الإرجاف بالمشاق

إن من آكد أصول الدعوة؛ الفقه فيها، والحكمة في تطبيقها، وفي معالجة قضاياها، وأكبر شاهد على ذلك؛ مواكبة آيات القرآن وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- للواقع، ومعالجتها لمختلف الأحوال بما يناسبها من المعاني، فكانت آيات العزة تتنزل في أحوال الضعف، وآيات العتاب والتخويف تتنزل في أحوال العجب والطغيان.

وحديث الآخرة يأتي في حال الغفلة والنسيان، وحديث الدنيا يأتي في حال التزهد والترهب، فكانت الحكمة هي غشاء الدعوة ولبها، فلم تكن في لحظة دعوة عشوائية تسعى إلى نشر الدين ومعانيه وفق ما يكون وكيف ما يتفق دون ترتيب ومراعاة للأحوال المختلفة.

من فقه الدعوة

وإنّ من فقه الدعوة أن نعلم أنّ نصوص الوحيين وما بها من معاني إنما تنزلت في أحوال مخصوصة، وأنّ استعمال تلك المعاني وتنزيلها والوعظ بها في حال مناقضة أو مغايرة لما نزلت فيه مخالف للنهج الصحيح، ما لم تظهر مصلحة راجحة في ذلك الاستعمال تكسوه سربال السوغ وتميط عنه وشاح الزيغ.

بل إنّ التذكير بالمعاني في أحوال مغايرة لما جاءت فيه ربما كان ضرره أكبر من نفعه، وهذا ما يحصل كثيراً، ولا سيما من الدعاة قليلي العلم والفقه، من الذين يحفظون الكلمة والموعظة فيرددونها في مختلف المجالس والمناسبات والبلدان، وفي مختلف المنابر والأزمان، فيقعون في الخطل وسوء المنقلب في دعوتهم، فإدراك هذه القضية مما يعين على الحكمة في الدعوة والفقه في سلوك مسالكها.

المعاني التي تتكرر على ألسنة الدعاة

وإنّ من المعاني التي نجدها تتكرر -ولا سيما في زماننا- على ألسنة الدعاة، وحل بسببه خطر كبير بالمؤمنين، لمجانبة الحكمة في تنزيله = معنى وعورة طريق الجنة ومشقة التمسك بالدين، وهذا المعنى العظيم مقرر في نصوص في الوحيين بصورة ظاهرة لا غشاء يحجبها عن الأبصار، غير أنّه معنى تُجُوّز في تناوله المحل اللائق به ممن لا يدري، وينبغي أن تشتد العناية بفقه حال وزمان تناوله، حتى لا تتفاقم عاقبة استعماله الخاطئة بصد المقبلين على طريق الحق.

ويظن الكثير أنّ مجرد تأكيد الوحي على المعنى يلزم منه أن يطلق العنان للداعية في استعماله في كل حال، فهذا غير صحيح، وإلا فأين محل الحكمة إذا كان كل معنى أَكد عليه الوحي يتناول في كل حال؟!، بل إنّ العلماء قيّدوا معانيَ شرعية عظيمة كثيرة بأحوال مخصوصة؛ لما يترتب على إطلاق الكلام فيها من ضرر، ككلامهم في معنى الرجاء ونصوصه، فقالوا: إن الإتيان بها بمعزل عن نصوص الخوف لا ينبغي؛ لما يورثه من اتكال وتقصير في العمل، إلا في أحوال محدودة كحال من غلب عليه القنوط.

تخويف المؤمنين بوعورة طريق الجنة ينبغي أن يُلحظ فيه أمران

وعلى أية حال؛ فإنّ تخويف المؤمنين بوعورة طريق الجنة والمشقة في التمسك بالدين ينبغي أن يُلحظ فيه أمران؛ الأول: أن يكون المخاطَب هم أهل الحق الأقوياء، الذين امتلأت قلوبهم يقينا بالله وتصديقا بوعده، فلا يزيدها التخويف إلا إيمانا وثباتا، كما قال سبحانه : “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا”.. فهؤلاء أهل لأن يذكّروا بهذه الحقيقة؛ بل إنّهم لو لم يذكّروا لربما اختلجهم الضعف والريب، فإنّ غلبة الفتن إذا لم يوقن المؤمن أن عاقبتها خير، وأنها من لوازم طريق الجنة ربما نكص ضعفاً وشكّاً.

حديث العهد بالشيء ينبغي أن تُبرز له محاسن الشيء

ومن المعلوم أنّ حديث العهد بالشيء ينبغي أن تُبرز له محاسن الشيء ووجوه الترغيب فيه، وأن يُخفى عنه ما يتعلق به من أسباب العنت، فإنّ النفس إنما تتعلق بالشيء إذا أحبته، ولن تحبه إلا إذا رغبت وطمعت في محاسنه، فإذا رأت ما يعكر هذه المحاسن -قبل تمكن الحب والرغبة- من المخاوف عافته وآثرت السلامة، و “حب السلامة يثني هم صاحبه .. عن المعالي ويغري المرء بالكسل”.

الآيات التي تُخبر بفتنة المؤمنين

ويشهد لذلك أنّ كثيراً من الآيات التي تخبر بفتنة المؤمنين وتنبئهم بالخطر المحيط بهم إنما هي آيات متأخرة نزولا، كما في قوله تعالى في العنكبوت: “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون”.. وقوله “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا…”، وكذلك في السنة النبوية فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر أصحابه بمجيء الفتن ومشقة الطريق وغربة الدين في آخر حياته لا في أول الدعوة، فكان في أول الأمر يبشرهم بالنصر والعزة.

اليقين في قلب المؤمن

وأما الحال الثانية: فأن يكون حديثا عن المستقبل، لا عن الواقع والحال، فيقال في سياق تثبيت المؤمنين: إنه سيكون من ورائكم أيام شديدة، وإن المؤمن ليتمنى أن يكون في عداد الموتى وألا يكون له نفَس يتردد بين جوانحه لشدة ما يلقى من فتنة في دينه…، ونحو هذا، كما كان غالب هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك، لأنّ في هذا الاستعمال تخفيفا على المؤمنين لما يلقون في الآن من الشدة، من باب ملاحظة مصيبة الغير.

ولو أنّه أخبر عن الواقع ربما أوقع المؤمنين في نوع من اليأس والتسليم بالحال، ولكن يذكرهم بما يقابل هذه المحن والمشاق من معاني الوعد بالنصر والغلبة والتمكين في الأرض؛ لأنها هي الحافزة على المغالبة والمعينة على الثبات بتحقيق اليقين في قلب المؤمن.

على الدعاة أن يراعوا في خطابهم الحكمة

وبهذا يتبين أنّ على الدعاة أن يراعوا في خطابهم الحكمة واختيار المواضيع وَفق الحال ووَفق المدعوين، فليس كل مدعو يخبَر بوعورة الطريق وامتحان الإيمان، وليس كل زمان تفزع فيه القلوب بصُوْر الإرجاف، فإن القلوب المؤمنة -وإن امتلأت يقينا- لربما طاف بها شيء من الخوف؛ فالقلوب قُلّب.وعلى ما سبق يمكن أن يقال إن المنابر العامة ينبغي أن توقى مثل هذه المواضيع، لأن عامة المخاطبين بهذه المنابر هم من غير أهل اليقين الراسخ، ممن إذا خوّفوا بالفتن وذكروا بالبلاء لم يزدهم ذلك إلا فراراً ونفوراً.

وبعد فهذه قاعدة مطردة في سبيل الدعوة؛ أن يراعي الداعية نهج الوحيين في تناول الموضوعات والمعاني، فيلزمه، فلا يطرق معنى إلا في حالة موافقة لنهج الوحيين، وذلكم لون من ألوان الفقه والحكمة في سبيل الدعوة إلى الله.جعلني الله وإياكم ممن يتبعون هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره وفيما نأتي ونذر.

أبو سهيل الأحمدي الجمعة: ٤/ ٣/ ١٤٤١ الدمام.

فيديو مقال الإرجاف بالمشاق

 

 

أضف تعليقك هنا