شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (10 /16)

لماذا صرنا مستسلمين بعد أن كنا مسلمين ؟

من السخفاء من يقول : نعم ، قد كان ذلك لكن قبل أن يخترع الإفرنج آلات القتال الحديثة ، وقبل المدافع والدبابات والطيارات ، وقبل أن صار الإفرنج إلى ما صاروا إليه من القوة المبنية على العلم . وهذا القول هو بمنتهى السخف والسفه والحماقة ، فإن لكل عصر علمًا وصناعة ومدنية تشاكله ، وهي فيه كما هي العلوم والصناعات والمدنية الحاضرة في هذا العصر . وأمور الخلق كلها نسبية . ولقد كانت في العصر الذي نتكلم عنه آلات قتال ومنجنيقات ودبابات ونيران مركبة تركيبًا مجهولاً اليوم ، وكانت في ذلك الوقت كما هي المدافع والرشاشات وقنابل الديناميت وما أشبه ذلك في هذه الأيام . على أنه ليست الدبابات والطيارات والرشاشات هى التي تبعث العزائم ، وتوقد نيران الحمية في صدور البشر ، بل الحمية والعزيمة والنجدة هي التي تأتي بالطيارات والدبابات والقنابل . وما هذه إلا مواد صماء لا فرق بينها وبين أي حجر ، فالمادة لا تقدر أن تعمل شيئًا من نفسها ، وإنما الذي يعمل هو الروح فإذا هبت أرواح البشر وتحركت عزائمهم فعند ذلك تجد الدبابات والطيارات والرشاشات والغواصات ، وكل أداة قتال ونزال على طرف الثمام . ويقولون : إلا أن هذا ينبغي له العلم الحديث ، وهذا العلم مفقود عند المسلمين ؛ فلذلك أمكن الإفرنج ما لم يمكنهم .
( الجواب ) أن العلم الحديث أيضًا يتوقف على الفكرة والعزيمة ، ومتى وجدت هاتان وُجد العلم الحديث ووجدت الصناعة الحديثة . أفلا ترى أن اليابان إلى حد سنة 1868 كانوا أمة كسائر الأمم الشرقية الباقية على حالتها القديمة ، فلما أرادوا اللحاق بالأمم العزيزة تعلموا علوم الأوربيين ، وصنعوا صناعاتهم ، واتسق
لهم ذلك في خمسين سنة . وكل أمة من أمم الإسلام تريد أن تنهض وتلحق بالأمم العزيزة يمكنها ذلك وتبقى مسلمة ومتمسكة بدينها ، كما أن اليابانيين تعلموا علوم الأروبيين كلها وضارعوهم ولم يقصروا في شيء عنهم ، ولبثوا يابانيين ولبثوا متمسكين بدينهم وأوضاعهم . وأيضًا فمتى أرادت أمة مسلمة أدوات أو أسلحة حديثة ولم تجدها ؟ إن ملاك الأمر هو الإرادة فمتى وُجدت الإرادة وجد الشيء المراد .
فلو أن أمة من أمم الإسلام أرادت أن تتسلح لوجدت السلاح الحديث اللازم بأنواعه وأشكاله من ثاني يوم . ولكن اقتناء السلاح ينبغي له سخاء بالأموال ، وهم لا يريدون أن يبذلوا ، ولا أن يقتدوا بالإفرنج واليابان في البذل ، بل يريدون النصرة بدون سلاح وعتاد ، أو السلاح والعتاد بدون بذل أموال ، وإذا تغلب العدو
عليهم من بعد ذلك صاحوا قائلين : أين المواعيد التي وعدنا إياها القرآن في قوله : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 ) كأن القرآن ضمن للمؤمنين النصر بدون عمل وبدون كسب وبدون جهاد بالأموال والأنفس ، بل بمجرد قولنا : إننا مسلمون ، أو بمجرد الدعاء والتسبيح ؟ .
وأغرب من ذلك بمجرد الاستغاثة بالأولياء ، فأصبح الكثير من المسلمين وهم عزل من السلاح الحديث ، وغير مجهزين بالعلم اللازم لاستعماله لا يقومون للقليل من الإفرنج المسلحين المجهزين ، وصاروا إذا التقى الجمعان تدور الدائرة في أغلب الأحيان على المسلمين . فتوالى هذا الأمر عليهم مدة طويلة إلى أن فقدوا كل ثقة بنفوسهم ، واستولى عليهم القنوط ، ودب فيهم الرعب ، وألقوا بأنفسهم إلى العدو ، وبعد أن كانوا مسلمين صاروا مستسلمين ، وقد ذهلوا عن قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } ( آل عمران : 139-140 ) ونسوا أنه لا يجوز أن يتطرق اليأس إلى قلب أحد لا عقلاً ولا شرعًا ، ولا سيما المسلم الذي يخبره دينه بأن اليأس هو الكفر بعينه . وغفلوا عن قوله تعالى في سلفهم : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } ( آل عمران : 173-174 ) الآيات .
فتجدهم إذا استنهضتهم لمعاونة قوم منهم يقاتلون دولة أجنبية تريد لتمحوهم كان أول جواب لهم : أية فائدة من بذل أموالنا في هذا السبيل وتلك الدولة غالبة لا محالة ؟! ولو تأملوا لوجدوا أن الاستسلام لا يزيدهم إلا ويلاً ، ولا يزيد العدو إلا استبدادًا وجبروتًا ، سنة الله في خلقه . ولو فكروا قليلاً لرأوا أن هذا الشح بالمال على إخوانهم الذين في مواطن الجهاد لم يكن توفيرًا وإنما كان هو الفقر بعينه ؛ لأن الأمة المستضعَفة لا تعود حرة في تجارتها واقتصادياتها ، بل يمتص العدو الغالب عليها كل ما فيه علالة رطوبة في أرضها ، ولا يترك للأمة المستضعفة إلا عظامًا يتمششونها ، من قبيل ( قوت لا يموت ) وكثيرًا ما تحصل مساغب ويموتون جوعًا كما يقع كثيرًا في جزائر الغرب والهند وغيرها ، ترى المجاعات واقعة في الهند ولا يموت منها ولا إنكليزي ، وتراها تشتد في الجزائر ولا يموت بها إلا المسلم .
وما السبب في ذلك إلا أن الأجانب قد استأثروا بخيرات البلاد ولم يتركوا للمسلمين إلا الفقر . فقام المسلمون اليوم يعتذرون عن عدم بذل الأموال لمساعدة إخوانهم بعدم وجودها ، وهذا صحيح إلى حد محدود ، وذلك أنهم بخلوا بها في الأول فجنوا من بخلهم على الجهاد الذل والخنوع أولاً ، والفقر والجوع ثانيًا . فإن من سنن الله في أرضه أن الذل يردفه الفقر ، وأن العز يردفه الثراء ، والمثل العربي يقول : مَن عَزَّ بَزَّ .
والشاعر العربي الإياديّ يقول :
لا تذخروا المال للأعداء إنهمُ …. إن يظهروا يأخذوكم والتلاد معا
هيهات لا خير في مال وفي نعم … قد احتفظتم بها إن أنفكم جُدعا
والمتنبي يقول :
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله … ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فالمسلمون عز عليهم المال ففقدوه ، وعزت عليهم الحياة ففقدوها ، وأبى الله إلا تصديق كلام النبي الموحى إليه حيث يقول : ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على القصاع ) قالوا : أوَمن قلة فينا يومئذ يا رسول الله ؟ قال : ( لا ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع من قلوب أعدائكم ؛ من حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت ) . هذا الحديث كان رواه لي الشيخ الكتاني الفاسي رحمه الله يوم لقيته في المدينة المنورة منذ ثماني عشرة سنة ، ثم قرأته في الكتب ، واستشهدت به في مقدمة (حاضر العالم الإسلامي ) ، وألفاظه تختلف من رواية عن رواية . فالأستاذ صاحب المنار أمتع الله بطول حياته هو الأدرى بأصح رواياته ، ومعناه ظاهر ؛ وهو : أن المسلمين يأتي عليهم يوم يصيرون فيه مأكلة وتمتد إليهم الأيدي من كل جهة ، فهذا العصر الذي نحن فيه هو ذلك اليوم ، وأن المسلمين لا يكون عيبهم يومئذ من قلة العدد ، بل يكون عددهم كثيرًا وإنما لا تغنيهم كثرتهم شيئًا ؛ لأن الكثرة بنفسها لا تفيد إن لم تقترن بجودة النوع ، والكمية لا تغني عن الكيفية ، وعلة العلل في ضعف المسلمين ذلك اليوم هو الجبن والبخل ، صريح ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت ) . ومن المعلوم أن الإفراط في حب الدنيا يحرم الإنسان التمتع بها ، وأن الغلو في المحافظة على الحياة تكون عاقبته زيادة التعرض للهلاك ، هذه من سنن الله في خلقه أو من النواميس الطبيعية كما يقال في هذا العصر . فالقرآن يأمر المسلم بأن يحتقر الحياة والمال وكل عزيز في سبيل الله ، ويأمر المسلم أن يثبت ولا ييأس ، وأن يصبر ولا يتزلزل مهما أصيب .
وتراه يقول : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } ( آل عمران : 146 ) .
هكذا يريد الله ليكون المسلمون ، فإن لم يكونوا هكذا بصريح نص القرآن ، فكيف يستنجزون الله عداته بالنصر والتمكين ، والسعادة والتأمين ؟ !
ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين : الجمود على القديم ، فكما أن آفة الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم ، بدون نظر فيما هو ضار منه أو نافع ، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئًا ، ولا ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم ظنًّا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر ، وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفار .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (10 /16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان