قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (9) الطوائف

إن العصر الذي عاش فيه البديري كان يضم العديد من الطوائف والعرقيات، فالدولة العثمانية المترامية الأطراف ضمت في رقعتها العديد من الشعوب من مختلف الأعراق والديانات، وبلاد الشام كانت ومازالت تضم عرقيات مختلفة غالبيتها العظمى من العرب، وهؤلاء العرب أنفسهم ينتمون لطوائف دينية سواء أكانت مسيحية أو إسلامية.

وبالرغم من التنوع الطائفي والعرقي الذي تشهده بلاد الشام إلا أن البديري في مدونته لا يكاد يذكر سوى طائفتين من المسلمين هما المتاولة الشيعة والدروز، ويذكر كذلك اليهود والنصارى دون تفصيل لطوائفهم، بينما لا يذكر اسم السنة كونهم يشكلون الأغلبية في دمشق وما حولها، وفيهم العرب وغير العرب.

أولاً – اليهود والنصارى

والبديري لا يكاد يذكر اليهود والنصارى إلا في معرض الحديث عن بعض المهن التي يمارسونها، فقد كانوا يعملون في الحرف والمهن المتنوعة في دمشق ويتقنون العديد من الحرف النادرة، وكان منهم الموسيقيين الكبار والبنائين العظماء.

ثانياً – المتاولة (آل حرفوش)

إن عصر البديري هو عصر آل حرفوش حكام بعلبك والبقاع، فقد كانت الإمارة لهم وقد أقرتهم الدولة العثمانية على ذلك، إلا أن الأمور لم تسير على ما يرام بين الطرفين، لمحاولة الحرافشة الاستقلال عن الدولة، مما دفع بولاة دمشق لتسيير الحملات المتتالية عليهم عاماً بعد عام، وهم أحياناً يناصرون الدولة العثمانية.

وأحياناً أخرى يقفون ضدها، ومن ذلك مساندتهم للوالي سليمان باشا العظم في حملته ضد ظاهر العمر في عام 1155ه – 1742م والتي على أثرها تقاتلوا مع الدروز، فقُتل من الطرفين ما يقارب الألف رجل، فنهاهم سليمان العظم عن ذلك القتال فاعتذروا منه وانتهت الفتنة.

يذكر البديري حملات الوالي أسعد باشا العظم المتكررة

يذكر البديري حملات الوالي أسعد باشا العظم المتكررة على الدورة، والدورة هذه اسم لبلدتين في لبنان إحداهما في قضاء عكار والأخرى في قضاء البقاع، والأغلب أنها الدورة في البقاع، لأن حملاته كانت على آل حرفوش أمراء المتاولة.

ثم يذكر في عام 1159ه – 1746م أن أسعد باشا العظم أرسل عسكراً عظيماً إلى بعلبك لقتل واليها الأمير حسين الحرفوشي، فلم يجدوا له أثراً فدخل العسكر ونهبوا وسلبوا وفعلوا ما فعلوا، ثم أتوا بثمانية من أعيان بعلبك، ومن جملتهم مفتيها لدمشق الشام فشنقوه وضربوا أعناق الباقين.

قوع فتنة عظيمة بين المتاولة والدروز

ثم يذكر البديري في عام 1163ه – 1750م وقوع فتنة عظيمة بين المتاولة والدروز وأنه ساعد المتاولة أولاد ظاهر العمر حاكم طبرية وكان عدد القتلى من الطرفين بالمئات، وسبب مناصرة آل ظاهر العمر للمتاولة عداواتهم التاريخية مع الدروز.

ثم يذكر في عام 1164ه – 1751م حادثة اغتيال أمير بعلبك الأمير حسن آل حرفوش، وقد كان خارجاً للجامع فاغتاله ثلاثة أشخاص ورموه بثلاث بنادق وفروا هاربين، وقيل إن القاتلين من إخوته بسبب الصراع على الإمارة.

والبديري حين يتكلم عن العائلة الحرفوشية الحاكمة لبعلبك وللشيعة في البقاع يصفهم بالصفات السيئة، وهذا بسبب تحريض الدولة العثمانية على النزعة الطائفية لتفريق أهل الشام ولإظهار أنهم حماة للإسلام السني ومعاداتهم للصفويين في بلاد فارس.

الدولة عزلت الأمير حيدر بن حرفوش أمير بعلبك

وفي عام 1168ه – 1755م يذكر البديري إن الدولة عزلت الأمير حيدر بن حرفوش أمير بعلبك فأبى الخروج، وأمر أهلها بالرحيل عنها، وكل من أقام بعد ثلاثة أيام ينهب ماله وعياله، فرحلوا بعدما أحرق بيوتهم وكرومهم وطفشوا إلى البلاد والقرايا، وأقام هو بها عاصياً، ثم ضمن الأمير حسين بن حرفوش بعلبك فرجعت غالب الناس بلا أدنى حادث، وهنا الضمان يعني أنه التزمها بمبلغ سنوي يدفعه للدولة العثمانية.

ثالثاً – الدروز

إن الدروز يأتون في المرتبة الثانية بالحملات والحروب التي قادها ولاة الشام ضدهم، حيث يأتي في المرتبة الأولى القبائل العربية (العربان)، فلا يكاد يمر عام إلا وهناك حملة أو أكثر ضد الدروز والعربان، وكنا قد ذكرنا استعانة سليمان باشا العظم بالدروز في حربه ضد ظاهر العمر، ثم صراعهم مع المتاولة على أثر تلك الحملة.

وفي عام 1160ه -1747م يذكر أن بعض عسكر الباشا من المغاربة قد تحرش بالدروز لما كان الوالي مخيماً بعساكره في بلادهم، وأطلقوا الرصاص ووقع القتال وسار الباشا بالانكشارية والمدافع باتجاه الجبل والرصاص منهم وعليهم مثل المطر وهذا يدل على عنف المقاومة من قبل الدروز.

أول من انهزم عسكر الدالاتية

فكان أول من انهزم عسكر الدالاتية والذين يسميهم البديري بأهل الكبر والجبروتية، حيث عنفهم الباشا وسبهم وشتمهم وتهددهم، ثم طلب العساكر من حمص وحماه، وطلب من كل قرية خمسة عشر نفراً وفرض الأموال على الناس جميعهم حتى ضاقوا ذرعاً من ذلك، وهنا أرسل أهل جبل الدروز للباشا بالصلح ودفع المال إليه فأبى إلا القتل والسلب، وكان قبل الواقعة بأيام أمر بحصاد غلالهم ونهبها وكان الموسم جيداً وخصباً.

ويقول المؤرخ البديري: بلغ أسعد باشا وهو نازل إلى جبل الدروز أن ضيعة من ضيع البقاع تعود للدروز، فأمر عسكره بنهبها وسلبها، فلما وصلوا إليها تلقاهم أهلها بالبشر والسرور وهم عما يراد بهم غافلون، فأنزلوهم وذبحوا لهم وضيفوهم، فلما أكلوا واكتفوا، قاموا وجردوا عليهم السيوف فصاحوا عليهم لا تفعلوا أنتم أصدقاؤنا ونعم الضيوف، فلم يسمعوا منهم بل قتلوا وجرحوا منهم جماعة وفر الباقون، فنهب العسكر متاعهم وأموالهم، ثم طلبوا النساء فانهزمن من بين أيديهم إلى بعض البساتين وكان عددهنّ يزيد على ثلاثمائة امرأة وبينهن بنات أبكار، فهجم عليهنّ لعسكر واعتدوا عليهنّ، ثم حرقوا القرية بالكامل، وقد قيل أن ذلك سبب الفتنة بين الباشا والدروز.

الصلح بين أسعد باشا والدروز

ثم سعى للصلح بين أسعد باشا والدروز والي صيدا محمد باشا، وكان رجلاً كبير السن ووقوراً، حيث زار أسعد باشا العظم في معسكره، فاستقبله استقبالاً حافلاً، وبعد ذلك تحدثا عن الفتنة، فلام محمد باشا والي الشام أسعد العظم على قتاله للدروز وأمره بالكف عن ذلك، وقال له: هذا أمر يعود علينا وعليك بالتلف، ولا ترضى الدولة به لأنها تريد إعمار البلاد، والدولة قادرة على إرسال عشرة وزراء في يوم واحد.

ولا تستطيع إعمار قرية مخربة في عشر سنين، فصالحهم وخذ ما لك عليهم من المعلوم واترك أولادهم، وكان أسعد باشا قد حبس أولادهم في القلعة منذ أكثر من سنتين وهم صغار غير بالغين، وهذا ديدن الدولة العثمانية وولاتها في أسر أطفال الخصوم الذين يقاتلونهم، ثم أن أسعد باشا وافق محمد باشا في الصلح ظاهراً لا باطناً، لأنه كان يريد تدمير الدروز عن بكرة أبيهم وهنا يقول البديري ((وهذا من قبيل المستحيل))، فكان البديري أدرك أن جميع أبناء الوطن هم شركاء فيه بغض النظر عن انتماءهم الطائفي أو العرقي.

 أوكل لمحمد باشا تدبير الصلح

ثم أوكل لمحمد باشا تدبير الصلح وبنفس الوقت أرسل للدولة العلية يطلب ولاية صيدا لأخيه مصطفى ليتخلص من محمد باشا ويفعل بالجبل ما أراد، ثم أرسل محمد باشا لأهل الجبل أن يدفعوا المال لأسعد باشا فحلفوا ألا يعطوه عقالاً واحداً، واشترطوا إطلاق سراح اولادهم مقابل أربعين كيساً من المال وهي الحصة المفروضة أساساً على أهل لجبل،

وقالوا لمحمد باشا (والله إن حرك ساكناً لنهدم عليه البلاد، فما الذي فعلناه حتى يقابلنا بهذه الأمور، أما كفاه أنه أهرق دماءنا وأباح مالنا ونساءنا، وقد أعدم لنا أكثر من مئتي كيس من الحنطة والحبوب).ثم ورد الخبر لدمشق أن الدروز نزلوا من الجبل ونهبوا وسبوا، وحرقوا ثمانية عشر قرية من البقاع، وحاصروا بعلبك وضيقوا عليها الحصار.

وفي نهاية عام 1160ه – 1747م وبعد خروج أسعد باشا أميراً للحج، يذكر البديري وصول خط شريف للمتسلم موسى كيخية بإخراج أولاد الدروز من القلعة، فأخرجهم المتسلم وصار في الجبل فرح عظيم، ثم يقول: ولو كان اسعد باشا في الشام لما أخرجهم، لأنه طالما جاءته أوامر بذلك فلم يخرجهم.

وأخيراً

يتضح من حديث البديري عن ولاية أسعد باشا العظم أن السنة يقضيها ما بين الحج وحكم دمشق وحملاته على الدورة لقتال المتاولة أو على الجبل لقتال الدروز أو على البوادي لقتال العربان السنة، فما بين شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم يكون أميراً للحج، ثم يستريح في دمشق ليرتب حكمها وبالأخص جباية الضرائب خلال أشهر صفر وربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى.

ثم من جمادى الآخرة مروراً برجب وشعبان يقود حملاته ضد من يعتبرهم أعداء للدولة العثمانية، ثم يصوم رمضان في دمشق.واستمر الولاة بعد أسعد باشا العظم في حملاتهم على الدورة فلا يكاد يمر عام دون حملات على الدورة وجبل الدروز والعربان.

فيديو مقال قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (9) الطوائف

 

أضف تعليقك هنا