ما قبل الانتخابات التركية

بقلم: علي حقيس

انقسام الشارع التركي بين حزب العدالة والتنمية وتكتل المعارضة

ينقسم الشارع التركي بشكل واضح بين حزب العدالة والتنمية وتكتل المعارضة، وهذا يشير إلى احتدام المنافسة في انتخابات تبدو الأصعب والأهم لدى حزب العدالة والتنمية المتمثل بقائده رجب طيب اردوغان (رئيس البلاد) من جهة وكذلك لدى التكتل التاريخي للمعارضة من جهة أخرى والذي بات فيما يعرف ب “الطاولة السداسية” والمتمثل بمرشحهم التوافقي كليتشدار اوغلو. ينقسم الشارع التركي انقساماً غير معهود من قبل ولك ان تعرف مدى هذا الانقسام من خلال الاستطلاعات التي اجريت عبر عدة وكالات وكذلك فيما تشاهده من حالة القدرة على الحشد لدى الطرفين، وأكثر ايضاحاً تجده في درجة الخطابات اللاذعة التي ترمي بشررها بشكل لاذع في تصوير الفشل والعجز والأخطاء بين الطرفين، وهذا التوتر الخطابي الشديد ينبئ بمدى مستوى المنافسة، ولعلك ان تقرأ القلق الذي يختبئ وراء خطابات أردوغان حتى وإن كان الرجل ذا كاريزما قوية ومهما بدا بلغة ناضجة وأكثر إقناعاً وقدرة. وذلك القلق ليس بسبب قوة المعارضة حتى وان كانت بطاولتها السداسية غير أنه ناتج من حالة تأرجح “طريقة التفكير” و”القراءة للانتخابات” الجارية لدى الشارع التركي، حيث يعي أردوغان صعوبة هذا المنافسة ومدى تراجع شعبية الحزب نسبياً السنوات الأخيرة خصوصاً بعد خسارته مؤخراً لبلدية اسطنبول للمرة الاولى منذ تأسيس الحزب.

سعي تكتل المعارضة إلى التأثير بعقلية الشعب التركي 

يدرك حزب العدالة والتنمية واردوغان بأن تكتل المعارضة يلعب بورقة خطيرة جداً في حملتهم الانتخابية هذه والتي تتجسد في حالة “الوعي”، فبينما يتجه اردوغان وحزبه نحو إيقاظ (الوعي الشمولي) لدى الناخب التركي تسعى الاطراف المعارضة إلى (اختزال وعي الشارع)، وبذلك يبدو السباق أكثر عمقاً مما يبدو عليه حالياً، فبينما تجد أردوغان بحزبه يقود مشروعاً تاريخياً لنهضة تركيا على مستويات عدة وتحقيق إنجازات كانت من المستحيلة في مدة استثنائية تجد المعارضة تتجه إلى تغطية او تحوير كل تلك الإنجازات باستخدام سلاح (تسطيح) عقلية الشارع التركي ومحاولة ضرب أردوغان وحزبه من خاصرة التدهور الإقتصادي الحالي، يدرك الكثير بأن المنافسة ليست بين مشروعين وطنيين لا سيما وهناك مشروع حقيقي واحد يتمثل في حزب العدالة والتنمية مهما كانت هناك من أخطاء وعثرات، بينما يتجسد اللامشروع في طرف المعارضة الذي يضم أحزابا متباينة الرؤى والوجهات والتي جمعتهم رغبة واحدة في إسقاط اردوغان وحزبه أكثر من فكرة او وجود مشروع تركي حقيقي يضاهي على الأقل مشروع اردوغان القائم.

توجهات متضاربة بين الحزبين ما بين إحياء الموروث العثماني وإحياء الموروث الأتاتوركي

تتهم أحزاب المعارضة أردوغان بأن سياسته الخارجية تؤثر على الداخل التركي غير أن الانفتاح الخارجي والوجود العالمي من وجهة اردوغان هو ما يمكن تركيا في تحقيق النهضة الشاملة، بعد أن انتهج الحزب نهج الانفتاح على الخارج وإعادة تنشيط العلاقات الخارجية وتعزيز وجودها ولعل داوود اوغلو كان له الأثر الكبير في نقل تركيا إلى المستوى الخارجي بأسلوب ونهج يبرز الهوية التركية وتاريخها الكبير، تكمن استراتيجية الحزب الحاكم إلى ضرورة الخروج من الهامشية العالمية والإقليمية عبر إعادة تشكيل الفضاء العثماني والى ضرورة الاضطلاع بمسئولية قوة امبراطورية سابقة كما ذكره الكاتب والمفكر “كرم اوكتم” في كتاب (تركيا-الأمة الغاضبة)، وذلك ما مكن تركيا من إعادة علاقتها مع الدول العربية إلى مسارها المطلوب والتي كانت مستمرة بمساعيها إلى أن وصلت مؤخرا في تحسين علاقتها مع السعودية ومصر، كما أن شخصية الدولة التركية الخارجية جعلتها رقما في الإقليم والشرق الأوسط وعلاقتها الأوروبية بشكل غير مسبوق، ولكن هذا الأمر أصبح مستهجناً لدى المعارضة التركية التي تعود دوافعها ونزعاتها إلى ضرورة محاربة الهوية الإسلامية والتي تمتد إلى ما قبل عهد اردوغان في عصر حكم الجنرالات والبيروقراطية التي كانت تدير تركيا بالانقلابات ومحاربة وإقصاء الهوية الإسلامية التي تعتبرها خطراً على الموروث الاتاتوركي والعلماني حيث كانت تعتبر نفسها الحارس الفعلي للاتاتوركية.

اختلافات في رؤية كل من الحزبين لعوامل تقدم الصناعة والاقتصاد 

من جهة أخرى ترى المعارضة بأن استضافة اللاجئين السوريين والعرب يشكل عبئاً وخطرا على الداخل التركي ونجدها تتعهد بطرد ما يقارب ٤ ملايين سوري من البلاد اذا ما وصلت إلى سدة الحكم، ولكن اردوغان بجد ذلك ظلما وعدوانية تلك المطالبة وقال عبر لقاء تلفزيوني ردا على سؤال أحد الشباب لا يمكن أن نترك اللاجئين السوريين او نطردهم منطلقاً من المبادئ الإنسانية والإسلامية التي تدفعه لمساعدة اللاجئين بكل ما يستطيع ولا يبدو أنه سيساوم على هذه الورقة التي تبدو من المبادئ الثابته والراسخه في قلب الحزب. وكذلك نجد المعارضة تسخر دائما من الاهتمام الصناعي الدفاعي ومحاولة ربطها بمسألة عدم انعكاسها على الاقتصاد التركي وتحسين أوضاع الموطن والقضاء على البطالة، بينما أردوغان يمضي قدما بمشروع تطوير الصناعات الدفاعية التي تعتبر من اقوى النجاحات التي خلقت تقدما عالميا لتركيا ومن وجهة نظر الحزب فإن تحقيق الاستقلالية العسكرية صناعياً وإداريا من أولياته الكبرى والتي تمكن تركيا من الحفاظ على أمنها واقتصادها ونهضتها. تلك أبرز الخلافات الجوهرية في توجهات الطرفين.

قيادة الوطن تحتاج إلى رؤية واضحة وتجسيدها 

ولعلنا نجد بأن ما يميز حزب العدالة والتنمية ليس بأنه حزب لديه رؤية واضحة بل أكثر من ذلك في حقيقة تجسد تلك الرؤية وذلك المشروع الكبير الذي يطمح ويسعى لتحقيقه في تركيا. لأن العبرة تكمن في انعكاس رؤيتك القومية فيك قبل كل شيء، لو لم تجسد في نفسك واقعاً وفعلاً ما تدعو له لأصبحت رؤيتك في مهب الرياح، لذلك نجد الآية العظيمة { ۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ…}، وإن لم تفعل انت وتطبق تلك الرسالة في حياتك حتى وإن أعلنت الرسالة فأنت لم تبلّغها للناس..!

لذلك فإن مشروع قيادة الأمة التركية او اي بلد لا تبنى على حجم الوعود او النيات المعلنة لدى اي جماعة او حزب بل تقاس بمدى انعكاسها على حاملي الرؤية اولا وفيهم قبل الجميع فلذلك نجد أن رؤية حزب العدالة والتنمية تجسدت فيه قبل خروجها للنور ومن ثم اتسق معها في كل مراحلة، فنجد أن الحزب خرج من عباءة فكرة المعارضة بمفهومها الارتجالي منذ تأسيسه وتلك الديناميكية والحيوية التي امتاز بها جعلته أكثر إنفتاحاً على الجميع ولم يعارض حتى العلمانية او الموروث الاتاتوركي، ركز الحزب بميوله الاسلامي وتمثيله الجانب المعتدل فيه على أهمية هضم الرؤية الوطنية فيه بشكل أساسي وتبني النموذج فيه فحقق نجاحات كبيرة مع اول الفرص البسيطة التي توفرت لديه، وكانت إدارته لبلدية اسطنبول وتحويلها من مكب للنفايات إلى إحدى أهم الوجهات السياحية في العالم، وهذه كانت أبرز ملامح تجسد الرؤية العظيمة لدى الحزب والتي مكنته إلى المضي قدما، على العكس تماما عندما تسلم حزب الشعب وهو اكبر احزاب الطاولة السداسية رئاسة بلدية اسطنبول مؤخرا عاد بها إلى الوراء وفشل فيها فشلا واسعا بأرقام مسجلة يدركها الشارع التركي، لذلك ما يفتقر له حزب الشعب وأحزاب المعارضة هي نفسها ما تفتقر إليه الكثير من الجماعات والأحزاب السياسية في البلدان العربية الداعية للتغيير في الافتقار إلى تجسيد الرؤية الوطنية فيها ومقدرتها على تبني النموذج سواء في كيانها الداخلي او حتى مع أبسط الفرص التي تتاح لها، فلا يكفي أن تعلن رؤيتك الوطنية ما لم تتجسد فيك اولا.. (كن أنت المستقبل الذي تنشده).

لذلك ربما تستطيع المعارضة إسقاط أردوغان لكنها كما يرى مراقبون لن تستطيع قيادة الدولة التركية إلى بر الأمان او حتى إكمال الطريق الذي يسلكه اردوغان، فوجود أحزاب مترامية أطرافها الأيديولوجية والاستراتيجية في حلف واحد سيكون أبعد ما يمكن أن يحققوه هو إسقاط اردوغان وما بعدها سينشب الخلاف وستخرج النزعات الذاتية لكل حزب والسعي نحو فرض وجوده ولن تظهر الأحزاب بهذا التوافق اذا ما تم وصولها للسلطة ودحر حزب العدالة والتنمية.

كيف استطاع حزب العدالة والتنمية جذب الشارع التركي إلى طرفه؟

تتجه المعارضة بأدوات تسطيحية بحتة في مواجهة اردوغان ومحاولة تسليط ذهن الشارع على الثغرات الحاصلة في البلاد وإبعادهم عن دائرة الوعي الشمولي بماضي وحاضر ومستقبل تركيا، لذلك اتجه اردوغان بكل ما اوتي من قوة في محاولة إيقاظ الوعي الشمولي لدى الناخب والشارع التركي، وكانت الحنكة الكبيرة لأردوغان في برنامجه الإنتخابي الحالي حين استعمل لغة الأرقام بدلا من الوعودات الطائشة، تلك الحنكة التي تجسدت في افتتاح أردوغان وإعلانه لمشاريع تركية ضخمه لأول مرة يتم إعلانها.. فوجدنا برنامجه الانتخابي لم يكن يحتوي على الخطابات الرنانة فحسب بل وجدنا انه يعلن لأول مرة جاهزية اكبر مشروع استخراج غاز في البحر الأسود بينما كان زعيم المعارضة سابقاً يردد ساخراً بأنها أكذوبة، ونجده يشهر صناعات دفاعية عالية المستوى لأول مرة، ويعلن الكثير من المشاريع الضخمة التي تؤكد أحقية هذا الحزب لتولي الحكم مجددا.. والكثير من الأرقام والانجازات الضخمة في كل الأصعدة منذ بداية بزوغه في السلطة حتى الآن وهذا يبرهن بأن هذا الحزب قد صنع لتركيا مجداً جديدا نقل تركيا ال مصاف الدول العالمية العظمى بعد أن كانت تتذيل القوائم.

ولأن المعارضة لن تستطيع إنكار او إخفاء كل تلك الإنجازات التي حققها حزب العدالة والتنمية فإنها اتجهت الى استخدام الأوراق التي بيدها في عملية تضليل الشارع وتسطيح عقليته وتبسيط رؤيته إلى ذلك الحد من رفع زعيم المعارضة للبطاطا والبصل ملوحاً بالأزمة الاقتصادية وترديها المحتدم والشائك اذا ما استمر اردوغان في الحكم.

محاولات قوى المعارضة للفوز بالانتخابات  

ولذلك فإن الخطاب الجماهيري قبل الولوج إلى صناديق الاقتراع يكون من اقوى الأوراق المتوفرة والمتاحة في ايادي الجميع والتي من شأنها تحدد مدى تأثير الطرفين على الشارع لا سيما وتوجد هناك فئة كبيرة جدا من الناخبين بناء على مراقبين لم يحسموا خيارهم بعد، وتزداد محاولات استغلال الشارع أكثر الان بعد انسحاب مرشح حزب البلد (محرم إنجه)، تتجه المعارضة بكل أدواتها الإعلامية والجماهيرية إلى اختزال وعي الشارع في حالة الظروف الإقتصادية الصعبة التي تجري في تركيا خصوصا في آخر سنتين وما خلفته جائحة كورونا وكذلك الزلازل التي حصلت في البلاد مؤخراً، كما تسلط الضوء بحملاتها وخطاباتها بشكل واسع على فئة الشباب التي تعد من أكبر الأعمدة التي ترتكز عليها الطاولة السداسية في محاولة استغلال الثغرات الموجودة في السلطة ورمي الكثير من الوعود الطائشة لتحسين وضع الشباب خصوصا الذين ولدوا في عهد حزب العدالة والتنمية من ليس لديهم وعي ماضوي بما قبل عهد اردوغان والذين لم يشهدون على التحول التاريخي لتركيا بقيادته، كما تسعى إلى تصوير البنية السياسية بالفاشلة، فبينما زعيم حزب الشعب ومرشح المعارضة يتهم أردوغان بالدكتاتور ينسى متناقضاً تلك الحرية والديمقراطية التي يتمتع بها إلى هذا الحد من النقد والمعارضة حالياً ومنذ سنوات.. ففي الحقيقة فإن هذا الرجل (أردوغان) قد أرسى وعزز من وجود الديمقراطية في البلاد وتأمين وجود حراك سلمي سياسي غير مسبوق.

لقد جرب أردوغان مسألة إيقاظ الوعي الشمولي لدى الشعب في ٢٠١٦ مع محاولة الإنقلاب الفاشل حيث استجاب الشعب لنداء الرئيس في حدث يعتبر الاول في تاريخ تركيا الحديث استطاع الشعب ان يواجه الجيش بكل جرأة. ولكن هل سيكون الأمر الان مشابها عندما يكون في الطرف الاخر أحزاب مدنية تدغدغ رغبة الشارع في مسألة التغيير.

بالطبع ستكون صناديق الإقتراع هي التي ستنبئ عن ما اذا كان لإردوغان تحقيقا لطموحه في الوصول إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي التركي كليا مع الذكرى المئوية للجمهورية التركية ام ان المعارضة ستتمكن من تحقيق وجودها تحت قيادة رئيس أقل كاريزما وحنكة من الرئيس الحالي..! تلك الأصوات التي سيتم فرزها ستحدد مئوية الأمة التركية الجديدة عبر حكم قائد تركي استثنائي يحكم برؤية أم عبر حكم شخص منتدب لتكتل بلا رؤية يحكم برفقة خمس نسخ متباعدة.

بقلم: علي حقيس

 

أضف تعليقك هنا