وحدث الطوفان

ما مدى امتداد الطوفان الذي حدث في زمن النبي نوح عليه السلام؟

قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء الآيات 76-77: ((وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. وَنَصَرْنَاهُ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ)).

حكم الله بالطوفان على الأرض، وكان شاملاً لكل البسيطة، فلم يبقَ شبر من الأرض إلا وغمرته المياه، بخلاف ما ذكره المؤرخون الهنود والفرس من أن الطوفان لم يشمل العالم بأسره، وإنما حدث فقط في منطقة بابل، ودليلنا على ذلك هو حمل نوح عليه السلام لزوج من الحيوانات بأمر من رب العالمين، فلو أن الطوفان لم يكن عاماً وشاملاً ما الداعي إذاً لحمل الحيوانات التي يمكن جلبها من مناطق أخرى لم تتعرض للطوفان، والطوفان كان هائلاً، فالأمطار تساقطت من السماء بغزارة، والأرض تفجرت ينابيعاً وأنهاراً غزيرة، فقد قال الله عز وجل في سورة القمر الآيات 11-12: ((فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر)).

وغمرت المياه الأرض غمراً تاماً كما يذكر ابن كثير في قصص الأنبياء: ((وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي السفينة {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب. وقيل ثمانين ذراعاً، وعم جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها، وجبالها وقفارها ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير)).

والطوفان الذي حدث في عهد نوح عليه السلام يعد نهاية العصور الجليدية وبداية العصور المطيرة، وأما مدته فتختلف فيها الروايات التاريخية، فمنهم من قال استمر مئة وخمسين يوماً، ومنهم من قال استمر أربعين يوماً، ومنهم من قال استمر سنة كاملة، والذي يبدو أن الطوفان استمر بضعة أيام، ومن ثم انكشفت الأرض وبانت، فالكائنات الحية لا تصمد أمام الطوفان المغرق إلا دقائق معدودة حتى تموت من فورها.

رسو السفينة:

ورست السفينة بعد انتهاء الطوفان، وقيل إن نوح أرسل الحمامة فعادت ولم يتبين عليها أي أثر من اليابسة، ثم أرسلها مرة أخرى فعادت تحمل في فيها غصن زيتون، ثم أرسلها للمرة الثالثة فلم تعد، فعلم أن اليابسة انكشفت، وبعد ذلك رست السفينة على الجودي كما أخبرنا بذلك الله عز وجل في سورة هود الآية 44: ((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ويا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)).

أين رست السفينة؟

سمى القرآن الكريم المكان الذي استقرت عليه السفينة وهو جبل الجودي ولكن أين هذا الجبل، فمن العلماء من رأى أنه في الحجاز، ومنهم من رأى أنه في جبال لبنان، ومنهم من رأى أنه في جبال اليمن، والغالب أن هذا الجبل يقع في شمال العراق، ويسمى بجبل أراراط أيضاً، وهذه المنطقة كانت تعد قديماً من بلاد الجزيرة، والتي كانت ممتدة ما بين دجلة شرقاً والفرات غرباً، وما بين الموصل جنوباً وجبال طوروس شمالاً، ويؤكد لنا هذا الكلام قول ابن عبد المنعم الحميري في مؤلفه الروض المعطار في أخبار الأقطار:

((الجودي: جبل بالجزيرة وهو المذكور في القرآن، وحدث من رآه أنه دخل الجودي، ودخل الموضع الذي استوت السفينة عليه، وقال: إنه ثلاثة أجبل بعضها فوق بعض، يُصعد إلى الأول في أعلاه جب للماء، ثم يُصعد إلى الجبل الثالث وهو الذي استوت عليه السفينة، وهناك حجر يقولون إن عليه نزلت وهو شبه سفينة، وهناك بيعتان للنصارى ومسجد للمسلمين، ولهذا الجبل موسمان في العام: موسم في نصف شعبان يقصد إليه الناس من الأقطار البعيدة وموسم في يوم عاشوراء، وينفقون هناك النفقة العظيمة من الصدقات وغير ذلك، وفي أسفل هذا الجبل مدينة ثمانين وقد ذكرناها في حرف الثاء- ويروى أن السفينة استقلت بهم في عاشر رجب واستقرت على الجودي في يوم عاشوراء من المحرم، وروي أن البيت بني من خمسة أجبل أحدها الجودي)).

الأحداث ما بعد الطوفان

حدث أثناء الطوفان وبعده العديد من التغيرات الجغرافية والمناخية والبشرية:

1- التغيرات الجغرافية:

لعل أهمها نشوء البحر الأحمر نتيجة الانهدام الآسيوي الأفريقي ليشكل الحدود الغربية لشبه الجزيرة العربية ويفصلها عن قارة أفريقيا، ونشوء الخليج العربي نتيجة ذوبان الجليديات وهطول الأمطار (حادثة الطوفان) ليشكل الحدود الشرقية لشبه الجزيرة العربية ويفصلها عن قارة آسيا، والخليج العربي كان في تلك الفترة جزءا من بحر كبير يغطي جنوب العراق وجزءًا من البادية السورية.

2- التغيرات المناخية:

وأما التغيرات المناخية فقد عاشت المنطقة بعد الطوفان عصراً مطيراً امتد لآلاف السنين، والصحاري التي نشاهدها الآن كانت في ذلك الزمن مناطق خصبة وغنية، فالربع الخالي كما تشير الدراسات كان منطقة وارفة الخضرة تضم بحيرة ضخمة من المياه العذبة، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي الصحاري في شبه الجزيرة العربية التي كانت تشقها الأنهار غرباً وشرقاً.

3- التغيرات البشرية:

نزل نوح عليه السلام ومن معه إلى اليابسة على جبل الجودي (أراراط) وهو جبل يقع في منطقة ديار بكر حالياً، وهذه المنطقة تقع إلى الشمال من بلاد الرافدين والجزيرة السورية، وفي هذا المكان سكن نوح وأبناؤه، والملاحظ أن هذا المكان يتوسط العالم، فهو من جهة الجنوب ينفتح على العراق وشبه الجزيرة العربية ومصر ومن ورائها إفريقيا، ومن جهة الغرب ينفتح على أوروبا، ومن جهة الشمال ينفتح على روسيا وآسيا الوسطى، ومن جهة الشرق ينفتح على بلاد فارس والهند وشرق وجنوب شرق آسيا.

وبناء على ما سبق فإن النوحيون (أي المنتسبون لنوح عليه السلام) كانوا ثلاثة أقسام يمكن أن نسمي كل قسم من هذه الأقسام قبيلة، وهم: (بني سام وبني حام وبني يافث)، فلما ازداد عددهم وضاقت بهم الأرض انتشروا في أصقاع الأرض، فانتشر الساميون (بني سام) في الأناضول وجنوب أوروبا ومصر والشام والعراق وفارس والجزيرة العربية، وانتشر اليافثيون في بلاد الروس وشمال أوروبا وأواسط آسيا وشرقها، وانتشر الحاميون في إفريقيا والهند.

وخلاصة القول أن كل منطقة في العالم القديم تم تسميتها باللغة السائدة في تلك الفترة، والتي يمكن أن نسميها باللغة النوحية، فالساميون والحاميون واليافثيون كانوا يتكلمون لغة واحدة، ولكن الانتشار في البلدان والتباعد بينهم والتطور المستمر للحياة يؤدي لتولد كلمات جديدة واندثار كلمات قديمة مما يولد الاختلاف في اللهجات التي ما تلبث أن تزداد تبايناً لتصبح كل منها لغة قائمة بذاتها.

وفي اعتقادي أن تسمية الشام ومصر والعراق وبلاد العرب وفارس وغيرها من المناطق تعود لتلك اللغة، فالأقوام السامية التي سكنت مصر مثلاً سموا بالمصريين، ومن سكن بلاد فارس سموا بالفرس وهكذا، وكل ما تكلمنا به سابقاً لا ينفي أواصر القربى الشديدة بين بني سام وبني حام وبني يافث، فهم كانوا يتصاهرون ويقطنون مع بعضهم البعض قبل انتشارهم في أصقاع الأرض أي في الفترة التي تلت الطوفان مباشرة.

وقد حدث اختلاط بين أبناء هذه القبائل الثلاث، إذ قد تجد بعض اليافثيين يعيشون مع الساميين أو بعض الساميين يعيشون مع الحاميين، ولربما يكونون انتقلوا معهم إلى البلاد الجديدة، ولكن غلبة القوم وكثرتهم تفرض اسمهم على الجميع، فلربما انتشر في بلاد الشام والعراق وغيرها من بلاد الساميين بعض الأقوام من الحاميين واليافثيين، ولكن غلبة بني سام وزعامتهم لهذه البلاد غلّب اسم السامية على الجميع وبالتالي اندمجوا مع بعضهم ليشكلوا نسيجاً اجتماعياً واحداً.

وخلاصة القول أن الساميين لا يعني انتسابهم حتماً لسام بن نوح، فسام ولد في المائة الأولى من عمر أبيه وإذا افترضنا أنه عاش حتى الطوفان، فيكون قد عاش حتى تلك اللحظة حوالي التسعمائة عام، الأمر الذي يعني أن ذريته تكاثرت خلال تلك الفترة، ولا ننسى أن هناك تزاوجاً قد حصل بعد الطوفان بين ذرية نوح التي نجت معه، لذلك يمكننا القول أن الأقوام النوحية المنسوبة لنوح عليه السلام التي قطنت في منطقة ما قد تسمت باسم القوم الغالبين في الكثرة والقوة والرئاسة، ولذلك تسمت المجموعات البشرية التي قطنت الشام والعراق والجزيرة العربية والأناضول وحتى فارس بالساميين، والغالب أنهم ليسوا كلهم ساميين بل يشكلون خليطا من الساميين والحاميين واليافثيين، ومن الممكن أن يكون لنوح عدداً من الأبناء أكثر من ذلك ولكن شهرة هؤلاء الثلاثة طغت على الباقين.

فيديو مقال وحدث الطوفان

أضف تعليقك هنا