في قراءة قديمة لكتاب ( الدماغ البشري عنوانه الإنكليزيThe Human Brain ) لمؤلفه ( إسحاق اسيموف Isaac Asimov ) مترجماً الى العربية اذكر عبارة تفيد بأنه لو مُكن للعلماء صنع جهاز بنفس قدرات الدماغ ، لاحتاجوا الى مادة بحجم الكرة الأرضية .. وقوله الآخرعن ( الزائدة الدودية ) عند الانسان ، انها كانت المرة الأولى التي ضبط العلماء فيها الطبيعة بصنع جهازٍ عضوي لافائدة فيه وليس هناك أي مبرر يستلزم وجوده في جسم الانسان .. كان الكتاب قديما ، فقد الّفه في الستينات من القرن الماضي وما بين التاريخ ذاك وتاريخ اليوم فترة قصيرة في عمر الزمن لكنها كبيرة وهائلة فيما طرأ على العالم من تقدم في العلوم والصناعات والتكنولوجيا بشكل عام .
لقد شغلت مسألة العقل والوعي والدماغ المفكرين منذ بدايات عمر الفلسفة، ولفلاسفة اليونان الاسبقين أراء كثيرة ، وقد تنبه منهم الى ان التفكير وفهم العالم عند الانسان امر نسبي ومرتبط بما تحدثه ظواهر البيئة والكون من انعكاس على المخيلة وان العقل منفعل بها ويبني احكامه وتصوراته وفقا لما ترسمه في راسه ، لقد ذهب بروتوجوراس الى ان ما يراه الشخص باعتباره (حقيقة) فهي حقيقة بعينه هو، وقد يراها آخر غير ذلك فالانسان في مذهبه مقياس الأشياء جميعاً .. اما سقراط فقد رأى ان المعرفة التي تتكون في اذهاننا آتية الينا من مصدر خارجي من ( عقل الالوهية الكامن في الوجود ) وليس في وسعنا في كل الأحوال ان نستمدها من الاحاسيس.
وعندما حان وقت النظر في مسائل تطور الاحياء وخاصة في الفترة التي ظهر فيها كتاب دارون ( اصل الأنواع ) وما سبقها او لحقها ايضا ، احتل العقل الإنساني والدماغ البشري موقعه المتميز في دراساتهم واثيرت فيه الكثير من التساؤلات، عن حقيقته وبنائه وقدرته وكفائته، وقد اعتبره دارون من الأدوات التي تطوّرت لتزيد قدرة البشرية على التكيف مع الطبيعة ومواجهة اخطارها والسيطرة عليها لتكون في خدمة اغراضه ، وكم اغتاظ المؤمنون منهم (من أصحاب النظر الالي الملحد ) حينما جعلوا من الانسان كائناً حياً لايزيد على الدودة والفأر والكلب والقط والقرد الا بالدرجة من درجات سلم التطور والتحول الى الاعقد.
ومن أشد المعارضين والناقدين لفكرة الآلية هذه واكثرهم تأثيراً على تيارات الفكر الفلسفي والفني والعلمي ذلك الوقت، الفيلسوف الفرنسي ( هنري برجسون ) قيل انه قد نال أيام دراسته منذ البداية ، جميع الجوائز التي خصصت للمتفوقين ، وله قدرة عالية على التحليل فكان ميالا لخوض غمار الفكر الميتافيزيقي الكامن وراء كل العلوم ودراسة الفلسفة بشكل عام ، و له من البلاغة وحسن الالقاء وأسلوب في الكتابة الواضحة ما بدا واضحا عند كل من تعرف به وقرأ له.
وإن من بين المواضيع التي ركز عليها في البحث والتفكير في شكل لافت للانتباه، موضوع الدماغ البشري والذاكرة والعلاقة بينهما وقد خصص الكتاب المترجم بعنوان ( المادة والذاكرة ) لهذا الشأن ، وهو من اشد ما كتبه صعوبة ، أراد به ان يحل مسألة تركيب الدماغ البشري ( الصغير في حجمه ) وعلاقته بالذاكرة الكبيرة التي يحملها كل شخص.
فلو امعنّا النظر بالكم الهائل من المعلومات التي نستذكرها بوعي منا او بدون وعي ونحن نتعامل مع مستجدات حياتنا اليومية ،لاحسسنا بالكم الهائل الذي يُختزن ، إذ ان لنا عن كل شخص مررنا به وتعارفنا عليه ذكرى خاصة به ، ولنا لكل مادة قرأناها واستحضرناها محتوى محفوظ وجاهز للظهور على شاشة الوعي ، وكم هي كثيرة اعداد من التقينا بهم او سمعنا عنهم وكم هوعدد الخبرات التي تعلمناها والأدوات التي استعملناها ، انها من الضخامة ، كضخامة المارد المحبوس في الجرة.
ولقد ذكر لنا حادثة – ونرجو العذر في أي خطأ فالكتابة من قراءة قديمة للكتاب – عامل البناء حينما نوموه مغناطيسيا وطلبوا منه وصف ( لبنة ) كان قد بناها في وقت سابق ولها ترتيب مع ما جاورها ودرجة في مستويات البناء ، فكان الوصف مطابقا بما يؤكد لنا ان لا شيء يفلت من اسر الذاكرة ، والكل حاضر للاسترجاع عند الطلب.
فليس من المدهش عندئذ السؤال عن الحقيقة التي تجمع هذا الكم العجيب من الذكريات مع كومة لحم لا تزيد على الكيلوغرام الا بقليل .. ولقد كانت الفكرة التي ابدعها ( برجسون ) لحل الاشكال – والكلام هنا من الذاكرة – هو ان تدور الذكريات كلها في دوامات اثيرية من خارج جسم الانسان وعلى سطح الدماغ المجهز باطارات تتركب عليها الذكريات المناسبة فنعيها نحن، لقد كانت فرضية موفقة من صاحب عقل كبير وعبقرية لا يدانيها الاخرون.
لقد سبق ظهور كتاب برجسون ( المادة والذاكرة ) ما كتبه ( إسحاق اسيموف ) بما يزيد على الستين سنة .. وان ما أبداه ( برجسون ) من الاصالة في التفكير والحدة في الذكاء يفوق كثيراً الذي عند مؤلف ( الدماغ البشري ) بغض النظر عن ما تضمنه كلا الكتابين من المعلومات .
يبدو ان تطورات العلم والتقدم التكنولوجي ، قد جاءت باجوبة لكثير من التساؤلات التي اقضّت مضاجع الفلاسفة والمفكرين وعاشوا معها في حيرة وشك وهم.
وأن مسألة الدماغ وعلاقته بالذكريات أصبحت عندنا معلومة ومفهومة، وقريبة منا، وبين أيدينا، وما تطبيقات أجهزة الحاسوب واستخداماتها الا صورة من صور ما يجري في الدماغ البشري ، وبات التقارب بينهما حدا ان جعل من صناع الحواسيب وعلمائه يباشرون دراسة عمل الخلايا العصبية في الدماغ وتشريحها وتعيين المواد الداخلة فيها للاستفادة منها في تطوير أجهزة الحاسوب لتكون في نهاية الامر معينا للانسان في التطبيقات الصناعية والمعامل واستكشافات الفضاء الخارجي واعماق البحار وباطن الأرض، ولمساعدة المصابين من البشر باضرار وعلل لها من العلاقة والارتباط بعمليات الدماغ.
فقد مكنهم الله تعالى ( والامر كله بيد الله وفضله ) من إعادة البصر- او التعرف – لفاقديه وكذلك السمع وباقي الحواس ومن تحريك الأعضاء المشلولة وهم عاكفون على انتاج شرائح الكترونية لزراعتها في الأجزاء التالفة من الدماغ بإمكانها تخزين المعلومات عند كبار السن و من يعانون امراضاً يفقدون فيها الذكريات ، وليحققوا أحلام طفولتنا حينما كنا نعاني من هم الدراسة والتحصيل وحرماننا من اتاحة الوقت الكافي للعب والتسلية وارتياد المتنزهات ، كم تمنيت حينها ان يضعوا لنا مناهج الدراسة في أقراص نتناولها حتى ولو بدون شربة ماء.
وما ينشرمن اخبار التكنولوجيا على صفحات الانترنيت في كل المجالات ومنها أجهزة الحاسوب ، امور تبعث على الاستغراب والعجب ، وربما الى صرخات الاحتجاج والغضب عند البعض ممن لم يكن لهم اطلاع على ما انجزه العلماء وينجزونه وهم اليوم قلة وليس لهم حضور مؤثر على توجهات وقرارات المسؤولين عن التعليم العام ومُعدي المناهج الهادفة لنقل المستوى العام في امتنا الى ما يليق بها وتستحقه.
ولولا الهفوات والاخطاء التي تبدر ، منها على سبيل المثال ذكر خبر كارثة وانهيار مبني او موت اعداد من البشر في حقل اسماه بـ (الترفيه)، والتحذير الصادر من شخصية بارزة عن مخطط لنشر فتنة بين ابناء البلد تم ادراجه في حقل (الصحة ) .. ومصرع اشخاص واحتراق منزل خلال مشاجرة في حقل ( علوم وتكنولوجيا ) ، ومثله في الحقول الباقية، لآمنت انهم قد بلغوا الذروة وقلدوا دماغ الانسان وتفوقوا عليه .. وما قيل عن جوجل نقوله على محركات البحث الأخرى بدون شك .
لقد فتح الله تعالى أبواب علم جديدة ( ولا نعرف ماالذي سيفتحه علينا بعد هذا ) وصارت تطبيقات النانوتكنولوجي كعصا ساحر يأتي بالعجائب ، واصبح في حكم الممكن صنع كمبيوترات باحجام صغيرة وقدرات هائلة ، ومن المؤكد مع هذه الاخبار ان الأبنية الكبيرة التي بنوها لاحتواء جهاز واحد من نوع ( سوبر كمبيوتر ) له من الوزن ما يزيد على المائة الف كيلو غرام ، ستختزل وتتقلص وتبلغ من الصغر في الحجم والوزن حدا مدهشا ، ومن الاخبار الواردة عن احلامهم – العلماء – تخزين معلومات يبلغ حجمها حجم مكتبة الكونجرس في رقاقة نانوية لاتزيد عن حجم رأس الدبوس ..
فسبحان الله الذي كرم الانسان باداة تشهد له بالعلم اللامتناهي والقدرة المطلقة والحكمة … فالامر كله عجب و اعجاز في اعجاز ، ولا يكاد يصدق بل هو اشبه بافلام الخيال العلمي تحكي لنا عن جرثومة تنمو وتتطور واذا بها تعي وتفهم ثم تحكم وتتسيد وتستعبد .. فها هم أصحاب العلم وخياله يحلمون ويعلنون انهم شارفوا على الانتهاء من صنع روبوت يحاكي دماغ الانسان وله ذات خاصة به تعي وتفهم وتتعلم ( ليس كالذي عند اليشر بكل تاكيد ).
وبات أصحاب القصص والخيال على خوف من نتائج هذه الأبحاث وهي في طريق التطور والتحقق ومن اليوم الذي تنقلب فيه على سلطة الانسان وتجعل منه عبدا .. ( ولا بد من الاشارة الى مسألة الوعي والادراك والحرية والحدس والعاطفة و.. و .. انها من اشد المفاهيم والقدرات تحدياً في مسيرة التطور الصناعي للحواسيب ومن المؤكد انها الاعجاز الذي يقف دونه الدماغ المصنّع، اذ إن الذي في الدماغ هو غير الذي في المصنّع مهما تعقّد ، ففي العقل البشري ادراك وردود افعال نعيها نحن البشر وكل الذي في الروبوتات حسابات وبرامج وخوارزميات معقدة لا جامع لها الّا في ما هو خارج منها ولا اكثر )
ليت اساتذتنا المختصين العارفين بالروبوت وصناعته وتاريخ تطوره وآفاق مستقبله يعلمونا ان كانت الامال المنشود بالوصول الى الالة ( الانسان ) في كل مواصفاته هي من الممكن حتى لو عسُر أم أحلام تدغدغ رؤوس الحالمين كما دغدغت عواطف من مضى عليهم مائتا عام وهم يجزمون بان العقل هو نشاط دماغي وان الطبيعة بلا هدف وان العلم كفيل بحل رموز الوجود ، والمسألة هي مسألة وقت لا أكثر .. العقول المصنعة هي غير التي في رؤوس البشر ، قد تتفوق المصنعة في سرع الانجاز وسعة التخزين مستقبلا وقد تتعقد وتتعقد وتتمكن من التعلم الذاتي والاستفادة من الخبرات.
لكنها لن تزيد على انها جهاز تتحكم فيه برامج متطورة وخواريزمات معقدة لا يجمعها ذلك الوعي والادراك والشعور الذي نحسه ، نعم العقل المصنع آلة معقدة على صورة العقل البشري ، وحاله كحال كل ما صنعة الانسان من الاجهزة البسيطة والمعقدة ، ومثلما صنعنا اعضاء بديلة لجسم الانسان ، زودناه بعيون جميلة وقلوب قوية وارسلناه الى الفضاء واركبناه طائرات مريحة ها نحن نصنع الانسان الالي ذا القدرات الفائقة ، وليس لنا ان نظن ان سنن التطور ستجعل من الروبوت دماغا بشريا مهما طال الزمن وزيدت اليافه.
كان نهج الكائن الحي البسيط هو الحفاظ على حياته هو، ولقد عثر على خلايا منها ظلت الاف السنين متجرثمة في ظل ظروف غير ملائمة وقد استعادت نشاطها وباشرت حياتها مجددا حينما غيروا لها الظروف .. ومما يقال عن ( دببة الماء ) او ( خنازير الطحلب ) وهي كائنات صغيرة جدا معدل طولها 1.5 مللمتر، انها من اقوى كائنات الأرض ، فبامكانها العيش طويلا في احلك الظروف واقساها ، انها لا تتأثر اذا ما سخناها الى درجة الغليان واكثر او جمدناها ، وحتى لو سلطنا عليها ضغطا جويا عاليا جدا ، وقد واجهت الاشعاعات وأُرسلت الى الفضاء لأيام فعادت سالمة ووضعت بيضا وتفقس ..
لكن النهج تغير والخطة تبدلت وصار الذي يُحافظ عليه هو بقاء النوع وموت الآباء ليحل محلهم الأبناء ( واظن انها ظاهرة محرجة لنظرية التطور عندما تثبّت الاليات المحافظة على صمود الاحياء وبقاءها وتستبعد التي تجعل منها عرضة للموت والزوال ، هذا اذا لم يأتنا من يجعل منها الدليل الواضح على قوة خارجية دخلت الميدان لتوجّه.
انها تذكرنا بفلسفات هيجل وشوبنهور وبرجسون و برناردشو وما جاء فيها عن قوة واعية – الا شوبنهور فهي عنده عمياء – تتخذ طريقا خاصا عَبرحالات متغيرة من المادة وتطورها من بسيط الى اعقد ومن نوع الى اخر والقصد من كل هذا هو نمو الذكاء وظهور العقل وسيادته وانتصاره على المادة التي كانت صورته الابسط .. وللتحرر منها في نهاية الامر .
( إنها من خلق الله الذي أحسن خلقه ) ومما بينه واوضحة لنا اساتذتنا المختصون بعلوم الفيزياء عن ابعاد المادة انها اكثر من الاربعة التي عرفناها فهناك احد عشر بعد .. ولو دفعنا براصد ذي بعدين ( طول وعرض ) ليغوص في اعماق بحر عميق ثم مدّ احدنا اصبعه من الاعلى واخترق صفحته فان الراصد (ذا البعدين ) لن يراه كما نراه نحن بل (نقطة ) بلا بعد ثالث، ونحن البشر ، ندرك ابعاداً ثلاثة وبالكاد ندرك الرابع ، والكون من احد عشر بعد ( ان كان صحيحا وربما اكثر ) مالذي سنراه اذا ما مدّ الينا احد من الخارج اصبعه … ؟؟
والمشكلة كل المشكلة أن العلم مهما تقدم لن يتخطى فرضية (أن الفهم لا يتم إلا بإدخال الموضوع إلى مختبرات العلماء .. ولن نفهم الوجود إلا إذا اعتصرناه في أنبوبة الإختبار )
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد