الرَّحمة بإيجاز: لا تكاثُر بعدَ الآن

بقلم: زيدان الدين محمد

“أي حافزٍ على الإنجاب في أرضٍ تُبارك دفنكَ أو لا تأبه لجنازتك؟”- ندئ عادل.

ما زالَ العالم لديه مُتّسعٌ من الليالي الدّاكنة بِالدماء

ما زالَ العالم لديه مُتّسعٌ من الليالي الدّاكنة بِالدماء، ما دام البشر في تكاثرٍ فجّ. يرسفُ هذا الكوكب بالمآسي المُضرّجة بأيدي البشر، ولا يستريح البشر يومًا من زرع أنياب الكارثة على وجنتي هذا العالم. ولعلّ أبرز أنيابٍ يزرعونها دونما أن تتخلّل سِيماهم رجفة الذنب وسنحة الإثم، هي “الإنجاب”. فَلهُم في التناسل هِمَّةً حلَّقَ جناحِها إلى عنانِ النّجم، و يمتدُّ صباحُها من شرقٍ إلى غربٍ، وكُل هذا في معزلٍ عن التّفكير عمّا إذا كان العالم الذي يتدافع فيه النّاس كالدّجاج المسلوخة ملائمًا لاستقبال طفلٍ جديد.

مأساة تُوثّقها ذاكرة ضحايا الحرب السوريّة

في مأساةٍ توثّقها ذاكرة ضحايا الحرب السوريّة على هاشتاق ” #مابروح_من_بالي ” بشجنِ التائهين في قيظ السّعير، على منصَّة تويتر، كانت هُناك الكثير من التغريدات المُتضمّنة مقاطعًا لأطفالٍ كُتبتْ طفولتهم على جِدار الهوان بفحمٍ و نار. فَذاكرة أحدهم تختزنُ صوت صُراخٍ لمشهد امرأة تضعَ وليدها في قلب الزِّنزانة.

حقيقة الإجرام الذي يقوم به اثنين لينجبوا طفلاً 

مالعجرفة التي يتطلّبها إنشاء حادثٍ مُتطرّف بوحشيةٍ كهذه؟ جميعنا يتّفقُ ولو لِمامًا أنّ العالم لا تنجلي عنه الأحداث المأساوية، خصوصًا في الحرب، وأن الشّرور مِن طبيعة الحياة، لكن لعلّ بعضنا يختلف في حقيقة الإجرام الذي يقوم به اثنين لينجبوا طفلاً في خضم حياةٍ هلكَ ظهرها من السياط الحامية، بل و قد يشرع _هذا البعض_ في تقنين هذا الفعل وتشريعه تحت بند ” ذلك من حقّ الآباء في أن ينجبوا، وأنّ الظّروف لا يجب أن تكون عائقًا ما دام الرّزق من السّماء، وأنّ هُنالك احتمالات بأن يحظى المولود بحياةٍ أفضل…” إلّا أنَّ الواقع يضحك ملء شدقيه مِن هذه التشريعات المُقفّاة بالعُته، المستهواة غُرّة التيه.

مالتبرير الأخلاقي الذي سيبتكره البعض لطفلٍ وُلِدَ في زنزانة؟

مالتبرير الأخلاقي الذي سيبتكره _هذا البعض_ لطفلٍ وُلِدَ في زنزانةٍ واحتمالات الموت المُريعة تسقفه وتحيطه من كل صوبٍ وجنب؟ لقد كُنا ندرك أننا في حربٍ وعالمٍ قاسٍ لَم يلتفت لمأساتنا التي خضّبتْ حياتنا وأزهقتْ دمائنا، لكنّها لَم تكن لدينا احتمالية بأنك قد تشهدَ وليدًا ذات حظّنا من الشقاء في هذه الأرض المُصابة بعضال الحرب و قوالب الباطل و صُور العتمة و رائحة الحريق؟…  إن الإنجاب وسيلة مشروعة لإجرامٍ غير مُبرّر أخلاقيًا البتَّة في هذه الحالة، بل في جميع الحالات على مستوى هذا العالم الذي تشوبه نغمة المُعاناة بين جلابيبه وجنبيه.

الواقع المؤلم الذي يعيشه أطفال سوريا

في أحدِ المقاطع على ذات الهاشتاق، مشهدًا لطفلٍ معصوب العينين، يرتجفُ في الزّاوية و حوله تترامى جُثث معذّبين و أمامهِ رجُلين يعتصما بهراوات، يهدّدانه، يملأن قلبه بصنوفٍ من الرعشة والرُعب _ الذي تفشل حواس كاتب هذه المقالة بتصوّرها في أبسط درجاتها عنفًا_ ثم يُباشرا تكسير عظامه. وفي تغريدةٍ أُخرى تروي ذاكرة أحدهم بُكاءً طويلاً عن أخيه البالغ من العُمر إحدى عشر عامًا، بعد خروجه من “سجن تدمُر” كم بقيَ مأهولاً بالأسقام النفسية والخيالات، مُحاطًا بفجيعةٍ لا يداوي كلمها آسٍ ولا يشدّ ثلمها تناسٍ؛ إثر حادثٍ تعرّضَ له جراء التحقيق الغاشم، حيث تمَّ ربط عضوه الذَّكري لمدّة إثنا عشرة ساعة كان يقاسي خلالها الجوع والبرد وتغشاه الكدمات هُنا وهُناك.

الحيوان لا يُمكن أن يكون قاسيًا كالإنسان الذي يتفنّن و يبتكر أساليب مُمارسة القسوة والعذاب

كما أنّ الذاكرة السوريّة محتفظةً أيضًا بما حدث للطفل السّوري “ثامر محمد الشرعي” البالغ من العُمر خمسة عشر عامًا، من رزءٍ ملأ الصدور ارتياعًا ومصيبةً أقرحتْ الأكباد وأوهنَت الأعضاد، إثر اعتقاله في مجزرة صيدا ثُم إعادته بعد أيام في صندوقٍ خشبي بجسمه الذي يوحي أن الذئاب تخجل من انتشاله بتلك الوحشية، متقرّح الأعضاء، مقطّع الأوصال، مليئة ملامحه بصنوف التعذيب البربري الذي لم يلحق به سوى من أهل جنسه “البشر”، وهُنا نستشهد بمُلاحظة إيفان كارامازوف “أحد شخصيات دوستويفسكي في رواياته” حين قال:

“الحيوان لا يُمكن أبدًا أن يكون قاسيًا كالإنسان الذي يتفنّن و يبتكر أساليب مُمارسة القسوة”.

هناك الكثير من الأطفال الذين ماتوا تحت الأنقاض مع حكاياتهم المؤلمة

ثامر وغيره الكثير من الأطفال الذي نُثرتْ قصصهم، وغيره أيضًا الكثير من الأطفال الذين ماتوا تحت الأنقاض مع حكاياتهم الأليمة، كان الإنجاب هو المتسبّب الرئيسي في شقائهم ومعاناتهم و موتهم بِوشاحٍ من البشاعة حُيكَ، و كان “اللإنجاب” وحده هو الذي سيقيهم مما تعرّضوا له – ولا تقُلْ بما أنَّه تم إنجباهم قبل الحرب فآبائهم غير مُلامين، كلّا، فاحتمالية تعرُّض الأبناء لهذه المُعاناة في عالمنا المجنون مُحقّقة سواءً على الزمن القريب أو البعيد، تعرّضهم لكُل ألوان الشّقاء احتمالًا مُحقّق.

رغم كل ذلك العذاب إلّا أننا نرى البشر يتكاثرون

إلّا أنّه برُغم ما حدث للأطفال _ وما زال يحدث في أجناب الأرض_ من نوائب الحياة وقسوتها يجب أن يكون رادعًا قويًا عن التناسل _على الأقل لمن هُم في مخاض الحروب والظروف القاسية_ إلّا أننا نرى البشر ما زالوا يتكاثرون و في أي ظروفٍ كانت _حتى في قلب الزنازين و رحم الجحيم_ بطريقةٍ تخجلُ منها الأرانب، وتحت مسوّغاتٍ يُقنّنها الآخرون بأقاويلٍ وأفكارٍ يتمشّى الزور في مناكِبها، و يتردّد البُهتان في مذاهبها، بينما هي في جوهرها لا تعدّ أكثر مِن حدّ سيفٍ على عُنق العالم.

يجب أن نستيقظ مِن ضلالة حلمنا ونوباتِ تفاؤلنا

يجب أن نفيقَ مِن ضلالة حلمنا و نوباتِ تفاؤلنا بأن هذا العالم قد تتحسّن ظروفه لتُلائم الذين نسحلهم _جبرًا_ من نعمة العدم لجحيمية هذا الوجود و بكُل تبجّحٍ سادرٍ في أنانيته، فنحنُ على ما نُكابده مُنذ خُلقنا، نملك الإجابة المعقولة لتساؤل بيرنهاردت ج. هروود في مقدّمة كتابه “تاريخ التعذيب” والذي يتناول دراسةً عن التعذيب من العصور القديمة وحتى القرن العشرين :
“هل هناك أمل أن يتغيّر الإنسان؟”.

بقلم: زيدان الدين محمد

أضف تعليقك هنا