شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (8 /10)

لنعمل هذه التجربة .. فبضدها تتبين الأشياء .

لنفرض أن مسألة البربر دخلت في طور النجاح ، وانتدب البابا الكاثوليك الذين في العالم لبذل الأموال اللازمة لهذا التحويل الذي تتوخاه فرنسة في البربر من دين الإسلام إلى دين النصرانية ، فكم مليونًا تظن من الجنيهات يُدرّ على المبشرين والرهبان والراهبات لبناء الكنائس والمدارس والملاجئ والمستشفيات ومراكز الأسقفيات وما أشبه ذلك – لإتمام هذا العمل الذي تضم به الكثلكة ثمانية ملايين من البرابر إلى الأربعمائة مليون كاثوليكي الذين في العالم ؟

لا شك أن الجواب يكون : عدة ملايين تجمع في بضعة أشهر . فإن قيل للبروتستانت : تعالَوْا فقد أذناكم بتنصير البرابرة فابذلوا في هذه السبيل ما أمكنكم ، فإنها تُدرّ حينئذ الملايين بقدر ضعفي ما يُدرّ من الكاثوليك وفي مدة أقصر من المدة التي يجتمع فيها المال الذي يجود به الكاثوليك !

فلنقل للمسلمين : إن البرابرة صاروا على شفا الخروج من الإسلام ، وإن الأس في هذا الصبوء عن دين الاسلام هو الجهل . فعلينا أن نرسل إليهم علماءً ووعاظًا ليتفقهوا في الدين ، وأن نبني لهم المساجد والمدارس والكتاتيب والملاجئ إلى غير ذلك من الوسائل التي تمسك بحجزاتهم عن مفارقة الإسلام والمسلمين . فكم تظن المبلغ الذي يجود به المسلمون بعد اللتيا والتي لهذا العمل ؟ لا أظن أنهم يجودون بما يتجاوز جزءًا من مائة مما يبذله الكاثوليك أو البروتستانت !

فهذه هي حَميَّة المسيحيين على دينهم ، وهذه هي حمية المسلمين . ومن الناس من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وقصورهم عن مباراة سواهم ، ولو تأمل في هذه الفروق في النهضة والحمية لوجد عندها الجواب الكافي .

ومن أغرب الأمور أن نرى الأوربيين ودعاتهم وتلاميذهم من الشرقيين بعد هذا كله يتهمون المسلمين بالتعصب الديني ، وينبزونهم بلقبه ، وينتحلون لأنفسهم التساهل في الدين ! إن هذا – والله – لعجب عُجاب . وها أنا الآن في كتابتي هذه التي معناها الدفاع لا التجاوز ، والأستاذ الأكبر صاحب المنار ، وعبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين ، والأستاذ صاحب مجلة الفتح وغيرنا من الرجال الذين يبغون منع الاعتداء على الإسلام ، وينادون المسلمين لينتبهوا للخطر المحدق بهم – متهمون بالتعصب الديني ومنبوزون بهذه الكلمة ، لا بين غير المسلمين فقط ، بل بين المسلمين الجغرافيين أيضًا- أعني الذين يتباهون بأن سياستهم ( لا دينية ) وطالما صرحوا بأنهم لا يقيمون للدين وزنًا ، وطالما تزلفوا إلى المسيحيين بكونهم هم لا يدافعون عن الدين الإسلامي كما يدافع زيد وعمرو .

فالمسلم إذًا لا يخلص من لقب ( متعصب ) إلا إذا سمع أن الفرنسيس يحاولون تنصير البربر فمر بذلك كأن لم يسمع شيئًا ، وإلا إذا سمع أن الهولانديين نصَّروا مائة ألف – وقد زعم أحد نواب البرلمان الهولاندي أنهم فازوا بتنصير مليون مسلم من مسلمي الجاوي – وهز كتفه قائلاً : أنا لا يهمني أكان الجاوي مسلمًا أم مسيحيًّا .. هنالك ( المسلم ) يصير ( راقيًا ) ويعد          ( عصريًّا ) ويقال فيه كل خير .

وأما الأوربي فله أن يبذل القناطير المقنطرة على بث الدعاية المسيحية بين المسلمين ، وله أن يحميها بالمدافع والطيارات والدبابات ، وله أن يَحُول بين المسلمين ودينهم بالذات وبالواسطة ، وله أن يدس كل دسيسة ممكنة لهدم الإسلام في بلاد الإسلام ، وليس عليه حرج في ذلك ، ولا يسلبه هذا العمل صفة ( راقٍ ) و ( متمدن ) و ( عصري ) وأغرب من هذا أنه لا يسلبه نعت         ( مدني ) و ( لا ديني )و ( متساهل ) ! وهؤلاء ( المسلمون الجغرافيون ) برغم هذه الشواهد الباهرة للأعين ، وبرغم ما عملته جمهورية فرنسة ( اللادينية ) في قضية البربر لمآرب دينية كاثولكية ، وبرغم حماية هولندا لمبشري الإنجيل في الجاوي ، وبرغم قرار الحكومة البلجيكية رسميًّا إكمال تنصير أهل الكونغو ، وبرغم منع الإنكليز في الأوغاندة وفي دار السلام – وكذا السودان – بث الدعاية الإسلامية بين الزنوج ، وبرغم أمور كثيرة – لا يسعنا الآن شرحها – لا يزالون يخدعون المسلمين قائلين لهم : إن أوربا قد رفست الدين برجلها وسارت على خطة لا دينية ، وبذلك قد نجحت ، ونحن لن نفلح ما دمنا

سائرين على خطة إسلامية !

قد قام ببث هذه السفسطة أناس في تركيا ووجدوا ممن تلقاها بالقبول عددًا كبيرًا . وترى أناسًا في مصر والشام والعراق وفارس يقولون بها ويكابرون في المحسوس ولا يبالون ؛ لأنهم يجدون على كل الأحوال من الأغرار مَن يصدقهم .

فيديو  شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (8 /10)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان