مشكلتنا.. أننا لا نحيا كما الجمادات.. فقصة البيت الطائر ليست مجرد فيلم كارتون للفتية.. وليست مجرد قصة خرافية، وإنما كان وضع الحكاية في هذا القالب الخرافي لجذب العقول والأفئدة والمشاعر نحو المغذى الحقيقي للعرض لدى من يشاهدون ولكي يلمسوا ما وراء الحكاية من معان وقيم إنسانية نبيلة.. فليس المقصد الأعلى والأعمق لقصة فيلم البيت الطائر هو ما يتبادر من ظاهر الفيلم أن بيتاً قد طار بصاحبه الآلاف الأميال بواسطة عدد كبير من البالونات المملوءة بالغاز.. وليس المقصد كذلك هو حكاية الطائر الخرافي النادر الذي صرف أكثر من منتصف الفيلم للدفاع عنه ضد المغامر القديم الشهير صاحب المنطاد الطائر والذي فقد رشده عندما أنكر عليه الناس ادعاؤه بوجود هذا الطائر على الحقيقة، فعزفوا عنه وفقد هو شعبيته فعزم على اصطياد الطائر واحضاره عياناً للناس كي يعود له صيته مرة أخرى حتى ولو أضاع الشطر الأكبر من عمره في سبيل ذلك.. وقد اضاعه. وهذا ربما أحد الدلالات البارزة المستفادة من هذا الفيلم، أن فقد الشهرة بعد اكتسابها من أشق الأمور وأصعبها على النفس الإنسانية وربما لا يحتمل هذا الفقد للشهرة والجماهيرية إلا من كان قوياً في وجدانه وإيمانه، وإلا فإننا نرى كثيرين من هؤلاء إما أنهم يضعون حداً لحياتهم بالانتحار أو يفقدون عقولهم أو يتحولون إلى مجرمين ساديين أو يتوارون بقية حياتهم بحالة حادة من الاكتئاب النفسي..
ولكن المقصد الأكبر من وراء كل أحداث الفيلم هو تجسيد أروع الأمثلة لأعلى ما يمكن أن يصل إليه إنسان في محبة إنسان ومنها إلى محبة الوجود.. فكل ما هنالك أن ذلك الرجل الطاعن في السن (بطل الحكاية) قد فقد زوجته.. ولكنها لم تكن بالنسبة إليه مجرد زوجة أو شريكة حياة بل كانت هي الحياة نفسها، فمنذ براءة الطفولة الأولى وهما يمضيان الطرقات سوياً ويخوضان تجارب الحياة مع بعضهما ويحلمان سوياً، وفي كل عام ينمو معهما ارتباطهما الوجداني ويزداد قوة في الشد.. لقد كانا واحداً وكنا نراهما وهماً اثنين.. وعندما بلغا أوائل عتبات الرشد تزوجا بعضهما لا محالة.. لم ينجبا اطفلا، ولكنهما اكتفيا ببعضهما البعض ليعيشا كل ذرات الحياة.. لقد كان صانع الفيلم بارعاً عندما ركز على اللمحات الصغيرة ذات الدلالات العظيمة كأن تلتحم ايديهما معاً عندما يجلسان يقرأن في الكتب والصحف كأنما ارادا أن تمتزج افكارهما وانفعالاتهما بما يقرأن.. ثم كان لديهم حلم كبير، أن يهجرا هذا العالم الصاخب ويذهبا إلى حيث أقاصي الأرض بعيدا ويبنيا بيتهما الصغير على قمة جبل ينبع منه الشلال لتكون تلك أرض احلامهم و(اليوتوبيا) التي يعيش فيها السعادة المطلقة ذلك الشعب المؤلف من زوجين فقط.. وفي سبيل ذلك كانا يدخران ما تيسر من العملات المعدنية في كل يوم، ولكن كانت دائماً تضطرهما ضرورات الحياة إلى كسر حصالة الادخار.. ولكن يبقى الحلم قائما هناك بلا يأس فيعود الادخار من جديد وفي نفس الوقت بلا توقف عن التفاعل معاً بكل لحظات الحياة.
ثم أتى يوم.. ومرضت الزوجة مرضاً لم يبدو له شفاء، وبدأت الرحلة نحو النهاية تقطعت فيها القلوب بتخيل كيف سيكون الفراق، حتى وارها الموت الحتمي.. عاش بعدها العاشق المسن لسنوات مشقوق الوجدان يكلمها ساعة بساعة وعن كل شيء كأن لم ترحل يوما، فلقد كان قبرها داخله، وكان يوقن أنها ليس فقط تسمعه وانما أيضا تنفعل وتتفاعل بكلماته.. وفي كل صباح بعد الافطار والقيام بأعمال النظافة المعتادة وتلميع التذكارات كان يجلس على الكرسي المعتاد والى جواره كرسيها خالياً ليتصفح بشيء من الغصة الحارقة الألبوم الذي حوى رسوماتها منذ الطفولة وعبارتها العذبة المكتوبة إليه، ثم يتوقف متأملاً صورة بيت الحلم التي رسمتها وهو قائم على قمة جبل الشلال وحيداً..
من هنا تبدأ القصة حقيقة، فقد عزم الرجل أن يحقق حلمها الكبير وإقامة البيت على جبل الشلال، ولكن لم يكن يصلح بعد أن ماتت أن يتحقق الحلم بأي بيت يبنيه هناك، لم يكن يصلح إلا البيت الذي عاشت فيه هي وضم حياتهما معاً.. فكان أن صنع العدد الضخم من البالونات في ليلة وطار بالبيت بكل ما فيه. ثم كانت المغامرات التي خاضها عبر وقائع الفيلم مع صديقه شبل الكشافة الصغير.. وفي اخريات الفيلم انفلت البيت من الرجل وطار لوحده بعيداً.. وربما كان ذلك قصداً، إذ لعل البيت الصامت قد استشعر الضرورة من فعل ذلك تماماً كما البشر أو حتى كما تلك الحجارة التي تهبط من خشية الله.. لم يعلم الزوج المتيم ابداً أن البيت استقر من تلقاء نفسه على نفس الموضع الذي رسمته زوجته الراحلة على جبل الشلال.. وكانت الرسالة وراء ذلك:
وليس كل ذاك محض خيال لكاتب دراما، ففي العالم الحقيقي توفي في زمن قريب (أحمد الكردي) وهو في أخريات الثمانين من عمره ولم يكن قد شاهد قط فيلم البيت الطائر وحكاية الغرام السامي تلك.. ولكن بعد أربعين عاماً من العيش الجميل معاً رحلت شريكة عمره (وداد) إلى جنات الخلد بإذن الله، فعاش هو بعدها ذات تلك الروح لصاحب قصة البيت الطائر.. حيث عكف لعقد ونصف من الزمان منذ رحيلها يكلمها بكل شيء شعراً ونثراً ومناجاة بنهار وليل والبكاء سراً والضحكات، هو أيضاً كان قبرها داخله، حتى أتى يومه المكتوب ورقد في قبره الحقيقي إلى جوراها..
كل هذا لنعلم أن الإنسان عندما يكون ذا قلب سليم فهو كائن عظيم مكرم في أخلاقه وعشقه وتفاعله مع كل من وما حوله، فيحبه الله ويباهي به الملائكة عنده.. ولنعلم أن العشق النقي والغرام السامي بين الزوجين ليس ضرباً من خيال وأوهام بل هو إمكان واقع حقاً لدى البشر من أصحاب القلوب السليمة تزدان به الحياة.. وهذا ما ينبغي أن يكون.
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد