الوعي باللاوعي

وإذ فجأة يجري الجميع وراء سراب، ويتنافسون من أجل اللاشيء، وهْمٌ صوَّرَه أحدُهم فأحبّه الجميع، وأحبوا تصوير غيره الكثير، فأصبح الكل يجري ولا يدري إلى أين أو إلى متى، هو يجري لحين الوصول لما لا يمكن الوصول إليه.

شخصيات تسبب مرض في المجتمع

لا يدري غير أنه في الطريق الصحيح، وأن هذا هو الطريق الذي لابد أن يسلكه الجميع وراءه، وراءه حتى يكون هو أولهم، ليس لصواب الطريق أو غيره. فهو في طريقه للصواب، وهو أول من في هذا الطريق، ولذلك هو أكثر الناس صواباً، ولا بد أن يقتدي الناس به، ويقيمون أنفسهم خلاله، فقد جعل نفسه الميزان الذي يقاس به الناس، ما يفعله صواب وما لا يفعله خطأ، لا بد من الجميع ألا يفعلونه.

لا داعي للاختلاف ولا داعي للاعتراض فهو غير قابل للنقد، ولكنه -لكونه بشر مثلنا- قابل للتقييم، ولكن مثل هولاء حين يخضعون للتقييم يختارون المقيّمون، فمن يمتلك حق التقييم هو واحد ممن يسيرون وراءهم في نفس الطريق، لا أحد في طريق آخر ولا أحد سبقه في طريقه؛ وذلك لأن هولاء لا يقبلون بأقل من مئة بالمئة، تركوا لنا الكسور وأحبوا السلامة، السلامة من العيب أو الخطأ، والسلامة من احتمالية العيب أو الخطأ، والسلامة من كل ما يمكن أن يواجههم بعيبٍ أو خطأ.

من يحاول فهو أحمق، نعم أحمق من لا يفهم كون هذا الشخص الأعظم في كل شيء، وما كان الأعظم يوماً ليُنتقد، وإنما أنت الأقل منه عظمة ولا تدرك كل ما يدركه هو، فانتقادك هذا من قبيل حماقتك، فخذها وانصرف.

ومما يثير العجب لا شك أن هولاء الناس غير مرئيين للبشر كما يظنون، بل هم يظنون أنفسهم بريقاً لامعاً في زمان غارق في الظلام!

والحق أن لا أحد يهتم، لا أحد يراهم، أو يرى غيرهم، ولا أحد يقيمهم، ولا أحد ينافسهم، ولا أحد مهتم بنقدهم، لأنهم في الحقيقة تركوا الواقع المرئي واتجهوا للأوهام، حيث لا أحد يُرى ولا ينافس ولا ينتقد، هم حقًا لا أحد ينافسهم في القمة، ولكن هذا لأنه لا يوجد غيرهم في هذا الطريق، هو الأول لأنه لا يوجد آخر.

ومما يثير الشفقة أنهم كثيرون للغاية، كل من يعترض على شيء في مجتمعه يصنع لنفسه آخر وهمي ليعيش فيه مع أمثاله في خياله، ويرفض التعامل مع المجتمع الحقيقي لأنه مريض كما يراه، والحق أنهم السبب في مرض ذلك المجتمع، أو السبب في استمرار مرضه. ولكن كيف بالعلاج إن كان المجتمع مريضاً؟!

ماهو المجتمع الحالي؟

فما المجتمع إلا وحدات متككرة من الناس، من البشر أمثالكم، منهم الصالح والفاسد منهم، من منهم وفيهم ما فيهم، ولكن هذا إثبات بأن مرض المجتمع من مرض ممثليه، يفشلون في معالجة مرضهم خشية الاعتراف به، فيعيبون مجتمعهم، والحق أن كل العيب فيهم، وينطلقون من أجل الوصول إلى منصة الحق، أو منصات الحق حيث يختلف الحق هناك حسب معتلي منصاته. الحق كله هو معتلي المنصة.

أصبح المجتمع غريباً منبوذاً من ممثليه، تكثر فيه المنصات يومًا بعد يومٍ، لا أحد يعلم ما يجري، من على صواب، قناعات تتغير، وأجيال تُرَبّى على اللاشيء، والجميع يترقب النيزك.

عندما نصل لهذه المرحلة من الداء لا بد من الوقوف والبحث عن دواء. لأن هذه الطريقة من الحياة لا تجدي، بل لا تكون الحياة حياةً بها، عندما نصل لهذه المرحلة لابد وان ندرك أن شيئاً ما قد وُجد بالفعل في مجتمعنا؛ وهو اللاوعي بالاوعي!

اللاوعي بأننا خلقنا، ولنا الحق في الصواب أو الخطأ، خُلقنا بشر ولم يُطلب منا يوماً أن نكون ملائكة، كلٌ منا لديه ما لديه من الميزات، ولديه قدر من العيوب اعترف بها أو لم يعترف، خُلقنا وقدَّر الله لنا الاختلاف “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين” نختلف لنفهم، أو نختلف من أجل الاختلاف فحسب، أو نختلف لأن زماننا وحياتنا قد اختلفت، ولكن هناك اختلاف، وهناك تغيير قد يكون صواب وقد يكون للخطأ.

والحق أن هذه الأيام تشهد ثورة في حياة الأجيال القادمة، ثورة بلغة الحق والحرية والانفتاح، ثورة حقيقة لا يدركون معنى أيٍّ من كلماتها، ولكنهم يقومون بها، يرون أن الماضي من الزمان قد مضى ومضى معه كل شيء، مضى معه من الماضي تقاليده وعاداته وكل ما نشأنا وجدناه، يرون أنهم جاؤوا إلى الدنيا لينيروا الظلام الذي كنا نعيش فيه، كيف لهم أن يعيشوا أمثالنا؟ وتفرض عليهم عادات وأعراف لا شأن لهم بها. كيف لهم ألا يتمردوا؟ يتمردون ثم يرفضون من يختلف معهم الرأي، يدعون بالحرية وهم أولى الناس بإدراكها ومراعاتها من قبل الآخرين، يدعون بالصواب وهم على خطأ، وما كان الخطأ عيباً ولكن العيب هو رفض الاعتراف به والدفاع عنه.

عندما أتحدث هكذا يُظَن أنني أبالغ، وأعطي أهمية لما لا أهمية له، ولكن دعوني أُمثل لكم..

أمثلة من المجتمع

بنت في السادسة عشر من عمرها على قدر من الجمال، تتحدث إلى ولد من نفس عمرها ليقنعون أنفسهم أنهم -مرتبطون- وما للكلمة أصل في الماضي، ولكنهم يرفضون الماضي بما فيه، ولكن عندما تتحدث بنت في سنها عن الزواج والحب والعلاقات، وكم سأنجب، وبم أسميهم، وأين نعيش، وتصبح حياتها كلها مُعلّقة بكلمة من ولد بنفس السن -يا بنت إنت مراتي-، البنت قليلة الوعي حقاً، والولد رأى نفسه يكبر قليلًا فظن نفسه رجلاً، وهو ما زال يأخد مصروفه من والده، البنت تحتاج من يوجهها ويوعيها، ولكن ماذا ولو كانت الاجابة على النصيحة -أنتِ لا تعلمين شيئًا- جيلكم غير جيلنا، ولم تجربي الحب، أيُّ حبٍ هذا لا أعلم، وأي وعي هذا، وأي طفولة هذه لتُعاش في مثل هذه الخرافات؟!

وأخرى أُعجبت بالأمثال، والشعارات، ومنشورات الفيس بوك البائسة واتخذتها منهجاً للحياة، ترد بإشعار أو مثل لا غير، فكرة أن ترد بما يرد على لسانها من كلام طبيعي غير موجودة على الإطلاق، ووُجدت مكانها فكرة ضرورة الرد بشيء غير مألوف لأُوصف بقدر من العمق، حتى العمق لا أعرف له معنى هذه الأيام، ومن البديهي أن نصيحة هذه البنت ترد عليها بشعارات أخرى، وأمثال حتى تيأس في نصيحتها، حتى الآن لا أحد يعلم من هي، هي فقط تردد شعارات تقرؤها لا قيمة لها إلا لكاتبيها، حتى الأمثال ما هي إلا تجربة شخصية لفرد واحد في زمن ما، لا تصلح لكل الأزمان ولا لكل الأفراد، ولكن لكْنَتُها تعطي الإيحاء بالعمق.

أصبحوا فجأة يجرون وراء أهداف لا علم لأحد بها، وهي في الحق سراب،  العمق سراب  والحب في ذاك السن -في معظم الأحيان- سراب، والكثير من أهداف الكمال التي تبناها هذا الجيل لا وجود لها على الإطلاق.

فالكمال لله وحده، والثبات ليس لنا، فقد خلقنا الله ضعافاً، ثم من بعد ضعف قوة، ثم ضعف وشيبة، يجب لأفكارنا أن تتغير هكذا، يجب أن نتدارك ونفهم ونتناقش ونفكر ونعيش .. يجب أن يعيش الطفل طفلًا والمراهق مراهقاً والمسئول مسؤولاً، كلٌ في مكانه، لمَ العجلة؟ لمَ ادّعاء الوعي وأغلبنا ناقصيه؟ لم التكلف، ومن حقنا الكسور والركود والخطأ ؟ من حقنا الحياة، واعترافنا بالاوعي وحقنا في الخطأ وعدم الكمال سيسمح لنا بالحياة، ونحن في قمة الرضا عن ذواتنا، سنحيا بالمرح والجد والعمق والطفولة والحب والمسؤولية، وكل مراحل حيواتنا كافةً، كلٌ بوقته وكلٌ كما ينبغي أن يكون بقليل من الوعي بالاوعي سنحيا كما ينبغي أن نحيا.

فيديو مقال الوعي باللاوعي

أضف تعليقك هنا