الأقسام سياسة وفكر

التّفاوض مع الله، جدلية ” الأرض المقدّسة والبقرة “

اليهود وقصة البقرة

هل هناك عاقل في هذا الوجود يمكنه أن يتقبّل فكرة التّفاوض مع الله؟ ناهيك على أن يجادل الذّات العليّة فيما لا يملك. الجواب للأسف: نعم هناك. فإذا كان كذلك، فهل هناك عاقل تام العقل يجرؤ على أن يتفاوض مع هؤلاء؟ وللأسف: نعم هناك. هذه هي المعادلة الغريبة في فنّ الجدل، ترسخ  منطقا جديدا قائما على المكر والسّذاجة، الحيّل والنيّة، توافق في التّناقض يعرّي مسلّمات العقل، ويفرض منطق اللّامنطق. يجسدّها بكلّ ملامحها اليهود والأعراب.

أرض بني كنعان  للأسف محلّ تفاوض منذ زمن ولّى وما زالت، حتّى بعد “عهد النّكبة”، ولكنّ طبيعة المعادلة تفرض نفسها دائما، فهل يعقل لمن فاوض الله تعالى في بقرة ليست محلّ النّقاش، في قضيةٍ الأصل فيها بيان البراءة فيمن اتُهمّ بفعل القتل، أن يتنازل عن الأرض المقدّسة؟ كلاّ والله. قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، ويستمر الجدل ليكشف عن عورات نفوسهم، وتفاهة عقولهم ( قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ، فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ)، ولا يقف جدلهم لله عند هذا الحدّ بل يستمر، وفي كلّ مرّة تضيق مساحة الاختيار لتتوافق مع طبيعة الذّوات، ولتكشف عن مخبوء عظيم (قالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ. فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.).

جدل اليهود حول الأرض المقدسة

البقرة محل نقاش، طبيعة بشرية غريبة متقلّبة، ولكن أليست أرض بني كنعان كذلك هي الأخرى محلّ نقاش كالبقرة؟ يروي لنا القرآن الكريم نموذجا متجدّدا لهذه الطّبيعة الغريبة في أسوء مستوياتها، وهي على مشارف الأرض المقدّسة، لا يفصلهم عن دخولها إلاّ همّة وإرادة، ولكن طبيعة الجدل حالت دون ذلك، وبدل النّعيم المقيم كان التّيه في الأرض إلى حين، قال تعالى: ( قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ). فلما كرّر عليهم التّشجيع تبجّحوا وكفروا: ( قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). فكان الجواب الكافي لمعالجة هذه الطّبيعة المتقلّبة قالَ تعالى: (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

رجال عرفوا كيف يتعاملون مع الغاصبين

ألا نتعلم ونحن نتلوا القرآن أنّ مثل هؤلاء – من فاوض الله تعالى في بقرة – لا يمكنهم أبدا أن يفاوضوا الأعراب على أرض بني كنعان، ناهيك عن القدس؟ ولعلي هنا أتمثل قول البشير الإبراهيمي لمــّا بيّن حقيقة خداع فرنسا لمن طالبها بحقوق المواطنة وهي سالبة لأرضه وعرضه، “إن الحقوق التي أخذت اغتصابا لا تسترجع إلا ّغلابا”. وليس ببعيد عنه قلبا وقالبا أرضا ومسكنا شيخ المجاهدين عمر المختار لمـّا قالها صريحة في وجه جلاده: “نحن لن نستسلم ننتصر أو نموت”، إننا نقاتل لأنّ علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار غير ذلك، انا لله وانا اليه راجعون.

مقالات متعلقة بالموضوع

لقد أدركت المقاومة في فلسطين هذه الحقائق منذ زمن فطورت أداءاتها، وعززت مكانتها، وفرضت منطقها، فشروط التّفاوض لا تفرضها إلاّ لغة الرصاص. لا

بدّ أن لا تغيب هذه الحقيقة عن ذهن كل عربي مسلم حر، فأنا لا أؤمن بالتّفاوض مع الجلادين غاصبي الأرض والعرض، ولا سيما إن كانوا من جنس يهود.

فيديو مقال

أضف تعليقك هنا
محمد يسين لهلالي

ليسانس فقه وأصول - إمام وخطيب

شارك

Recent Posts

مشاركة تلاميذ ثانوية المتنبي التأهيلية بإقليم آسفي في مباراة الصحفيين الشباب من أجل البيئة دورة 2024

بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد

% واحد منذ

أفكار أعمال صغيرة مربحة جداً وغير مكلفة

بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد

% واحد منذ

على من نطلق الرصاص؟

بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد

% واحد منذ

الكوارث تبرز أفضل وأسوأ ما في الناس

بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد

% واحد منذ

فن الشاطئ.. رؤية فنية بحس جمالي فني سياحي لمدينة أصيلة الشويخ عبدالسلام

بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد

% واحد منذ

نقاء الروح

بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد

% واحد منذ