لعل القارئ الكريم ينتظر في بداية هذه المقالة أن يبدأ في وضع يده لتتلمس مواضع التماسك النصي التي أشار إليها الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز غير أننا نذكر القارئ الكريم أننا كنا قد وعدناه بألا نبدأ في هذه القراءة قبل معرفة مصطلحات لا بد من معرفتها قبل الخوض في تلك القراءة وإلا كانت هذه القراءة نوعا من العبث أو ضربا من التعسف ،وإن كان القارئ سيلمح شيئا من ذلك عند صاحب دلائل الإعجاز ونحن نحاول تحديد هذه المصطلحات، لذلك كان لا بد من إيضاح بعض المصطلحات.(التماسك النصي).
ومن هذه المصطلحات التي يتضح معها فهم المراد ب التماسك النصي مصطلح الاتساق،وهو يعبر عما بين المعاني من ارتباط وتماسك أو اتفاق وتلاؤم؛ لذا كان اختيارنا له دون غيره من المصطلحات التي اختارها النقاد لتعبر عن هذا المعنى، ولعل في قول شيخ البلاغيين الإمام عبد القاهر الجرجاني: “كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب”([1]) ما يدل على ذلك.ش2
يقول:” وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: ” وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ” . فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع! أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم [2]بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة؟ وهكذا، إلى أن تستقر يها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها.
إن شككت فتأمل! هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل: ابلعي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء بــ يا دون أي نحو: يا أيتها الأرض. ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم اتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها. ثم أن قيل: وغيض الماء. فجاء الفعل على صيغة فعل الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر.
ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: ” قضي الأمر ” . ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ” استوت على الجودي ” . ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن. ثم مقابلة قيل في الخاتمة بـ قيل في الفاتحة. أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق ؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟ [3]) وعلى أية حال، فالمراد من مصطلح الاتساق هنا هو “تلك العلاقات المعنوية الملحوظة القائمة في النص حيث لا تكون هناك روابط ظاهرة بينها.”([4])
وهذا الاتساق هو ما يذهب ديبوجراند إلى تسميته بالترابط المفهومي:CONCEPTUAL CONNECTIVITY، أي تجميع المفاهيم والعلاقات.([5])ففي اللغة ضرب من العلاقات لا يمكن الكشف عنها متى اعتبرت الجملة الواحدة منعزلة عما قبلها وعما بعدها كعلاقة الجملة بالجملة تأكيدا، أو بيانا وتفسيرا،أو جوابا ([6]) .
الاتساق إذن ارتباط بين معاني الألفاظ والتراكيب في النص ، فقد يكون بعض هذه المعاني مقابلا لمعنى آخر ، أومسببا عنه ، أو تفسيرا له. يقول حازم القرطاجني واصفا بعض هذه العلاقات الملحوظة في النص وهو هنا قصيدة: ” ويجب أن يردف البيت الأول من الفصل بما يكون لائقا به من باقي معاني الفصل مثل أن يكون مقالا له على وجه من جهات التقابل أو بعضه مقابلا لبعضه، أو يكون مقتضى له مثل أن يكون مسببا عنه، أو تفسيرا له، أو محاكي بعض ما فيه ببعض ما في الآخر، أو غير ذلك من الوجوه التي تقتضي ذكر شيء بعد شيء آخر.” )[7](
وقد يغيب السبك أو الترابط الرصفي ،كما يسميه ديبوجراند، بين الجملتين ، فيحل محله الاتساق أو الترابط المفهومي كما يسميه ديبوجراند أيضا ،يقول يحيى بن حمزة العلوي مؤكدا هذا المعنى:” إن من حق الجمل إذا ترادفت وتكرر بعضها فى إثر بعض ، فلابد فيها من ربط الواو لتكون متسقة منتظمة، كما أن الجمل إذا وقعت موقع الصلة ، أو الصفة، فلا بد لها من ضمير رابط يعود منها إلى صاحبها ، فلهذا تقول: زيد قائم، وعمرو منطلق، فلا تجد بدّا من الواو، وكما لا تجد بدّا من الضمير فى نحو قولك: هذا الذى قام وخرج، من أجل الربط كما ذكرناه، وهذا الصنيع مستمر، اللهم إلا أن تكون الجملتان بينهما امتزاج معنوى، وتكون الثانية موضحة للأولى مبينة لها كأنهما أفرغا فى قالب واحد، فإذا كانت بهذه الصفة ، فإنها تأتى من غير واو” ([8])
أرأيت إلى قوله: “إن من حق الجمل إذا ترادفت وتكرر بعضها فى إثر بعض ، فلابد فيها من ربط الواو لتكون متسقة منتظمة ” هكذا لا بد فيها من ربط الواو وهذه إحدى آليات السبك ، أو يكون الرابط الضمير ” كما أن الجمل إذا وقعت موقع الصلة ، أو الصفة، فلا بد لها من ضمير رابط يعود منها إلى صاحبها” هذه آلية من آليات السبك، وهذه الروابط اللفظية لا بد منها أو بتعبير صاحب الطراز”؟.
وهذا الصنيع مستمر ، اللهم إلا أن تكون الجملتان بينهما امتزاج معنوى، وتكون الثانية موضحة للأولى مبينة لها كأنهما أفرغا فى قالب واحد، فإذا كانت بهذه الصفة ، فإنها تأتى من غير واو” هكذا إن غابت الروابط اللفظية حلت محلها الروابط الدلالية وهكذا يكون بين الجملتين امتزاج معنوى ،فتكون الجملة الثانية مثلا موضحة للأولى مبينة لها كأنهما أفرغا فى قالب واحد، فإذا كانت بهذه الصفة ، فإنها تأتى من غير رابط لفظي .هكذا إن غابت الروابط اللفظية (السبك) حلت محلها الروابط الدلالية(الاتساق). ثم يضرب صاحب الطراز أمثلة تطبيقية لهذه الروابط الدلالية فيقول:
“وهذا كقوله تعالى: الم . ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ” ، فإنه من غير واو لما كان موضحا لقوله تعالى: “ذلِكَ الْكِتابُ” ؛ لأن كل ما كان من القرآن فهو لا ريب فيه ولا شك، ثم قال: “هُدىً لِلْمُتَّقِينَ” ، فإنه موضح لقوله: “لا رَيْبَ فِيهِ” ؛ لأن كل ما كان لا يرتاب فى حاله، ولا يقع فيه تردد، ففيه نهاية الهدى، وغاية الصلاح لأهل التقوى وهكذا قوله تعالى: “خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ” كان واردا على جهة التأكيد لقوله:” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ” ؛ لأن كل من كان حاله إذا أنذر مثل حاله إذا لم ينذر، فهو فى غاية الجهل والعمى مختوما على قلبه مغشي على بصره.”
(شاهد مقاطع فيديو موقع مقال على اليوتيوب، واقرأ المزيد من المقالات من قسم أدب).
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد