(قدم قاضي القضاة).. ومجزرة رمضان البشرية

قائمة الحضور والغياب 

في سبيل محاصرة عنصر السببية بكونه الأبرز أهمية في التحقيق العلمي على القوانين والنظريات العلمية، قام الفيلسوفين الانجليزيين (فرانسيس بيكون) و(جون ستيوارت مل) بتأليف قوائم منطقية لرصد واثبات الحالة السببية على أي ظاهرة من أجل صياغة واصدار الحكم العلمي عليها.. وبرغم تعدد هذه القوائم التي وضعاها إلا أن الرئيسية فيها كانتا قائمتين سميت إحداها بقائمة الحضور والأخرى (بقائمة) (الغياب). أما قائمة الحضور فكانت برصد أحوال الظهور المشترك لعوامل معينة في كل مرة تحدث فيها الظاهرة موضوع البحث، فيكون ظهور هذه العوامل معاً في كل الظروف هو المرجح لكونها السبب القياسي في نشؤ وتحقق الظاهرة. وأما قائمة الغياب فكانت على نفس درجة الأهمية لقائمة الحضور وباعتبارها حصر للعوامل التي تغيب معاً بصورة متكررة مشتركة في كل مرة تحدث فيها الظاهرة وفي مختلف الظروف فيكون هذا الغياب بمثابة الاثبات لهذه العوامل بأنها السبب الراجح والمباشر في تحقق الظاهرة أو نشوئها.. فالشاهد إذن في هذا أن الحضور والغياب ليسا عنصرين متناقضين في مجمل عملية الاثبات العلمي إذا وجد أحدهما ارتفع الآخر بالضرورة، وأن الحضور وحده ليس شرطاً مطلقاً للحقيقة طالما أن الفرصة متاحة لتقديم الدليل الموضوعي عليها بغيره.

الحكم القضائي

هذه الأهمية لقائمة الغياب في إثبات السببية العلمية قد انسحبت لاحقاً على الحكم القضائي، حيث جعلت الحكم القضائي صنو للحكم العلمي، وهذا ما أدى بالقضاء إلى أن يتخلص إلى حد كبير من مبدأ (قدم قاضي القضاة) الذي ساد في القرن السابع عشر الميلادي في إنجلترا وكان ذا دلالة سلبية في إمكان تحقق العدالة الكاملة. ووصف هذا المبدأ على حد تعبير اللورد ديننج هو (أن العدالة شيء مراوغ، لأن القانون لديه معيار نعرف به ما يمكن أن نتيقن منه، أما العدالة فهي تكون وفقاً لوجدان ذلك الذي يدعى كبير القضاة أو قاضي القضاة فكلما كان وجدانه أوسع أو أضيق كانت العدالة بالمثل… وهو مجاز، أن المقياس النموذجي للقدم محدد، فهو يساوي 12 بوصة، بيد أن مقياس قاضي القضاة قد يكون ما بين 9 بوصة إلى 11 بوصة. ومن ثم فإن العدالة التي يديرها قاضي القضاة تعتبر أمراً شخصياً بالنسبة إليه إلى حد كبير. فهي تختلف ما بين قدم كبير القضاة وآخر). كان هذه هي النظرة القديمة في عدالة الحكم القضائي والتي تجاوزها العالم اليوم بفعل الإفادة من مناهج الاثبات العلمي الموضوعي.. فلماذا إذن هذا السرد في العلاقة بين إثبات قانون السببية العلمي للظواهر وفق قائمة الغياب، والتخلص من مبدأ (قدم قاضي القضاة) في القضاء؟

الثورة السودانية

لعل من النماذج الواقعية للإجابة عن هذا السؤال ما جرى من حوار لي مع صديق قريب.. وكان الموضوع حول الثورة السودانية في مرحلتها الفاصلة بتاريخ أحداث مجزرة التاسع والعشرين من رمضان (الثالث من يونيو) 2019م.. كنت وقتها خارج البلاد وبالفعل أستلم معلوماتي عن الوقائع هناك من وسائط التواصل الاجتماعي ومن المخابرات الهاتفية مع رجال وشباب وناشطين وأحياناً مسؤولين حكوميين وعناصر عمل عام، وكلهم قائمون بشهاداتهم على الأرض هناك حيث يجري الفعل ورد الفعل دون وسائط بل مباشرة.. وقضى الله أن كان الصديق المحاور ممن حضروا بأنفسهم إلى أرض الوطن ومكثوا فيه أياماً قبيل اليوم المشهود وبعده، لذا اعتمد حضوره بنفسه هناك في الوقت الذي تغيبت فيه حجة أساسية لصالحه في الحوار وأن مصدر شهادته هو الواقع الحي وليس الواقع المنقول (اسفيرياً) كما هو الحال معي.. أطروحة الصديق تلخصت في تراجع شعبية القوى المنظمة للحراك الثوري منذ بدايته وظلت تفاوض باسمه وهي (قوى اعلان الحرية والتغيير – قحت)، وأن هذا التراجع لشعبية هذه القوى لدى الجماهير قد بلغ ما دون النصف مما كانت عليه في السابق.. فهل يعد الحضور بالشهادة الفردية هو العامل الحاسم والحجة الكافية في شأن مثل هذا الحدث العام والوقائع ذات الطابع الجماهيري، تماماً كما قد تكون هي العامل الحاسم والحجة الكافية في ترجيح الحكم في شأن الحدث الخاص والواقعة الجزئية؟ أليس أن الشهادة الفردية بالحضور حتى نفي الحدث أو الواقعة الخاصة تكون عاملاً ترجيحياً أكثر الشيء في الاثبات بجانب الأخذ في الاعتبار الأدلة الأخرى التي تعضدها هذه الشهادة وتكملها وليست تنشئها من الأصل؟ وإلا لكان الشاهد مطالباً بتقديم الدليل على شهادته هذه في حال عدم توفر الأدلة الأخرى التي تعضدها هذه الشهادة ولكي ترقى بالتالي إلى درجة الدليل الأوحد على إثبات الواقعة، ولهذا تأتي شهادة الشاهد حتماً مشفوعة بالقسم لجعلها نوع من الدليل بالحد الأدنى.

ويتحدد بيان الحجة المنطقية في موضوع الحوار هذا على النقاط التالية:

أولاً

أن القاضي في أي واقعة جنائية أو مدنية يجب أن لا يكون طرفاً حاضراً فيها أو شاهداً عليها، بل إن شرط القضاء هو أن لا يمت القاضي بأي صلة قريبة أو بعيدة للواقعة. وشرط الغياب الكلي والتام هذا للقاضي عن الواقعة هو الضامن الفعلي لنزاهة الحكم القضائي بكونه يسمح للأدلة الموضوعية وحدها أن تفرض نفسها دون أي تأثير عليها من مصدر الحكم بشأنها وهو القاضي.. إذن، القاضي – وهو الجهة الوحيدة والنهائية المنوط بها اصدار الأحكام على الوقائع – لا يحكم بحضوره الشخصي لمجريات الواقعة بل بالأدلة والمعطيات التي استوفتها أمامه الجهات العدالية الأخرى المنوط بها التقصي والتحري والتحقيق والاثبات وتوجيه الاتهام، ولو أن القاضي كان حاضراً بنفسه للواقعة لصار مجرد شاهدٍ وليس قاضٍ، فالشاهد يعطي شهادة فردية وليس حكماً عاماً.. وكذا الحال في الواقعة الجماهيرية العامة يكون فيها من هو خارج عنها بمكان القاضي الذي لم يحضر الحدث وإنما يحكم عليه فقط باستنطاق الأدلة والمعطيات التي تفرض نفسها بحسب قوتها أو ضعفها وبموجب مصادرها المستمدة منها.. وبالتالي لا يمثل الحضور الشخصي لهذا الصديق في الحيز الكبير للحدث حجة أو دليلاً كافياً لترجيح رأيه بحكم عام، وإنما هو شهادة صغيرة محدودة من جملة شهادات لا تعد ولا تحصى كمياً ولا يتم ترجيحها كيفياً أو نوعياً إلا بتعضيد معطيات وأدلة ماثلة في أرض الواقع ويشير إليها التفاعل الجماهيري بغض النظر عن كثرة التنظيرات والتحليلات وبغض النظر عن تأييد من أيد ورفض من رفض.

ثانياً

من يدعي سحب الثقة كليةً من المعلومات الواردة عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو بحد أدنى يقلل من شأنها بصدد الحراك الثوري العام، فإن هذه الموقف تكذبه طبيعة الأشياء وترفضه المعقولية لأن الثابت الذي لا مراء فيه أن هذه الوسائط وإن لم تكن هي المنشئة للحراك الثوري إلا أنه كان لها الدور الحاسم في تنظيم هذا الحراك وتوجيهه ورسم خارطة الطريق لإنفاذ إرادته منذ اللحظات الأولى له.. في الماضي كانت الدعاية الثورية والسياسية منوطة بأجهزة ثابتة ومكبرة بنحو التلفزيون والإذاعة والصحافة وكان لها في حينها التأثير الكبير في الحراك الجماهيري بأضعاف مضاعفة عن التأثير الذي كان يحدثه قديماً وبشكل محدود الاتصال الفردي في المحيط الضيق من خلال جيرة الحي أو المسرح والعروض المسرحية الحية أو كتب الآداب الروائية والسردية والتي برغم محدوديتها في الانتشار أشعلت الثورة الفرنسية كأكبر ثورة عالمية.. فما بالنا الآن بعظم وحجم التأثير أن أصبح العالم كله شبكة اتصال ومعلومات واحدة في جهاز هاتف محمول صغير يحمله حتى الأطفال ولدى كل الشرائح وطبقات المجتمع من أدناها إلى أعلاها، وخير دليل على هذا التأثير الطاغي لها هو لجوء السلطة إلى قطع ارسال الانترنت عن عموم البلاد.. إذن، في حالة إثبات الإرادة الجماهيرية العامة وتوجيه الحراك الجماهيري يكون لوسائط التواصل الاجتماعي تلك الدور الأعظم والرئيسي، والمجال يكون أعظم وسعاً بكثير فيها أمام المتدافعين الحجة بالحجة ولتجميع وتصنيف كافة الشهادات الفردية من أجل رصد الرأي العام والتمييز بين ما هو محقق وصدق وما هو محض أقوال ذاتية أو حتى أكاذيب، فكثيراً ما وجدنا بيننا من ينفون ما نشاهده جميعاً وهم معنا يشاهدون وبرغم من حديث الثورة عن نفسها وفي كل الأحياء أياً كان تصنيفها الحضري وبرغم كل الأثر المتروك لها على الشوارع والطرقات وبرغم التصعيد الثوري المشهود والملموس عملياً بشل حركة البلاد في قلبها وأطرافها بالعصيان المدني الشامل.. ثم كيف بربنا تنهار الدول والحكومات إن لم يكن ما حدث وتناقلته الوسائط هو ذاك فعلاً.

ثالثاً

أنه كما كان عنصر الغياب في قوائم الاثبات للسببية العلمية هو عنصر اثبات على قدم المساواة مع عنصر الحضور فيها، فكذلك كان الحال الثوري إذ أن أكثر من قادوا الحراك فعلوا ذلك من خارج البلاد حيث سجل غيابهم عنصر اثبات وطني فاعل وقوي بل وربما كان الأقوى حيث لم تطالهم يد الاعتقال وتحديد الإقامة ولم يتأثروا بقطع شبكة الانترنت، وليس هذا فحسب بل الأهم هو قدرتهم وهم خارج الموقف على الاسهام بالقدر الأكبر في تغذية المد الثوري المتعاظم مالياً وعينياً من أجل إبقاء الثوار على الصمود والعزم والاستمرار.
وبعد كل هذا يا صديقي العزيز، لم يعد ثمة مجال بيننا في الحوار للأقوال المرسلة والأحكام الفردية وإنما المجال فقط للحجة السليمة والدليل الموضوعي والنقد المنطقي.. وكثير من الود.

فيديو مقال (قدم قاضي القضاة).. ومجزرة رمضان البشرية

أضف تعليقك هنا