على صهوة الفكرة – #سياسة

النظام والعدالة، فكرة لا مصطلح

سبعة آلاف عام من اختراع الكتابة؛ وحتى الآن لا يوجد كلمة واحدة يمكنها أن تصف لنا ما يجيش في صدرك من شعور أو ما يجول في رأسك من فكر. الكلمة التي وصفها التوراتيون والإنجيليون بأنها كانت البداية في كل شيء (الله)، في حد ذاتها  ” قالب “؛ لا بد له أن يحتوي مفهوماً تعودنا عليه فألفناه؛ فحين لا تستطيع التعبير في شكل إبداعي، مختصر أو مسترسل، تذهب الفكرة أدراج الرياح.

فقد لا يخطر بالبال أن مفردة ” القانون ” في اليونان القديمة كان يعبر عنه بالإسم الإلهي “أيونومينا” والتي تترجم الآن حرفياً لـ” العدالة “، كما لم أدر إلى ماذا تشير معلومة مثل كون مبدأ: (البينة على من ادعى) مصري الأصل حسب رواية ” ديودور ” المؤرخ الصقلي عن “بكوريس” أحد ملوك الاسرة السادسة والعشرين المصرية، هذا إن لم يكن يوناني النشأة من وضع المشرع الأثيني “سولون”.

بل إن أكثر العبارات المُصَوّرة التي لا تزال تلمع في ذهني حتي تاريخه تنتميان إلى ” محمود أبو السعود حبيب ” أستاذ القانون العام بجامعة ” عين شمس ” في أحد مؤلفاته حول القانون الإداري حين قال: “لم يسبق لي أن قابلت الدولة؛ ولم أحتسي الشاي مع شخص معنوي من قبل”. ولكن بعيداً عن التعريفات النمطية المستهلكة يمكن ببساطة شديدة التعبير عنه بأنه “فكرة تنظيمية اجتماعياً”.

وحيث إن الفكرة في ذاتها غير ملموسة شأنها شأن القانون فقد لا أستطيع تخيل أحدهم ولا منحك صورة لأي منهما، إلا أن البديهي طبيعة القانون الثابتة على مر العصور، وإن اختلفت مسمياته أو مفرداته كلما أوغلنا في القدم ومن مكان لآخر؛ وكما قابلت مفردة القانون أيضاً في مصر القديمة، على سبيل المثال، (تحوت وماعت) واللتان احتوتا مفهومي النظام والعدالة بمصطلحيهما الحديث، مع ملاحظة أنهما كانا كُلّ لا يتجزأ وفقاً لفكر المصري القديم.

مقاربات بين الجمهورية والإمبراطورية

لقد قالوا عن أثينا أنها من أرقى المدنيّات التي نعمت بحكم ديموقراطي في الماضي؛ في حين وصفوا إسبرطة بالمعسكر المسلح.

وكما هو معروف أن الأنجلوسكسونية التي اصطحبها ” لوك ” و “هكسلي ” وغيرهم، من إنجلترا إلى العالم الجديد في الأميركيتين تأثرت تأثراً شديداً بالأفلاطونية؛ مع العلم أن أفلاطون الأرستقراطي الأثيني الذي شهد انحلال أثينا وسقوط ديموقراطيتها أمام الانضباط العسكري الإسبرطي، وشاهد معلمه يحكم عليه بالموت من قبل نخبة أوليجاركية حكمت في ثوب ديموقراطي، فأدرك كما أدرك من قبله ” ليكرجوس ” المشرع الذي وضع نظام اسبرطة الاجتماعي، والذي شاهدنا منه لمحات في فيلم 300، أن ” الأيونومينا ” أو التجسد الحي لـ”الدولة الرشيدة” هو الحل.

وكما قال أفلاطون إن الجمهورية يجب أن تتصف بالاعتدال أي عدم التدخل في شؤون الآخر بدءاً من تخصصه في العمل وصولاً إلى غرفة نومه، مادام يلتزم بالأطر القيمية المعينة من قبل السلطة، وهو ما قارب فكرة الدولة الرشيدة من وجهة نظر ” ماكس فيبر ” مؤسس علم الاجتماع الحديث، والتي تتحول لتشبه المصنع الكبير أو خط الإنتاج في النظام الرأسمالي “الفوردي”؛ حيث يوضع الفرد في حلقة مفرغة ليصبح هو المنتج وهو المستهلك، ويكون انتماؤه أولاً وأخيراً للدولة بصرف النظر عن انتماءاته الأخرى؛ أو كما يعبر أرسطو عن دولة اسبرطة التي جعل منها حكماؤها دولة جافة العود معتدلة المزاج، وأن يجعلوا الأفراد يعيشون كخلية نحل ترتكز حول ملكتها.

أما من حيث الإمبراطورية، والتي اشتقت منها لفظة الإمبريالية، فيجب عدم إنكار التأثير القوي لسياسة ” بركليز ” الأثيني وخلفاؤه الخارجية منذ منتصف القرن الخامس قبل الميلاد وما تلاه من سنين؛ حيث اتسمت بالواقعية، واستهدفت المنفعة، وأثبتت مرونة مدهشة من حيث التوفيق بين الاستجابة لضرورة انتهاج السياسة الإمبريالية، وفي الوقت ذاته ضمان أكبر قدر من الثبات داخل المجتمع الأثيني الجانح للحرية الفردية والمساواة، لذا من الصعب إقناعه بتقبل مفاهيم مثل الغزو والقوة والإمبراطورية إلا بمعرفة ما الاستفادة التي ستعود من ممارسة كل منها كما أشار “براتراند راسل”.

لذلك كان حلف “ديلوس” الذي تأسس علي خلفية فكرية أثينية هو التبلور المثالي لمجتمع ديموقراطي يميل وقت التوسع للفكر الإمبريالي المقنن أكثر من الكولينيالي السافر؛ إلى جانب الاعتراف بفكرة أشخاص المجتمع الدولي في شكلها البدائي، يبرمون اتفاقات ويصدقون على مواثيق وينشؤون منظمات، يحصل فيها الأقوى على السطوة حين استخدامه الجزرة والجاذبية الثقافية أكثر من استخدامه للعصا.

قناعتي فيما يتعلق بكتابة التاريخ

فإني لم أعد مقتنعاً حيال إنصاف معظم المؤرخين المحدثين لأثينا، برغم أن الفلسفة الدستورية لمعظم نظم أشخاص المجتمع الدولي الدستورية الآن أفلاطونية الهوى رأسمالية الثروة، لأَنِّي أدركت أن التاريخ لا يكتب إلا بريشة الأقوي.

وحسبي أني الآن واقع تحت تأثير ثقافتي المصرية الشرقية التي تؤمن بالثنائيات حتى النخاع؛ وأني – وحتى هذه اللحظة – لا أستطيع التفريق بين المؤامرة الكونية والسنّة الكونية، إلا أني على يقين أن ما تقدم لا يكفي لتنقية شوائب كوّنت غلالة رقيقة علي ثقافة ضاربة بجذورها في التاريخ وما قبله.

وللحديث بقية..

فيديو مقال على صهوة الفكرة

أضف تعليقك هنا