وقفات وتأملات مع كلمات جامعة ل-“عبدالله بن المبارك”

بقلم: التجاني صلاح عبدالله المبارك

بعض الناس لديهم المقدرة على جمع المعاني الكثيرة في كلمات قليلة فلا يسهب أو يسرف في الحديث، لكنه يوجز كلامه في كلمات قليلة جامعة، وهي خاصية ليس في مقدور أي فرد أن يتمكنها أو يتقنها. ” عبد الله بن المبارك المروزي” (118 هـ-181 هـ) هو واحد من هولاء، وهو عالم وإمام مجاهد وأحد الفقهاء الأعلام.

وقبل أن أذكر هنا جزءا من المعاني المتعددة في كلمات “ابن المبارك” القليلة مما جمعه “الذهبي” في سير أعلام النبلاء، فإنه ينبغي ان أشير أولاً إلى أن الكلمات الجامعة هي من الخصائص التي اختص الله بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلّم، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي”.[1]

دلالات ومعاني من قول ابن المبارك “أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس” 

وفي كلمات ” ابن المبارك ” -رحمه الله- مما جمعه الإمام الذهبي قال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك : إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.[2] لأول وهلة تبدو هذه الإجابة شديدة الإيجاز والاختصار، إلا أنها مع ذلك تنطوي على معانٍ كثيرة كامنة ربما لا تكون واضحة تماما إلا بعد إدامة النظر فيها، ويمكن تفصيل جزء منها على النحو الآتي:

أولاً: الصحبة المباركة والحب في الله

السؤال عن الأصحاب والاخوان وتفقدهم يعكس معنى الإهتمام ويشتمل على معانٍ عظيمة الأهمية بقدر ما هي معانٍ كريمة، فهو يعطي مفهوم المحبة بمعناها الجامع الشامل وهو الحب في الله، قال الله جل وعز: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) [آل عمران: [103.

ثانيا: الإخاء في الله وشيم المؤمنين

تفقد الأصحاب والاخوان والسؤال عنهم هو ايضاً شيمة وخلق من أخلاق المؤمنين، لأن رباط الإيمان والإسلام يعتبر من أقوى الروابط ويحقق معاني الإخاء الكامل، قال الله جل وعز: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وأتقوا الله لعلكم ترحمون ) [الحجرات:10] وقال رسول الله صلىاللهعليه وسلّم : ” المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ” .[3]

ثالثا: رباط الإيمان والإخاء في الله من أقوى الروابط بين الناس

صيغة السؤال (لم لا تجلس معنا ؟) فيها أن السائل هو فرد من مجموعة، وهذه المجموعة مترابطة فيما بينها متحابون بينهم بل إن الحب ليتعداهم إلى الآخرين، لذا سألوا عن ابتعاده عنهم، وإذا رأو أن هناك فردا تجتمع فيه صفات الخير والإيمان أحبوا أن ينضم إليهم، ويسألوا عن سبب ابتعاده إذا غاب عنهم.

رابعا: الرغبة في الخير للآخرين من صفات المؤمنين

اضافة لما سبق من هذه القيم الكريمة والخصال الحميدة فإنه يستشف رغبتهم في الخير لكل الناس، وهذا هو الإيمان الكامل والمعية المباركة؛ يحبون للخير أن يعم وللفائدة ان تنتشر فينالها القريب والبعيد ، وفي هذا معنى الإيثار وتخصيص الغير بالخير العام، لا أنانية ولا إثرة وبهذه المعاني يشترك الكل في ما فيه الخير والصلاح. قال الله جل وعز:(والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [الحشر: 9].

خامسا: اجابة اشتملت على الايجاز والفصاحة

أما اجابة ” ابن المبارك ” (رحمه الله) فإن أول ما يلفت النظر فيها هو أنها اجابة مختصرة وجامعة للكثير من المعاني، وفيها فصاحة بليغة دلت على المعنى بعبارات بسيطة ومقنعة، وهذه ميزة حسنة لأن الكلام اذا طال اختل واذا اختل اعتل.

سادسا: اهتمامه بأشرف العلوم

ذكر ” ابن المبارك ” (رحمه الله) في إجابته ان السبب هو مجالسة الصحابة والتابعين والنظر في كتبهم وآثارهم، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان في معناه الجامع الشامل، فقد كان يعتني بسند الحديث ورجاله وقد قال في كتابه الزهد والرقائق: (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).[4] ولأهميته الكبيرة ألف علماء الإسلام في رجال الاسناد المجلدات الكثيرة، والجرح والتعديل هو باب عظيم في علم الحديث وشديد الأهمية؛ فهو الذي يعتنى بالرجال الناقلين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم والآثار والأخبار، والنظر في شرائط قبولهم، وأسباب ردهم، فما استوفى من الأسانيد شروط الصحة حكم بقبوله، وما كان فيه سبب أو أكثر من أسباب الرد رد. وهذا الضرب من العلوم هو من العلوم الهامة التي تهتم بحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصحيح قال الله جل وعز (ومن إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9].

سابعا: آثاره من مداومة النظر في كتب السنة

ومداومة النظر في كتبهم وآثارهم هي صحبة الغرض منها العلم والعمل بصحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، مع هذا من فوائد هذه الصحبة ايضاً ان “ابن المبارك” كتب كتابه الجهاد وكتاب الزهد والرقائق في ستة عشر جزءا، وهو من أجل ما صنف في هذا الباب بالرغم من احتوائه كما قال “ابن تيمية” على العديد من الأحاديث الواهية.

ثامنا: الاهتمام بطلب العلم النافع أو الحظ الوافر

اجابته ايضا فيها الحث على لطلب العلم النافع وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما رواه الصحابة الكرام رضي الله عنهم ومن التابعين، قال الله جل وعز:(ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ان الله عزيز غفور ) [فاطر: 28] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ” من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا ، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا ، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ .[5]

تاسعا: الاهتمام بالاستفادة من الوقت

كان يوجه بعبارته الفصيحة النصح في الاستفادة من الوقت فيما يحب الله ويرضى، حتى تكون حياة الفرد كلها لله، قال الله تعالى : (قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين )[الانعام: 162] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:” لا تَزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ، حتَّى يُسأَلَ عن عُمُرِه؛ فيمَ أفناه؟ وعن عِلْمِه؛ فيم فعَلَ فيه؟ وعن مالِه؛ من أين اكتسَبَه؟ وفيم أنفَقَه؟ وعن جِسمِه؛ فيمَ أبلاه؟”.[6]

عاشرا: التذكير بالابتعاد من الغيبة

ولأن الجماعات من الناس إذا التقوا ربما يكثر الحديث والثرثرة، وربما يقعون في الغيبة والنميمة، وهما من كبائر الذنوب لذا فقد كان من الطبيعي أن يذكر من الوقوع في ذلك، قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 12] ، وعن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “أتدرون ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: ذِكْرُك أخاك بما يَكرَهُ، قيل: أفرأَيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبْتَه، وإنْ لم يكُنْ فيه فقد بهَتَّه “.[7]

ختاما فإن ” ابن المبارك” الذي قال عنه يحيى بن معين: كان عبدالله بن المبارك (رحمه الله) كيِّسًا، مستثبتًا، ثقةً، وكان عالِمًا، صحيح الحديث، وكانت كتبه التي يحدث بها عشرين ألف حديث، أو واحدًا وعشرين ألف حديث.[8]كانت له كلمات شبيهة بهذه الكلمات القليلة التي راجعناها، فقد قال نُعيم بن حماد: كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟![9] والمعنى يقترب من المعنى في الكلمات الأولى، فقد خلص الرجل جل وقته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

المصادر:

[1]_أخرجه: البخاري (7013)، واللفظ له، ومسلم (523).
[2]_شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، سير اعلام النبلاء،ج 8 ص 398
[3]_أخرجه البخاري (2442).
[4]_عبدالله بن المبارك المروزي، تحقيق أحمد فريد، الزهد والرقائق،(الرياض: دار المعراج الدولية، ط. 1،1995)
[5]_أخرجه أبو داود (3641) واللفظ له.
[6]_ شعيب الأرناؤوط، تخريج سير أعلام النبلاء،ج-9 ص . 316
[7]_ أخرجه مسلم (2589).
[8]_تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 32 ص. 431.
[9]_ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 11 ص. 388.\

بقلم: التجاني صلاح عبدالله المبارك

 

أضف تعليقك هنا