واحد، في بلدان مختلفة الأعراق، والثقافات، والمرجعيات: مبدأ وحيد اتفقوا عليه جميعاً بل ويدافعون عنه بحدّة تصل لحدّ الاستماتة، ألا وهو مبدأُ تنحيةِ الدّين جانباً.
لصالح من يصبُّ ذلك المبدأ “مبدأ تنحية الدين جانباً”؟ أوَليس -وبكل وضوح- يصبّ في مصلحة إبليس، العدو الدائم للبشرية كما تعلمنا من الدرس الأول؟ ولكن ما الذي دفع البشرية لتبني هذا المبدأ، والاتفاق عليه ضمنياً، وتطبيقه بكل اعتيادية، وكأن هذا هو الصواب، وكأن هذه هي طبيعة الأمور!
بالعودة إلى التاريخ البشري الطويل، سنسلط الضوء على فترة عصور الظلام التي كانت في أوروبا (العصور الوسطى)، كانت أوروبا تعيش في أسوأ حالات الجهل والتخلف، وتسيطر عليهم الخرافات، وكانت تحكمهم سلطات ملكية، وكنسية، وكانت الكنيسة الحاكمة عليهم سبباً أساسياً في حالة الجهل والظلمات التي عاشوها، وكانت تقتل العلماء، لأن العلماء أبحاثهم كانت تخالف ما تقوله الكنيسة، ومحاكم التفتيش، وكانت تقتطع الأراضي، وتفرض الأتاوة، وتخبر الناس بأن البابا -كما يسمونه ولا أدري معنى هذه التسمية ولا أصلها- يحكم باسم الرب، ويملك صكوك الغفران، وما إلى ذلك من تراهات تسببت في إغراق أوروبا في بحر لجيِّ يغشى بعضه بعضاً من الظلمات، إلى أن وصل الفتح الإسلامي إلى الاندلس التي لا زالت عامرة بالمساجد، وتناقل سكان الأندلس الثقافة من المسلمين، والتي عبرت إلى سكان أوروبا الذين اكتشفوا بأن هناك دين آخر يوفر لهم حياة أكثر كرامة، وإنسانية، ورفعة وحدث الانقلاب على الكنيسة، إلى أن وصلت أوروبا إلى ما يُعرف بالثورة العلمية، وخرجت أوروبا بنهضه علمية مُميزة، (كان من الطبيعي أن يتبعوا دين الإسلام، ولكن كانت فرصة لإبليس أن يخرجهم من فكرة التدين كُلياً، وخاصةً وهم في حالة معاناة من الكنيسة).
واقتنع كل أهل هذه النهضة العلمية بأن الكنيسة -رمز الدين عندهم- سبب في الجهل، وإن العلم يضاد الدين (الدين عندهم في الكنيسة في العصور الوسطى)، ورسخوا مصطلح العِلمانية كأنه يعني اللادينية، معهم كل الحق، العلم ضد الدين في دينهم هم، وبالأحرى فيما كانت تصنعه الكنيسة من ممارسات باسم الدين، لأن النصرانية براء من هذه الممارسات بالطبع.
ولكن ما خطيئتنا نحن، ونحن مؤمنون بدين آيات الدعوة فيه إلى العلم والتأمل والتفكر والتدبر، أكثر من آيات الدعوة إلى الإيمان!
العلم كلما تطور وتعاظم نكتشف أنّ في القرآن الكريم غزير الإعجاز في شتى أنواع العلوم، ثم تُخبرنا الحكومات بأن لا بُدّ وأن نُنحيَ الدين جانباً، وأنَ لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وأنّ العِلمانيَة ترادف اللادينية، لصالح من؟!
وهل نحن الذين خلقنا أنفسنا، حتى نتصور بأنا نستطيع أن نضع منهاجاً لنا ودستوراً؟!
وهل نحن الذين نتصور فعلاً بأن الدين يضاد العلم، كما ورثنا من أوروبا الوسطى؟!
وهل نحن الذين نتخيل حقاً بأن بالأمم المتحدة سنضع حداً لشقاء البشرية ونستنقذها؟!
وهل نحن الذين سنحيا بهذا الشقاء أجيال بعد أجيال؟!
أولم يأنْ للذين آمنوا أن تخشع عقولهم لذكر الله، لمنهج الله، ويصطف العلماء المسلمين “وقطعاً على عاتق المسلمين تقع المسؤولية” صفاً واحداً، موجهين الدعوة صراحة لكآفة العلماء من مختلف الاختصاصات والديانات، ليبحثوا بكل وضوح عن السبب الأسمى لوجود البشر -والذي لن يدركوه قطعاً إلا بعد الاتفاق على أي دين هو الحق، وما سِواه باطل-، ليبحثوا عن السبب الرئيس في شقاء البشر بهكذا الشكل البائس، وسبيل النجاة.
أليس من الممكن أن نستيقظ باكراً لنجد لجنة التحاور مع الفاتيكان المكلّفة من قِبل الأزهر الشريف عدلت مسارها، وطالبت الفاتيكان بالإثبات الواضح أنهم بدينهم هم على الحق، ونحن الذين على الباطل، أو الاعتراف الصريح بالعكس، وإنقاذ المليارات من البشر من العيش وهم مخطئون في أهم ركيزة لحيواتهم، وهو المعتقد الديني؟
أليس من الممكن أن نجد من يُسائل منظمة الأمم المتحدة، لماذا بالرغم من مخططاتكم المُتميزة جداً، وتشعبكم في كآفة الدول، وكلماتكم المليئة بتوفير السلم والأمن، وشعاركم الرنان (شعوباً متحدة من أجل أمم أفضل)، وميثاقكم المتميز، لا زلنا نرى الحروب والقتل، وشتى سبل الإفساد والفيتو؟
أليس من الممكن أن نجد الأمم استطاعت سبيلاً للعيش بسلام حقاً، واندثرت الصراعات التي دامت دهراً من بعد دهر؟
نحن الذين لم نهُن على الأرض، وامتنعت عن إخراج الزروع والثمرات سخطاً علينا، ولكنا هانت علينا الأرض، وأفسدناها عمداً!
نحن الذين لم نهن على البحار، فمنعتنا ما بها من لحم طريّ، ولكنا أفسدناها إفساداً!
ولو تُركت للأرض والجبال والبحار حرية التصرف، لأهلكتنا بغير تردد! ولكنا لم نهن على خالقنا، برغم العته والجحود والنكران، حالاً تعمدنا اختياره!
أولم يأنْ للذين آمنوا أن تخشع عقولهم لذكر الله
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد