معضلة النص القراَني

مارس المؤمنون من مختلف الأديان في فترة ما من تاريخهم العنف ضد معتنقي ديانات أخرى , أو أعضاء من طوائف مختلفة ضمن الدين الواحد , وبما أن الديانتين المسيحية والإسلامية هما الأكبر على الأرض (54.6% – من السكان- مركز بيبو الأمريكي 2016) , فمن الطبيعي أن يتم اعتبارهما أهم نموذجين لدراسة شواهد العنف المرتبط بدوافع دينية, وإمكانية المواءمة بين الإيمان والحضارة مع وجود نصوص مقدسة تمجد العنف.

ما هو الفرق الجوهري بين الديانتين المسيحية والإسلامية ؟

أن الفرق الجوهري بين الديانتين هو أن مفكري اللاهوت المسيحي استطاعوا تقديم ديانتهم كديانة سلام مع الناس ومع النفس ساعدهم في ذالك عديد من النصوص التي تسير في هذا السياق

( لكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ – انجيل لوقا 27:6) ,(إن ثمار الروح المسيحية هي ” محبة، فرح، سلام، طول أناة،لطف، صلاح، إيمان،وداعة،تعفف” – غلاطيه 23,22:5 )

متجاوزين بذكاء تأويلي بعض الآيات التي تحمل شكلاً من أشكال العنف كما في إنجيل لوقا الاصحاح :19

(أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي)

معتبرين الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش ومعارك أوروبا الدينية وحرب البلقان اجتهاد بشري لا يستند إلتعى مفاعيل في النص المقدس , والمراجع المسيحية تدين هذه الحروب اما فيما يتعلق بالعهد القديم الذي يزخر بالكثير من تلك الآيات مما لا يمكن تأويله فقد جعلوا منه تراثاً يكنون له احتراماً نسبياً ليس من الضرورة أن يكون جديراً بالتقديس أو مقدس غير قابل للتطبيق.

مثال 1:

سفر يشوع 24/6 (واحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. إنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب )

مثال 2:

سفر العدد 33 (فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال.وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها. 17. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حياة .18. )

وهكذا أنتج لنا رجل الدين المسيحي تفسيرات وحلول للتناقض بين دعوتي العنف والسلام في العهدين بفضل الإنقلاب البروتستانتي على يد مارتن لوثر في القرن السادس عشر , تزامناً مع عصر النهضة بكل ما يحمله من سمات التجديد على كل الأصعدة العلمية والاقتصادية والثقافية فكان التأقلم الديني ثمرة متوقعة لكل هذه التطورات الإيجابية في المجتمع الأوروبي. يعاني الإسلام من المشكلة نفسها فالقراَن مليئ بالتناقضات في هذا المجال , وقد انتبه رجال الدين التاريخيين لهذا التناقض فلجؤوا إلى اختراع مفهوم (الناسخ والمنسوخ) لحسم الجدل لصالحهم ليرتفع النص المتشدد غير القابل للحياة في هزيمة واضحة لمعسكر الاعتدال الذي حاول إيجاد صيغة توافقية بين النص ومقتضيات التطور, جاء هذا الفشل لأسباب موضوعية , ولا أعني بالموضوعية -الحتمية- فالعراقيل التي تواجه عملية تثوير الإسلام على ذاته واجهت المسيحية من قبل ,و إيجاد الحلول لها ليس عصياً لدرجة الاستحالة ,ويمكن مماثلة تلك الأسباب مع ما سبق الإشارة إليه وإجمالهما في سببين رئيسين تتفرع عنهما كل المشاكل: أولهما أن الإصلاح الديني يحتاج وعي شعبي قبل الوعي النخبوي وهذا الإدراك يجب أن يحمل دلالاته الذاتية بمعنى أن يكون فهماً أصيلاً ناتج عن عملية نهوض فكري وثقافي وعلمي وهو ما لم يتوفر للمجتمعات الإسلامية بشكل عام , فأغلب مظاهر التطور الحضاري للشعوب الإسلامية تفتقد الجدة والأصالة والابتكار لأنها من مخرجات الحضارة الغربية – المسيحية- وهو ما يجعل عملية الإصلاح الديني نوع من الاغتراب عن واقع المجتمع , أما السبب الثاني فهو يتعلق بتقييم القرآن ذاته من قبل المسلمين , فالقرآن حسب المفهوم الكلاسيكي السائد هو كلام الله (حرفياً) لم ينقص منه حرف ولم يزد عليه حرف.

وبالرغم من أن كتب التراث تتحدث عن إمكانية وجود نقص أو زيادة فيه , فإن لا رجال الدين الحاليين لايتطرقون لتلك الأقاويل حفاظاً على امتيازاتهم بالنسبة للمحافظين وحياتهم بالنسبة للمجددين بينما كان من سبقهم أكثر شجاعة في الحديث عن هذا الأمر ,وإذا عدنا إلى طريقة جمع القراَن سنجد أنها لا توحي بالقدسية المطلقة له , تلك القدسية التي تجذرت مع مرور الزمن حتى تجاوزت النص إلى تفسيره , مفرغة أي محاولة إصلاحية من مضمونها فلا يرغب أي مصلح ديني الاقتراب من خطوط حمراء قد تودي بحياته , حاول بعض المفكرين ورجال الدين المتنورين التجديد عن طريق نقد التراث لكنهم لم يصلوا إلى النتيجة المرجوة , ذلك أنهم بهذا المنهج التخاذلي ناوروا مبتعدين عن لب المشكلة ومفتاح الحل في الوقت نفسه , القرآن.

السؤال الجوهري الذي نحاول الإجابة عليه هو: هل يمكن إجراء عملية إصلاح شاملة للإسلام وتحويله من ديانة تدعو للعنف وتستولد منظمات إرهابية تعبث في الأرض فساداً إلى دين يدعو للتسامح وبتقبل الاَخر المختلف؟ ويتعايش مع حضارة الألفية الثالثة ؟

والسؤال الأكثر أهمية هو:

كيف يمكن الوصول لتلك النتيجة دون نسف إيمان المسلمين بدينهم والحفاظ على الحد المعقول من المقدسات ؟

التجديد بأقل الخسائر, إنه حقاً عمل صعب لكنه ليس مستحيلاً !! الأمر يتطلب شجاعة استثنائية وتضحيات جسيمة , وصبر وجدية , لكني على يقين أن النتائج ستكون رائعة وستتنعم بثمارها كل البشرية وليس المسلمون فقط , لأن مخاطر التمسك الحرفي بالتراث الإسلامي – بما فيه القراَن – بات يشكل ضرراً ربما يزيد على خطر تاَكل طبقة الأوزون .

أقسام القرآن الكريم

يتكون القراَن من قسمين رئيسيين هما القراَن المكي ( الآيات التي نزلت في مكة قبل هجرة النبي إلى المدينة ) والمدني (الآيات التي نزلت بعد الهجرة) والفرق بينهما كبير فالأول مكتوب بلغة شعرية أخاذه تدعوا للتاَمل وتحث على الحب والتسامح وتطرح منظومة أخلاقية راقية تدعم المرأة والطفل وهذا مانجده في النماذج التالية:

1- وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) (فصلت).

2- ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) (النحل))

3- اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) (طه)

4-فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) (الضحى)

5- وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ(9)

أما القراَن المدني فقد ابتعدت بشكل عام عن المنهج الروحي لصالح واقعية بناء الدولة (الامبراطورية الاسلامية) , فأصبحت لغته جافة مليئة بالتكلف ويلاحظ فيها الخصوصية فالكثير من اَياته يكون مستهلها (أيها المؤمنون ) بينما نجد الخطاب في الاَيات المكية أكثر شمولاً وإنسانية حيث يبدأ الخطاب ب ( أيها الناس) ولايقتصر التغيير على شكل النص بل في مضمونه كذلك , فالاَيات المدنية تتحدث عن تشريعات وأحكام تشبه إلى حد ما دستور الدولة من تنظيم العبادات إلى العقوبات ( التي تحمل معاني القسوة والوحشية) وشؤون الاسرة والزواج ( تعليمات تنتهك في أغلبها حقوق المرأة) لكن أكثرها خطورة هي اَيات القتال والجهاد و وتلك المعادية للديانات الأخرى .

وهذه نماذج من تلك الآيات:

1-قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( التوبة – 29).

2-أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعون ( ال عمران – 83).

3-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ (الممتحنة -1).

4-إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (الانفال -12).

5-فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (محمد -24).

6-وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( الانفال -39).

7-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المتقين (التوبة – 123).

8-إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة – 33).

ما هو الحل لتلك الآيات، التي يستند إليها المتشددون، في نشر الكراهية؟

إذاً : ما هو الحل لتلك الآيات التي يستند إليها المتشددون في نشر الكراهية , ويستخدمها المتطرفون كغطاء شرعي لأعمالهم الإرهابية؟ الإجابة لن تكون بتلك البساطة التي يتوقعها القارئ , لكننا يجب أن نبدأ من نقطة ما , لقد حاول الكثير من المتنورين وضع تلك الآيات في سياقها التاريخي والظروف التي نزلت فيها.

بمعنى أن النص هنا محكوم بمحددات تاريخية – القرن السابع الميلادي – وجغرافية – مناخ الصحراء القاسي – واجتماعية – أعراب لايملكون من الحضارة شيئاً – والمسلمون الاَن غير ملزمين بالأخذ بها مع تغير كل تلك العوامل , لكن التجربة أثبتت عقم هذه المحاولة لأنها تتيح ذات المنهج (التخاذلي) في المعالجة. لايمكن للدين الإسلامي أن يلحق بركب الحضارة دون التخلص نهائياً من القراَن المدني والاقتصار على الجزء المكي منه , هذا هو المغزى , إذا كان المسلمون حريصون على بقاء دينهم وغيورين على سمعة نبيهم , فهل يملكون الشجاعة للمحاولة؟

علاء فالح ابو رغيف

فيديو مقال معضلة النص القراَني

أضف تعليقك هنا