لعل ما يُميز الانسان عن غيره من المخلوقات هو قدرته على العودة للحوادث والنظر لها بعين أخرى في ضوء ما يتوفر له من معلومات جديدة قد تقود لفهم أعمق وتكوين رؤية أشمل وأصوب لما تم في الماضي القريب وتلك المراجعة بالفحص والدرس لما جرى ، قد تقود لتصحيح الفكر من خلل وقصور الفعل.
ومنذ فترة قليلة أفرجت الولايات المتحدة الأمريكية عن عدد من الوثائق عن حرب الخليج أو ما سُمى حرب عاصفة الصحراء 1992. واستطعت الحصول عليها من مركز الدراسات المُشترك به. وأتممت قراءتها ، ورغم أن تلك الوثائق لا تكشف كثيرا زيادةً عما نعرفه إلا أنها تؤكد حقائق وقعت وتدعم توجهات ثبُتت وتثير أسئلة طُرحت.
وبعد أن انتهيت من قراءة الوثائق تذكرت نصيحة قالها زعيم الهند جواهر لال نهرو لابنته أنديرا وهى «إن التاريخ يجيبنا عن الأسئلة القديمة بطرح أسئلة جديدة».
وقررت أن أكمل المعلومات التي نُشرت لاحقاً بالمعلومات التي نشرت سابقاً من مراجع معتمدة وموثوقة سأذكرها بثبت المراجع كما أفعلُ دائماً.
أنني قررت أن أتناول الموضوع بشكل بانورامي سريع، وبرغم ذلك مُضطر لتقسيم الموضوع لأجزاء.
في خضم الأزمة بين العراق والكويت واستفحال الخلاف تلك السنة ظهر وطفى على السطح كل المخزون التاريخي من الخلاف بين البلدين،
فللخلاف العراقي الكويتي أبعاد كثيرة ففيه التاريخي وفيه السياسي وفيه الاقتصادي وفيه الأمني بل وفيه النفسي! والمشكلة أنه ما أن يبدأ الحديث عن بُعد من ذلك الخلاف ألا وتأتى بقية الأبعاد مباشرةً دون انتظار أو دعوة من أحد فمثلا:
بغداد تقول: (أنهم في الكويت نسوا أننا حاربنا ثماني سنوات دفاعا عن الخليج وتحملنا في سبيل ذلك ما تحملنا) .
وترد الكويت ب (أنهم في العراق نسوا أننا ساعدنا ، فبعد أسابيع قليلة من الحرب قدمنا للعراق 5 بلايين دولار قرضا يساعد على أغراض الحرب ثم لم تتوقف مساعدتنا فقد كنا نصدر لحسابهم 125 ألف برميل وفاء لالتزامات تعاقدوا عليها في الأسواق ثم توقفوا عن الوفاء بالتزاماتهم نتيجة ظروف الحرب).
وبغداد تقول: (أن المال ارخص تكاليف الحرب ، ولقد كان ما أعطوه لنا دينا مازلنا مطالبين بسداده ومع ذلك فان تكاليف الحرب على العراق كانت بمئات البلايين ولم تدفع الكويت سوى قدر يسير من التكاليف الحقيقية ومع ذلك فان المال ارخص شيء) .
وترد الكويت ب: (أن تكاليفنا لم تكن مالا فقط ، فقد طالتنا الصواريخ الإيرانية ودليل دمارها قائم على منشئاتنا البترولية كما أن استقرارنا الداخلي اهتز ، وسال الدم على ارض الكويت).
وبغداد تقول: (أنهم لم يساعدوا بشيء في مجهودنا الحربي ولقد طلبنا منهم تسهيلات في جزيرتي (بوبيان) و(وربة) ولو حصلنا على هذه التسهيلات لامكن تحرير (الفاو) قبل الموعد الذي تحررت فيه بكثير).
وترد الكويت بالإشارة وبما معناه: (لو أنهم اخذوا مثل هذه التسهيلات لما تركوا الجزيرتين بعد الحرب فنحن نعلم أن لديهم مشروعا لتعميق مجرى ملاحي حول الجزر يخدم ميناء شحن في خور عبد الله) .
وبغداد تقول: (إن هذه جزر عراقية وليس هناك شك في ملكيتنا لها) .
وترد الكويت (بأن العراق يكاد يفصح عن مطامعه !).
كان ذلك الحديث المختلط بين دهاليز التاريخ وسراديب السياسة قد ضايق الرئيس المصري الأسبق (حسنى مبارك) الذى حاول تهدئة الأوضاع بين الطرفين ، وبعد جولة بين العراق والكويت وسماعه تلك الحجج وأكثر من كِلا الجانبين ، وكان معروفاً عنه عدم حُب الشرح الكثير، قال لأحد مساعديه: «ولاد الكلب صدعوا دماغي»!
ووسط ذلك كله كان العراق يُحضِر لعمل عسكري إذا لم تستجب الكويت لطلباته ، و كان تقدير القيادة العراقية كالتالي:
لعل العُقدة الكُبرى في الحسابات العراقية أنها كانت في جانب منها محاولة لوضع أطراف عديدين – عرباً وغير عرب – أمام أمر واقع سوف يصُعب عليهم ان يتحركوا إزاءه ، وبالتالي فليس أمامهم ، مهماً كان طعم المرارة في حلوقهم إلا أن يبلعوه.
وكانت النقطة الحرجة أن الأمر الواقع العراقي لم يكُن في رأى الأخرين –عرباً وغير عرب- مُجرد نوع من «المُر» وإنما كان نوعاً من «السُم» ، وعندما رفضوا أن يبلعوه كان ُمحتماً أن يجد الكُل أنفسهم أمام أمر واقع جديد مرارته أشد وسمومه مؤكداً.
فمثلاً الأطراف العربية المؤثرة مثل مصر والسعودية كان مُحتماً أن ترفض ذلك العمل لأسباب بعضها شخصي وبعضها عملي.
نجد أن شخصية كُلاً من الملك السعودي (فهد بن عبدالعزيز) والرئيس المصري (حسنى مبارك) لم تكنَ متوافقتين مع شخصية الرئيس العراقي (صدام حسين) الميالة للعنف والصدام المعتنقة للأيدولوجية البعثية والآخذة منحى قومي متشدد في رأى الاثنين (فهد ومبارك).
فإن غزو العراق والكويت سيضيف مكانة وقوة للعراق حتماً ستأتي على مكانة مصر والسعودية.
ولعل أكثر ما يُبرز الجانب الشخصي هو نص حديث تليفوني بين عاهل السعودية الملك (فهد) وحاكم قطر الشيخ (خليفة بن حمد أل ثان) التقطته المخابرات العراقية ، وفى هذا الحديث كان الملك (فهد) يشير إلى المشاكل التي يثيرها العراق ويقول :
«أنا لا أعرف ماذا يريد صدام حسين ؟ هو بهذا الشكل ذاهب في مواجهة مع الإسرائيليين ، نسى ما نُشر من أن إسرائيل عندها 200 قنبلة نووية، نسى أيضاً ما حصل لجمال عبد الناصر حينما استفز الغرب، يا ليته يأخذ الدرس مما يحدث في الاتحاد السوفيتي ، الاتحاد السوفيتي تحدى أمريكا سنوات، وهو الآن ينهار، وأنا أخشى أنه سوف يودى بنفسه في داهية».
وأما ما يُبرز الجانب العملي فهو تقدير الموقف الذى أعدته الأجهزة المصرية(مكتب الرئيس والمخابرات العامة والخارجية) فور علمها بوقوع الغزو وعرضته على الرئيس مبارك وجاء فيه:
وأما الأطراف الخارجية وعلى رأسها وأهمها الولايات المتحدة الأمريكية كان محتماً أن ترفض ذلك العمل ولعل أكثر تعبير تجسيماً عن أسباب رفض أمريكا للغزو العراقي جاء على لسان وزير الطاقة (جيمس واتكنز) في اجتماع مجلس الأمن القومي الأمريكي صبيحة اليوم التالي للغزو حينما قال في الاجتماع:
« إن ما حدث سوف يحدث فوضى في أسواق البترول إنتاجها وإمدادها وأسعارها فضلا عن أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح بالزواج بين مليون جندي عراقي وثلثي إنتاج البترول في الشرق الأوسط».
أن ورقة التقديرات العراقية بالغت في حساب موقف الاتحاد السوفيتي في الأزمة ومدى قُدرته على الأقل في تثبيت الموقف الأمريكي ، ولعل العراقيون لو قرأوا نصوص اللقاء الذى جرى في نهاية عصر ريجان (وبعد أن تبين نجاح نائبه جورج بوش (الأب)) بين جورباتشوف و الأمريكان في واشنطن لعرفوا أن أي تعويل على الموقف الروسي غير ذي جدوى ، وهو من باب السراب الذى يحسبه الظمآن ماءً!!
وفى اجتماع الغذاء كان يمثل أمريكا ستة رجال هم: الرئيس «ريجان» ، «بوش الأب» (نائب الرئيس والرئيس الجديد في نفس الوقت) ، و«جورج شولتز» وزير الخارجية ، و«كولين باول» مستشار الأمن القومي ، و«فرانك كارلوتشى» وزير الدفاع ، و«كين دوبرشاتين» البيت الأبيض.
وبدأ «جورباتشوف» حديثه عن المشاكل التي يواجها في برنامجيه الراديكاليين عن إعادة الهيكلة الاقتصادية و الانفتاح السياسي (البيروسترويكا والجالسنوست) وقال: «إن البيروقراطية السوفيتية تقاومه عند كل منحنى».
وأجاب ريجان: إن البيروقراطيات هي نفسها في العالم كله ، وأبدى تعاطفه مع شكوى جورباتشوف.
لعل كُلاً من كارل ماركس وفلاديمير إليتش لينين وجوزيف ستالين لم يخطر على بال أحدهم حتى في أحلك كوابيسهم السوداء أنه سيأتي يوم يشتكى زعيم الاتحاد السوفيتي والدولة القائدة لتحالف البلوتاريا في العالم لزعيمة الدول الرأسمالية وفى معقلها «واشنطن» من بيروقراطية الجيش الأحمر والحزب الشيوعي! ، ولكن مع جورباتشوف أو «جوربي» كما كانت تدلله «مارجريت تاتشر» (رئيسة وزراء بريطانيا) أصبح المستحيل واقعاً والحلم الوردي انقلب لكابوس مُخيف ، ولم تصمد شعارات الثورة والحتمية التاريخية أمام قوانين السوق وسحر وبريق الاعلام.
ثم تكلم بوش أخيراً وقال: أي تأكيد يمكنك أن تُعطيه لي لأنقله إلى رجال الأعمال الأمريكيين الذين يريدون الاستثمار في الاتحاد السوفيتي على أن البيروسترويكا والجلاسنوست سينجحان؟
وتحجرت عينا جورباتشوف حين سمع الترجمة وأجاب: «إن يسوع المسيح نفسه لا يعرف الإجابة عن هذا السؤال»؟
ورأى باول أن سؤال بوش غريب ، وبطريقة ما ساذج ، فكأنه يطلب من جورباتشوف تأكيداً بأن الاتحاد السوفيتي مكان أمين للرأسمالية الأمريكية.(انتهى الاقتباس من كتاب القادة)
كان واضحاً أن تقديرات العراق فيما يتعلق بقبول الجميع لغزوه للكويت ، وكذا والتعويل على دور سوفيتي يُثبت ردة الفعل الأمريكي تجاه الغزو خاطئة. ودارت بعدها عجلة الأحداث لتُثبت أن المقدمات الخاطئة تؤدى إلى نتائج خاطئة ، ولكن في السياسة الشعوب هي التي تدفع أثمان اختيارات قادتها الخاطئة من حياتهم واستقرارهم و عرقهم ودمهم و أرواحهم.
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد