أنا والصرصار

شخصية الصرصار:

تهابه أكثر النساء، وله في الأدب نصيب وافر، فمنزلته معروفة عند الأدباء، دون سائر الحشرات، كُتِبَتْ عنه العديد من الروايات، وللفقه الإسلامي حياله نظرة إيجابية لا يعلمها كثير من الناس، وأما أنا فلا أعتبره سوى خلق من خلق الله، لست أفضل منه في شيء إلا بما فضلني به الله عليه، وبعض ذلك مما لا دخل لي به ولا حيلة لي ولا له فيه، فهو صرصار ولا يدري لم هو صرصار، وأنا إنسان ولا أدري لم أنا إنسان، وكلانا ولله الحمد على التوحيد الخالص، نعبد الله على الفطرة، لا نعمل عقولنا في ذات الله، ونبجل كل ما في الكون لأنه صنعة الله، ونسير مع أقدار الله فينا على ما تقلبنا فيه من لظىً أو بردٍ، وعلو وانخفاض، وعافية وابتلاء، قد تدوسنا الأقدام، عمداً أو بالخطأ، هي في النهاية أقدار، ونحن: أنا و الصرصار ، لا نملك إلا نقول في كل حال الحمد لله، غير أننا مع ذلك لسنا أصدقاءً أعني أنا وهو، بل ولا حتى نحب أن نتجاور في أي وقت أو مكان، فلا هو يحب أن يحتك بي ولا أنا بطبيعة الحال، حتى لو غير أحدنا نمط حياته، فتخلى عن البيئة التي يحب العيش فيها، فلا أعتقد أن بإمكاننا أن نتعايش معاً، فلكل منا شخصية مختلفة، ومشاعر سلبية تجاه الآخر أحاول أنا من ناحيتي أن أتغلب عليها في غالب الأحيان.

للصراصير أنواع كثيرة:

ففي تقدير بعض المواقع توجد بالعالم ثلاثة آلاف وخمسمائة نوع من الصراصير، منها ما يسكن المزارع والغابات، ومنها صراصير الماء التي تكون في البرك والمستنقعات وعلى حواف جداول الماء والأنهار، ومنها دون ذلك، فيَحْيَى في البواليع ومواسير دورات المياه (أعزكم الله)، فالصرصار لا يخرج في سلوكه عن حالين، الحال الأولى هي الإزعاج، فهو يصدر نقيقاً عالياً لا يراعي معه طبيعتي التي تنفر من الأصوات العالية، وإنني أعلم أنه معذور في نقيقه مضطر إليه، لأنه لا وسيلة له لجذب الأنثى إلا بذلك، بل ولا وسيلة له لإعلام الآخرين من أفراد عائلته أيضاً إلا بذلك، فالقوم جميعاً ضعيفي النظر، ولا وسيلة لهم للإفصاح عن مكانهم إلا بالنقيق، لربما يتسع صدري إلى بعض ذلك، ولكن الذي لا أستطيع تحمله بحال، عندما تتداخل أصوات الذكور منهم بالليل كلهم يريد جذب الأنثى إليه، وربما يصل الأمر بينهم إلى ما هو أبعد من رفع الأصوات، فيحصل التقاتل. إنني لا أطيق ذلك، فكم من ليلة كنت أقضيها أتقلب في الفراش، وأصم أذناي بمناديل الورق، رغبة في النوم، ويحول بيني وبين ذلك نقيق صرصار الماء. لذلك بيني وبين هذا النوع من الصراصير تهاجر وتدابر، لا أحب جواره وهو أيضاً ينبغي ألا يحب جواري، أما الأولى فوضحت، وأما الثانية فلأنني لا أملك نفسي حين أظفر به وأنا وهو على تلك الحال، فلعلني تهورت فرميته بحذاء.

ملهم الشعراء:

في إيطاليا يفرحون بصوت الصراصير ويزعم محمد إسماعيل جاويش في كتابه عجائب الخلق في عالم الحشرات، أنهم يبيعون في البرتغال الصراصير في أقفاص لأجل الاستمتاع بأصواتها!، وكذلك يفعلون في الصين، بل لقد أبعد النجعة فزعم أن شعراء الإغريق كانوا يستلهمون من صوت الصراصير أشعارهم!!، ليكن ذلك، لن أضعف أمام هذه المعلومات، ولن أتأثر بسلوك غيري، ولو كان من الغرب الغالب، رغم شدة ولع كثيرين بتقليدهم، لكنني لن أفعل، فلكل منا طباع، وعادات.

مؤذٍ عن غير قصد:

الحال الثانية للصرصار، هي التي يكون فيها من ذلك النوع الذي يسكن الحمامات، والمطابخ، فإنه وإن لم يصدر فيها صوتاً، لكن تواجده في أكناف دهاليز تلك الأماكن ومجاورته فيها للقاذورات، ومروره عليها، يجعل من تحاشيه غنيمة تنفق من أجلها الأموال، لأنه وحاله كذلك، لن يلوثني فحسب، ولكنه سيكون سبباً في إمراضي، إنه بذاته غير ممرض، أعلم ذلك، وليس في طبيعته أن يتعمد إيذائي أو إلحاق الضرر بي، أو نقل المكروبات لي، لكنه يفعل ذلك عن غير قصد نتيجة ما يلعق بأرجله الستة من قذر، مما يحرص هو على نفيه عنه وغسل جسده منه، فيلقيه يمينا ويسارا أو كيفما كان في أي مكان، إنه همجي، ثم إنه قد تهور يوما ولحس أظفراً من أظافر يد شخص أعرفه وهو نائم، لعل يده كان بها زهماً من أثر عَشَاءٍ دَسِمْ، فجذب الصرصار إليه، فسبب له التهابا جلدياً، عن غير قصد منه طبعاً، لأنه إنما حمله على ذلك مجرد الرغبة في سد جوعته، كل ذلك يمكن أن ألتمس له العذر فيه، غير أنني لا يمكنني أن أتفهم ضرورة دخوله مرة في أذني وأنا نائم، عليه من الله ما يستحق، لن أغفر له ذلك ما حييت.

ومهما دافع (كوبي شال) عالم الحشرات عن ذلك التصرف المشين في دراسته التي نشرها في مجلة The Verge ونقلها موقع روسيا اليوم، حيث يقول: إن أُذُن الإنسان النائم هدفاً مثالياً للصراصير بسبب الدفء، والرائحة المنبعثة من الأذن والتي تشبه رائحة الخبز. إلا أنني لا يمكنني أن أتقبل ذلك، فستظل علاقتي بالصرصار كما هي، علاقة محفوفة بالترقب والحذر بل والحسم أيضاً، لكن، مع الاحترام. نعم رغم كل شيء، فإنني لا أملك أمام هذا الكائن إلا أن أحترمه، برغم الصورة الرديئة التي صورها دوستويفسكي في روايته الإنسان الصرصار، عن إنسان لا يحمل أي اسم، وله صفات بغيضة يتلذذ بإيذاء الآخرين وبإلحاق الأذى بهم، يحدث له ذلك الاستمتاع بسبب إفراطه في إدراك انحطاطه وأنه ليس في استطاعته أن يكون إنساناً آخر، فإن الحقيقة التي وقف عليها الكاتب الروسي الكبير وهو في القرن التاسع عشر لا تعدو أن تكون مجرد نظرة سطحية للصرصار ككائن بقدر عمقها على الجانب الآخر للشخصية التي رسمها في كتابه، لقد ظلم الصرصار، أو بالأحرى نظر إليه من زاوية واحدة فقط، حين اعتبر ذلك الإنسان المنحط صرصاراً، وهو معذور في ذلك، فمن المؤكد أن الأبحاث العلمية التي تبين القدرات الهائلة للصراصير لم تكن قد توافرت له في زمانه، فقد أراد أن يصف الشخصية النذلة التي تدور حولها أحداث روايته فقال الإنسان الصرصار، ولكن يبدو أنه كان متردداً في هذا الأمر، لذلك وضع لروايته اسمين آخرين، فهي تعرف أيضاً باسم رسائل من باطن الأرض، ومذكرات قبو.

هل أنصف الحكيم الصرصار؟

في مسرحية مصير صرصار لتوفيق الحكيم نظرة للصراصير ربما إيجابية إلى حد ما، فقد عبر عن شغفه بهم فقال: ولست أدري ما سر اهتمامي بالحشرات؟، إلا أن يكون بي عرق حي من قدماء المصريين، الذين كانوا يجمعون بين الحشرة والإنسان في هيكل واحد، لقد اهتم بهم، كما اهتم بهم عديد غيره من الأدباء، ولكن الحقيقة أنه لم يُنصفهم أيضاً حين وصف مَلِكَ الصراصير بأنه مَلِكٌ على ثلاثة فقط هم الوزير والكاهن والعالِم، وأنَّ كل مؤهلات الملك التي جعلته ملكاً هي إعجابه بطول شاربه!، وعدم تفرغ الآخرين لقياس شواربهم مثله!، والمسرحية ذات روح فكاهي يَعرض فيها الكاتب لِقِيمِ التعاون، ونبذ الأنانية، والإصرارِ على الكفاح، وأهمية الوحدة والتجمع بين أفراد الجنس الواحد، المسرحية بديعة، وقد كانت سبباً في شهرة توفيق الحكيم لشدة إقبال الناس عليها، لكنه ألَّفها دون أن تكون لديه معلومات علمية كافية عن الصراصير، لأن عمله أدبي، بطبيعة الحال، فقد كثف جهده على الفكرة التي يريد أن يوصلها، وجعل من الصرصار الذي رآه في حوض استحمامه يكافح للخروج منه مُرْتَكَزَاً لإيصال أفكاره. أما مقارنته المستمرة بين النمل والصراصير، وجعله من النمل عدوا للصراصير، فهي في الحقيقة أفكار مصدرها المشاهدة وليست معلومات علمية.

عالَمُ العجائب:

إن المعلومات العلمية عن الصراصير لا تجعلني أميل إلى عقد مقارنة بينه وبين النمل ولا حتى الإنسان، فلكلٍ عالمه، وعالم الصراصير عالم مليء بالعجائب، التي لا تقل في روعتها عن أي عالم آخر، بل إنها ربما تبلغ في روعتها وعظمتها آفاقاً بعيدة جداً تجعل من عقد المقارنة بين الصراصير وغيرها من الكائنات ربما ظلم لتلك الكائنات!، فالصرصار قادر على أن يوقف تنفسه لمدة خمسة وأربعين دقيقة متصلة دون أن يصيبه أي أذى، والصرصار قادر على أن يعيش بلا طعام لمدة شهرين كاملين، وبدون ماء لمدة أسبوعين، إنه أيضاً يركض بسرعة تقارب الخمسة كيلو مترات في الساعة!، وفي كتاب: عجائب خلق الله في عالم الحشرات يقول محمد إسماعيل جاويش إن أسرع الحشرات جرياً هو الصرصور الأمريكي يجري بسرعة 4.7 كيلو مترا في الساعة.

وهو قادر على أن يعيش في جميع المناطق بدون استثناء، بل وأزيدك من الشِعْرِ بيتاً فإنه إذا قُطعت رأسه بقي حياً لمدة أسبوع كامل!، وقد يقول قائل لا بأس فهناك كائنات لها نفس الخصائص أو قريباً من ذلك، لكن الشيء الذي يفوق به الصرصار سائر الكائنات على الأرض، وبجدارة، وبلا منازع هو أنه الكائن الوحيد الذي تَعَرَّضَ لِخَمْسِ مَوْجَاتِ انقراضٍ تسببت كل موجة منها في انقراضِ أكثرَ من تسعين في المائة من الكائنات، وبقيت الصراصير بعد كل موجة دون أن تتأثر أو تتعرض لأية خسائر، وأما قضية القذارة التهمة المعلبة للصراصير، فإنه على الرغم من أنها فعلا تُخلِّفُ وراءها كمًّا من الفضلات التي تحتوي على المكروبات، من أثر بحثها في القذارات والأوساخ، لكنها مع ذلك حريصة على بقاء جسدها نظيفاً دائماً، فهي تلعق قرون استشعارها بفمها تماماً كما تفعل القطط، للإبقاء عليها نظيفة، وهناك معلومات كثيرة مدهشة في مقالة علمية منشورة على موقع popular science إعداد الباحثين: آية أشرف المرسي، وفراس دالاتي، بعنوان: أساليب مذهلة للبقاء على قيد الحياة تجعل من شركاء السكن جديرين بالإعجاب. هي إذاً بالتحقيق المتجرد كائنات جديرة بالاحترام، ربما يُعْجَبُ المرء بعدُوِّه، لكن احترام العدو لا يكون إلا من شيم النبلاء.

طهارة الصراصير ورقي الإنسان:

بعد هذا التطواف العابر حول الصراصير، وعلاقتنا بها، يبقى السؤال الذي لن أنسى أن أجيب عليه وهو هل الصراصير نجسة؟، الجواب عند الكاتب العراقي الكردي الشيخ كمال صادق ياسين في كتابه القيم: أحكام الحشرات في الفقه الإسلامي، حيث بحث المسألة في كتب الفقه وبين أن أكثر العلماء على أن ما لا نفس له سائلة من الحشرات مثل النمل والنحل والعناكب والصراصير إذا وقعت في الماء لا تنجسه، وذلك قول أكثر العلماء، واستثنى الحنابلة وبعض الشافعية من ذلك صرصار الكنيف يعني الذي يكون في دورات المياه، فهو نجس، ولهذا القول وجاهته، ولكن خالف المؤلف ورجح أنه هو أيضاً وإن تولد من نجس فليس بنجس.

وقصارى ما أصل إليه بعد هذا الحديث عن الصراصير أننا وبدون فلسفة لسنا أفضل من الصراصير في أي شيء إلا بما نَفْضُلُ به سائر الكائنات غيرها، وذلك لا يكون إلا بتعلم العلم وتعليمه، فبهذا فقط أسجد الله الملائكة لآدم، وبهذا فقط تصبح للحياة قيمة ومعنى يفوق جميع الخلق، وبغير هذا لا أجدني وسائر البشرية جديرين لا على الصراصير ولا غيرها بأي فضل.

فيديو مقال أنا والصرصار

 

أضف تعليقك هنا