منذ أعوامٍ وأنا أتابع هذا “الفيس” الماكر، وأرقبُ أحواله، ذات مرة كتب أحدُهم شعرًا فصار بـُحكم التعليقات أدبيًا وشاعرًا، وكتبَ آخر خاطرةً، فنصبوه وليًا ذي كرامات وبركات، وغيرت أُخرى صورتَها، فحصدت إعجاب الكثيرين وتنافس المعلقون في التعبير عن سحرها، تعلم كما يعلم الجميع أنها ليست صورتها، لكنها صدَّقت الكَــذَبة أنها أهيف من “هيفاء”، وأرق من “سُعاد حُسني” في أغنية ” الدنيا ربيع “، وربما نقلَ أحدهم حكمةً أعـجبتهُ دون أن يُنوه أنها مَنقولة فـ (ينشكح) وهو يـُـتابع مدحَ المـُعجبين بحكمتِه، وكلماته التي تستحق أن تـُـكتب بماء الذهب.
جبر الخواطر وإدخال السرور على الآخرين ليس بهذه الطريقة المُـدمرة، فالمبالغة في المجاملة تجعل صاحب المنشور يعشق أن يـُحمد بما ليس فيه، ويُـدمن تلقى المجاملات فيصنع منها صنمًا لنفسه يكبر، ويزداد حجمه، ولكنه أجوف، قد يخدمه الواقع الفعلي ويوقظه في مواقف عدة، ليـُدرك من خلالها حجمهُ الطبيعي، ولكنه يأبى تصديق ذلك، فيعود بسرعة، ويختبئ خلف شاشة الواقع الافتراضي.
خـَلَّفَ الكثيرين من المرضى النفسيين، تعليقاتٌ يـٌبالغ أصحابها في المدحِ والإطراء، ويُصدقها صاحبُ المنشور حتى يُصاب بـجنون العظمة (الميغالومانيا) فلا يقبل ما دون ذلك.
جميل أن نُسجل لحظاتنا الحلوة في كل شيء، ولكن يا حبذا لو تُستثنى العبادات! فالأمر زاد إلى الحد الذي جعل أحد الأصدقاء يسأل مُستنكرًا: ما حُكم من حجَ أو اعتمر ولم يُـشارك صُـورَه في الحرم على “الفيس”؟ فأجبتهُ ساخرًا: طبقًا لدستور “الفيس” يُعد مذنبًا، وكفارةُ ذلك أن يسبق اسمه كلمة ” حج “، ويجعل الكعبة صورة لصفحتِه لمدة ستين يومًا متتابعًا.
شخصية العالـِم بكل شئ منتشرة بكثرة، يبدو أنها عادة بشرية أصيلة، فتجد شخصًا ما يناقشُ في جميع صفحات “الفيس”، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وكرة القدم، والأدب، وقلة الأدب أيضًا مرتديًا لباس أبو العريف.
صارت هناك مادة أخرى في دستور “الفيس” تقول:
من لا يملك حسابًا لا يملك إعلامًا، ومن لا يملك إعلامًا، لا إنجاز له، فَكَثـُرت الواجـهات التي تحصد جهُد غيرها، وترتوي بعرقـهم.
ذات مرة طلبتُ من تلاميذي الصغار أن يرسموا أحد أفراد العائلة، فرسمتْ لي إحدى التلميذات والدها وبيده “تابلت”، فطلبتُ أن تُعيده، فرسمته مرة أخرى وفي يده “تابلت” أيضًا، ولما سألتها عن ذلك قالت: هكذا أراه طوال اليوم يــَنــظـرُ لـِجهازهِ فاتحًا ” الفيسبوك”، حزنتُ بشدة، قد لا ننتبه أننا بأفعالنا لا بأقوالنا نـُربي، ونغفل عن صغارٍ يحتاجوننا، يتشوقون لعودتنا وقضاء الوقت معنا.
لقد ذهبنا جميعًا إلى مواقع التواصل بكل أمراضنا النفسية، ربما للتخلص من بعضها، لكنها ازدادت، وتوغلت، وأتت لنا بأمراضٍ لم نعهدها من قبل، هذهِ المواقع صارتْ جزءًا مهمًا من حياتنا لا ننكر ذلك، ولكن نحتاج لجهدٍ كبير في ضبطها، وتهذيبها، وتحجيمها حتى لا تلتهم نفوسنا وأعمارنا وأهلنا.
فيديو مقال ميغالومانيا الفيس
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد