على هامش بريكست

الانفصال عن أوروبا

تخوض رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مواجهاتٍ سياسيةٍ صعبة داخل بلادها اضطُرت معها لتعويض بعض أركان حكومتها، وخلقت مناخاً سياسياً شديد الاضطراب؛ كل ذلك في سبيل التوصل للكيفية التي ستؤطر العلاقة بين لندن وبروكسل بعد منتصف ليلة الـ 29 من مارس 2019 حيث سيصبح الانفصال بين العاصمتين في إطار الجماعة الأوروبية واقعاً حقيقيا.

الوزيرة الأولى لا تزال ماضية في رؤيتها السياسية وتدافع عنها بشراسة، وتسابق الزمن لأجل ذلك، وكشفت عن عزمها بجلاء حين أعلنت عن توليها شخصياً ملف المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بدلاً من الوزارة المعنية بشؤون الاتحاد في حكومتها.

المثير للدهشة أن بريطانيا وهي تخوض مواجهاتها السياسية الداخلية الصعبة بشأن بريكست كانت هي تاريخياً أول من دعا لاجتماع الأمم الأوروبية في كيانٍ واحد حين قال رئيس وزرائها الأشهر ونستون تشرشل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعامٍ ونصف “علينا الآن أن نبني كياناً أشبه بالولايات المتحدة الأوروبية”، لكن حين وقف وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان في مايو 1950 معلناً عن ميلاد (الجماعة الأوروبية للفحم والصلب) -والتي هي النواة الأولى للاتحاد الأوروبي الحالي- لم يكن العلم البريطاني مصفوفاً بجوار أعلام فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا.

الاختلافات البريطانية الأوربية

مفارقات البريطانيين مع الأوروبيين لا تنتهي فمثلاً النقابي العمالي البريطاني إرنست بيفن قال إنه يحلم بالتوجه إلى محطة فكتوريا والحصول على تذكرة قطار والذهاب إلى حيثما شاء دون جواز سفر لكنه هو ذاته حينما تولى وزارة الخارجية في بلاده دافع بضراوة عن فكرة رفض بريطانيا للجماعة الأوروبية الوليدة آنذاك، وحتى بعد انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي عام 1973 قامت دول لوكسمبورغ وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا في 1985 من خلال آلية التعاون المعزز للتكامل بدرجة أفضل داخل إطار الاتحاد الأوروبي بتوقيع اتفاقية شنجن لحرية الحركة والتنقل، وشملت بعد ذلك كل دول الاتحاد الأوروبي تقريباً، وأُزيلت الحواجز الحدودية تقريباً بشكلٍ تام إلا تلك العابرة للقنال الإنجليزي فلا تزال موجودةً منذ حَلِم بيفن حتى اليوم.

في كل عقد تقريباً تنشأ أزمة أوروبية داخل الاتحاد بسبب بريطانيا، وقد عانى الاتحاد من عرقلة أعماله كثيراً بعد وصول المرأة الحديدية مارجريت تاتشر للسلطة في بلادها، ورفعت شعار “لأجل استرداد أموالنا” حتى ضمنت التوصل في عام 1984 لتخفيضٍ كبير في مساهمة بلادها في ميزانية الاتحاد، ومع أنها أيدت مشروع السوق الموحدة الذي جاء مدفوعاً بليبراليتها الاقتصادية إلا أنها وقفت بشراسة ضد العملة الموحدة والدفاع المشترك والإصلاح المؤسسي للاتحاد، وألقت خطابها الشهير في مدينة بروج البلجيكية عام 1988 وقالت جملتها الشهيرة “نستحضر شبح دولةٍ أوروبية فوق الدولة تمارس هيمنتها من بروكسل”.

المصالح البريطانية 

ولم تشأ بريطانيا التنازل عن مصالحها مطلقاً في كل مراحل علاقتها بالاتحاد، وهي التي جاهدت في أثناء مفاوضات انضمامها للاتحاد للحصول على مميزاتٍ تفضيلية لمستعمراتها السابقة في أفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ الأعضاء في الكومنولث مطالبةً بمساواتها بمستعمرات نظرائها الفرنسيين والبلجيكيين والإيطاليين والهولنديين، وقد حصلت على مبتغاها الذي جاهدت لأجله، فضلاً عن رفضها الدخول في العملة الموحدة أو في اتفاقية شنجن لحرية الحركة والتنقل، وهي التي وقفت بشدة في أثناء مناقشة (معاهدة الاستقرار والتنسيق والحوكمة في الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي) في ديسمبر  2011-والتي جاءت ضمن سلسلة تدابير أوروبية في أعقاب الأزمة المالية عام 2007- مطالبةً بحماية لندن باعتبارها مركزاً مالياً عالمياً.

ومع أن علاقة البريطانيين بالاتحاد الأوروبي تميزت فيما يخص التكامل الاقتصادي، وفيما عدّه بعض المراقبين قيادة بريطانية متميزة في تطوير السوق المشتركة إلى سوق موحدة إلا أنها ظلت تفتقر إلى المضي قدما نحو صور أخرى من التكامل الأعمق، وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية في إطار الجماعة، وإن كانت البارونة البريطانية كاثرين آشتون هي أول ممثلٍ سامٍ للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بعد استحداث هذا المنصب بموجب معاهدة لشبونة 2009، والذي وفي نفس الوقت يكون شاغله نائباً لرئيس المفوضية، وقد رأى بعض المراقبين أن ذلك انعكس على الدور الذي كانت تمارسه السياسية البريطانية والذي غلب عليه الطابع الإداري، ولم تستغل إمكانية أن يصبح هذا المنصب لاعباً سياسياً دوليًّا أساسياً، وهو دور بدأت تفرضه خليفتها الإيطالية فيدريكا موغريني.

اقتراح الانسحاب من الاتحاد الأوربي

الأنانية البريطانية المفرطة دفعت برئيس المفوضية الأسبق جاك ديلور إلى أن يقترح عليهم انسحابهم من الاتحاد حيث قال في حديثٍ صحفي العام 2012 “إن البريطانيين مهتمون بمصالحهم الاقتصادية فقط ليس إلا، ويمكن أن نقترح عليهم شكلاً آخر من الشراكة”، وديلور بالمناسبة -وهو الذي كان وزيراً للمالية في بلاده خلال الفترة الأولى من ولاية الرئيس فرانسوا ميتران- ينسب إليه بعض المراقبين دوره في تحويل المفوضية إلى جهازٍ سياسي لا يقتصر على الدور التنفيذي البيروقراطي، وهو الذي قدم حين توليه المفوضية قائمة مشروعات اقتصرت على السوق الموحدة، والعملة الموحدة، والسياسة الدفاعية المشتركة، والإصلاح المؤسسي، وانتهت جهوده إلى معاهدة ماستريخت 1992 التي شهدت ولادة الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي وهويته القانونية الجديدة، ودفعت بقوة نحو تكامل الجماعة على مساراتٍ مختلفة.

وقد أخذ البريطانيون بنصيحة ديلور -وإن لم يكن ذلك مقصوداً من قِبَلهم-، لكن كانت هذه النتيجة النهائية لتباعد نهج البريطانيين عن نهج معظم الأعضاء الآخرين، وأصبحت بريطانيا فعلاً هي أول دولة تستخدم حق الانسحاب من الاتحاد إلا أن ذلك لن يلغي كياناً يكاد يكون فيدرالياً بامتياز تنبأ لكيفية ولادته الوزير الفرنسي شومان في مايو 1950 وهو يقول “لن تُصنع أوروبا دفعةً واحدة، ولا وفقاً لخطة عامة واحدة، بل ستُبنى من خلال إنجازاتٍ ملموسة تخلق أولاً تضامناً واقعيا”.

فيديو مقال على هامش بريكست

أضف تعليقك هنا