تراتبية القيم بين الحرية وإنكار المنكر

ثارت في الفترة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي معركة أصبحت من المعالم الدورية للسجالات على تلك الصفحات، وهي المعركة الدائرة في ظاهرها حول جواز الترحم على الملحدين الذين جاهروا بإلحادهم وكذلك على مرتكبي الفواحش المجاهرين بها كالمرأة التي ماتت في كندا وكانت قد أعلنت أنها مدمنة على فاحشة قوم لوط ولم تكتف بذلك بل رفعت لواء تلك الفاحشة وأخذت تدعو إلى اعتبار ممارسيها أناسًا طبيعيين يمارسون حقهم ولا يرتكبون منكرًا.

فاحشة تنافي الطبيعة البشرية

لا شك أن من وقفوا مع المرأة الملحدة الشاذة (ذِكْر تلك الصفات هو من سبيل التذكير بجرائمها واحتقار تلك الجرائم التي فيها محادَّة لرب العالمين وارتكاب وترويج لفاحشة من أدنأ وأحقر الفواحش التي ارتكبها البشر) ليسوا فريقًا واحدًا؛ فبعضهم هو مثلها ينتمي لإحدى هاتين الجريمتين: الإلحاد والفاحشة أو لكلتيهما، لكنه كان مستترًا فوجد في الحملة سبيلًا للمجاهرة بما لديه والدعوة إليه. ولكن هناك فريق آخر ليسوا من مرتكبي تلك الجرائم وإنما هم من (المتعاطفين)

سواء مع ما أصابها في السجن أو مع توجهها الشاذ المنحرف، والأخيرون هم نموذج لزوجة نبي الله لوط التي لم تكن ترتكب الفاحشة ولكنها كانت تتعاطف مع قومها وتشكِّل لهم معاونًا على الفاحشة بتأييدهم فيها أو بإرشادهم أحيانًا إلى بغيتهم كما فعلت مع الملائكة الذين جاؤوا لزوجها نبي الله؛ فكان جزاؤها كما ورد في سورة هود الآية 81: “قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ…”.

الفاحشة ورأي الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي حولها

لقد رُوي عن قتادة أنه قال: إنها كنت مع لوط حين خرج من القرية، “فلما سمعت العذاب التفتت وقالت: واقوماه؛ فأصابها حَجَرٌ فأهلكها”[1].ولكن حديثنا هنا ليس عن الحكم عليهم وإنما عن الدوافع التي تجعل هؤلاء يتعاطفون مع مثلها هذا التعاطف الذي أودى بزوجة نبي من الأنبياء رغم أن فيهم كثيرين من الشخصيات التي لا يمكن اتهامها بذلك الضلال والذين ربما يتصدر بعضهم لتوجيه الجماهير في وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، بل لبعضهم تاريخ طويل في التوجهات الإسلامية والتوجيه والإرشاد؛ فما الذي يجعل هؤلاء الأفاضل يدافعون وينافحون عن اختيارات مثل هذه المرأة رغم ما يعلمونه من حرمة الكفر والفاحشة وعقوبتهما عند الله وفي الدنيا أيضًا؟!

الحرية في المفهوم الإسلامي

أثناء عقد التسعينيات في مصر كان هناك صراع سياسي بين الإسلاميين ونظام مبارك الذي مارس كل أنواع التضييق عليهم ولم يسمح لهم إلا بتحركات محدودة ومحسوبة وتحت أعين أجهزته الأمنية. لذا، كان الإسلاميون وكل الدعاة والكتَّاب والصحفيين الذين ينتمون للاتجاه الإسلامي يروِّجون خطابًا يدعو لأهمية الحرية وأولويتها على لقمة العيش بل على الإسلام ذاته أحيانًا.

وكان بعض الكتَّاب يروِّج، في سياق حديثه عن الحرية، مقولة: إن الفقه الإسلامي يرى أنه إذا تنازع في اللقيط رجلان أحدهما كافر وقال إنه ابنه، والآخر مسلم، وقال إنه عبده؛ فإن الإسلام يحكم للكافر بضم اللقيط تقديمًا للحرية على الإسلام[2].

تغلغل هذا الخطاب الداعي إلى أولوية الحرية في عقول الكثيرين وتطرف بعضهم فيه وبعد أكثر من عشرين عامًا خرجوا يعلنون تأييدهم لإلحاد الملحدة والتعاطف مع اختيارها الدنيء لممارسة وإدمان والترويج للفاحشة. والحقيقة أن الحرية مطلب مهم من مطالب الإسلام وما كانت الغزوات الإسلامية واستشهاد مئات وآلاف المسلمين إلا لإعطاء الملايين من البشر حريتهم في اختيار عقيدتهم ونمط حياتهم بعيدًا عن إكراه الطغاة وتسلطهم.

هل الحرية مقدَّمة على الإسلام هكذا بإطلاق؟

بمعنى آخر: إن الفريق الذي يدافع عن المرأة وأشباهها يرون الحرية أولى من إنكار المنكر ومن تطبيق أحكام الإسلام بإطلاق بينما الفريق الآخر يرى أن أحكام الإسلام أولى وإنكار المنكر لا يُعترض عليه بدعوى الحرية، وأن مطلب الحرية في الصراع السياسي مع الأنظمة الاستبدادية لا يسوِّغ إقرارا الفواحش والإلحاد والدفاع عن أصحابهما.

كانت اختلاف تراتبية القيم إذن هو من دفع هؤلاء الأفاضل إلى سلوك هذا المسلك؛ إذ قدموا مطلب الحرية على الالتزام بأحكام الإسلام وإنكار المنكر بشكل مطلق وعام، ولكن فات أصحاب هذه النظرة بشكل رئيس عدة أمور، هي:

أن الحرية بطبيعتها مقيدة وليست مطلقة، ولا يمكن أن تكون، وكل الأديان -السماوي منها والوضعي-، وحتى النظريات البشرية تجعل للحرية حدودًا، هذه الحدود في الإسلام والشرائع السماوية السابقة منها عدم ارتكاب ما حرَّمه الله ورسله وعدم الإضرار بالمجتمع، وفي النظريات والأفكار الوضعية حدودها ألا تعارض أسس هذه النظريات ولا تضر بالمجتمعات. لذا، فإن من اختار فعل الفاحشة هو ارتكب ما حرَّم الله وما عاقب عليه أقوامًا بأشد العقاب “فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ” (هود: 82).

متلازمة الحرية والمسؤولية

إن من الواجب على المسلم –ما دام قد آمن بالإسلام- أن يستنكر تلك الفواحش التي تخالف شرع الله لا أن يتعاطف مع أصحابها، الأمر الثاني الذي فات هؤلاء هو أن الحرية التي منحها الله لعباده والتي تتيح لهم اختيار المعصية شيء وجهرهم بهذه المعصية شيء آخر؛ فإذا كان “كل بني آدم خطَّاء”؛ فإن “كل أمتي معافى إلا المجاهرين”. فالإسلام يعمل على حفظ المجتمع وصيانته من انتشار الفواحش لا أن يأخذ بأيديهم إلى الهاوية تحت شعار الحرية.

أما الأمر الثالث الذي فات هؤلاء فهو أن الحرية التي أعطاها الله لعباده يقابلها مسؤولية المحاسبة على استخدامها؛ فمن يفعل شيئًا مستخدمًا حريته عليه أن يتقبل الجزاء عنه إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وهذا الجزاء هو بحسب ما أنزله الله وشرعه رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم لا كما شرعت المنظمات والمواثيق الدولية؛ فإذا كانت تلك المواثيق قد شرعت الفاحشة وتدرجت بها من منكر عند جميع البشر على مرض يعاني منه البعض تمهيدًا للتعاف معهم ثم إلى حقٍّ واختيار مشروع فهذا لا شأن لنا كمسلمين به، بل هو يتعارض تمامًا مع شرع الله تعالى، وكذلك من اختار الإلحاد والكفر بالله تعالى فعليه أن يتحمل مسؤولية ذلك في الدنيا قبل الآخرة، ومن تلك المسؤولية أمر الترحم عليه الذي لا يجوز والذي هو من أهون الأمور في المسألة فالخلود في النار أعظم وأشد خطرًا.

رفع الشعارات التي ترمز للفاحشة وخطورتها على الجيل

الأمر الرابع الذي أرى أنه فات المتعاطفين مع الملحدين وأهل الفواحش هو أن التعاطف مع من وقع تحت سيف سلطة استبدادية يكون متعلقًا بموضوع الظلم وليس تعاطفًا بإطلاق؛ فلو افترضنا أنَّ مجرمًا قاتلًا أو سارقًا وقع القبض عليه وتعذيبه فإننا نستنكر التعذيب ولكننا لا نستنكر القبض عليه وإنزال العقاب الرادع به، وكذلك إذا جرى القبض على مرتكبة فاحشة قوم لوط ومجاهِرة بها وداعية إليها ثم تعرضت للإيذاء (قيل: إن المرأة تعرضت للتحرش، وقيل: الاغتصاب) فإننا نستنكر هذا الإيذاء ولكننا لا نتعاطف مع فاحشتها أو إلحادها بل نُسَرُّ بعقابها إن كان العقاب موافقًا للشرع، أما ما جرى من المتعاطفين على شبكات التواصل الاجتماعي من دفاع حارٍّ عنها وعن اختياراتها ثم عن انتحارها وإقامة البكائيات عليها، حتى وصل الأمر بالبعض بوضع شعار الشواذ وفاحشة قوم لوط على حساباتهم؛ فهذا خلل عميق واضطراب في التفكير على أقل تقدير.

الترحم على الملحد

ولعل أمر الترحم على الملحد هو من الهزل الذي يبيِّن مقدار الانحراف والاضطراب الذي انزلق إليه المتعاطفون معهم؛ إذ إن أي عقل لا يستوعب أن يطلب البعض من الله تعالى أن يرحم من أنكر وجوده سبحانه، فضلًا عن نهي الله تعالى صراحة عن ذلك
“مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ” (التوبة: 113).

المصادر

[1] د. محمد سيد طنطاوي، التفسير الوسيط.

[2] بالطبع، المسألة في الفقه ليست بهذه الصورة ولا بهذه البساطة؛ فلها تفاصيل ومحددات كثيرة، وحتى عندما يُضَمُّ للذمي بشروط معينة فإنه يُحكم بإسلام الطفل.

فيديو مقال تراتبية القيم بين الحرية وإنكار المنكر

https://youtu.be/8Ogn7QkniC0

أضف تعليقك هنا