الغفران من جديد

رمادياً حتى حين

منذ أن عاهدت نفسي ألا أعيد مشاهدة الأعمال المقدسة بالنسبة الي، بدأت نفسي تعِنُّ وتطلب ذلك وأتجاهل، إلا أنَّ إعادة عرض مسلسل الغفران على أحد القنوات.. جعلني أشعر بالاستسلام، وأجبرني على الانصياعِ بصمت، فموعد العرض يتزامن مع فنجان قهوة المساء أمام التلفزيون، وعائلتي سوف تتابع، وأنا جزء من عائلتي.

عندما أيقنتُ أنه لا مفرّ، وجَبَ عليَّ التغلبُ على ما غرسَته في نفسي هذه الحكاية، ف رحتُ أبرمج عقلي لأشاهد العمل بعين شخصٍ عادي لا يتأثر بأي عملٍ مهما علا شأنه، أو كمشاهدٍ لأول مرةٍ مثلاً.. وبقيتُ صامداً في تنفيذ قراري هذا على مدى ثلاثَ حلقات متتالية، ونجحت في مهمتي إلى درجة أنه بدأ ينتابني شعورٌ بالانزعاج لظنّي أنني كنتُ أبالغ في قداستي لهذا العمل،

وفي اليوم الرابع، أنهيتُ أعبائي اليومية، قمتُ بإعداد قهوة المساء كالمعتاد، وضعت نظارتي الطبية وصرت جاهزاً لبدأ عرض حلقة جديدة من الدراما الرومانسية الباردة وتعابير وجهي حيادية، فأنا قويٌّ الآن، بل وأنني كنتُ درامياً بلا مبرر، تجاوزتُ أغنية الشارة بدون أن أسمعها لأسهِّل عليَّ المهمة.

بدأت أرى مَشاهداً بدت لي عادية، لم أكن اكترث لها، فأنا قويٌّ الآن، بل وأنني كنتُ درامياً بلا مبرر، فـ “عزة” قد أساءت التصرفَ مع “أمجد” حين قامت بجعله وسيلة لتُجاكر بوجوده أحد معجبيها من الأصدقاء، سيما وأنها استخفت بمشاعره، شيءٌ طبيعي أن تعتذر له وأن يرفض، وأن تعيد الكرَّة من جديد، فقَبِل اعتذارها بخجلٍ يسكنه سعادة:

– طيب ماشي– ماشي شو؟ -اعتذارِك مقبول – شكراً كتير!

هههه عادي جداً، لم أكترث أبداً، فعينايَ تلاحقُ تفاصيل المشهد لأنني أشاهدهُ بدقة عالية ربما، لا شيء يدعو لأكثر من ذلك.

أطيافاً تلوِّح.. وعيوناً تطغى!

ما إن مشى أمجد بعد شكرِ عزة حتى استوقفته: لحظة إذا بتريد!

وقف المشهد بي هنا، لأنني شعرتُ أنها استوقفني أنا أيضاً، استوقفتني عن كلِّ ما كنتُ أحاولُ أن أبرر به لنفسي، وكأنها تخاطبني: لحظة إذا بتريد، حاج تكذب على حالك، لحظة إذا بتريد في شي جواتنا مارح نقدر نخبيه قد ما حاولنا، لحظة إذا بتريد، بيكفي تعمل حالك عابر سبيل ومانك متأثر بشي،

تزامنَت الـ “لحظة إذا بتريد” مع صوت موسيقى اخترقت مسامعي دونما استئذان، لتؤكدَّ هذه اللحظة فعلاً وتوثقها وتجعلها فاتحةً لبداية المعاناة،

ثم أتبعَت عزة جملتها لأمجد: انت كنت طلبت مني إنو نلتقي برا.. لسه عندك رغبة تشوفني؟

بدأ قلبي يخفق ببطءٍ هنا، لتأتي الموسيقى لتزيدَ الوضع لوعة.. وحركة كاميرا حاتم أمام الوجوه.. ظلت ترصد العيون بحذرٍ مرة، وقلبي آلاف المرات،

لم تمر مشاهد كثيرة حتى وجدتُ نفسي جالساً أروي قصصي على طاولة أمجد، وتارةً على سرير عزة، أفكر وأبتسم.. ثم أنام.

لم يفارقني القميص القطني الأزرق السماوي الذي تدلى على أكتاف عزة حين لقائها أمجد آنذاك،

فأنا لا أرى شخصيات في هذا العمل.. جلُّ ما أتمكن من رؤيته هو عيوناً خضراءَ لامعة لخائفة نادمة تعلقت بهدوءِ بارد لعاشق نادم.. والدور الثالث قمتُ بلعبِه أنا، عندما وجدتُني أسير مسلسل الغفران الذي كنتُ أعتقد أنني لا زلت مبكراً على فهمه.

المهرب

بعد انتهاء مشاهدتي للغفران وقراءتي لرواية حسن سامي يوسف “رسالة إلى فاطمة”، بقيتُ أبحث عن طريقةٍ تبقيني على اتصال روحاني بما رأيته وقرأته، هنا أدركت دور الوتر في صناعة العمل، أو صناعة العمر ربما، وأيقنت أن الموسيقى هدية بسيطة تقدَّم للمُشاهد لتبقى متصلةً به، فترتجف الأضلع ويتلون الفؤاد مع كل وترٍ يهتزُّ ليصدر تلك الموسيقى الحالمة التي لم أجد مثيلاً لتأثيرها في قلبي قط، لا أدري بمَ فكَّر قائد “سفينة نوح” إياد ربماوي ليخرج بهذا الحُنُوِّ كله!

لا يغيب عن ذاكرتي لحظة التي أهداني فيها صديقي سيدي خاص لهذه الموسيقى هديةَ عيد ميلادي.. رحتُ أقفُ في كل زاوية أسمع وأفكر وأتخيل وأحلم.. وفي مختلف الظروف، في ظلام الليل في الشوارع في البرد القارص وعلى حوافِ الأرصفة وحيداً متوحداً مختلياً بهذه الموسيقى وحدها،

موسيقى توجهُّني نحو الماضي كالبوصلة.. تغدو وتُشرع وتُبحرُ وتخترقُ كيفما شاءت.. ورغم أنني لا أعتبر نفسي من الشخصيات العاطفية عموماً.. إلا أنني أتأكد أنني نقيضَ ذلك تماماً عندما أقفُ على أعتابٌ هذه الموسيقى.. وعند أبعادها المتقنة،

هو الصراع

هممْتُ بالغفران في كثير من مواقف الحياة.. إلا أنني في أماكن أخرى قدّرتُ ما كان يشعر به أمجد.. وقلمه كان يكتب ما في جعبتي، ونفسه العصيّةَ كانت نفسي ذاتها التي بررت لعزة الكثير، وشعرت بقسوة الحياة والقدر، وعجزهما عن جعل النهاية سعيدة.

كل من يعيش هنا يدرك بأننا رهن الحياة، ورهن الظروف، ويدركُ بأن رواسب القلب الرمادية ستبقى كذلك، الى أن يأتي من يجعلها بيضاء ناصعة أو سوداء قاتمة، أو يلونها بألوان تشبه المرحلة، ولا مفرَّ من ذلك بحال من الأحوال، فصدفةُ الحياة أقوى من إرادتنا، وهي من تعيدُ إنعاش القلب، وصراعنا في البحث عن السعادة لا إجابة عليه!

هذه الدراما

بل هي التفاصيل يا سيدي! التفاصيل التي تزيد من بهاء أي لوحة فنية تضاف لها، التفاصيل المدروسة من حيث الأفكار والقضايا المطروحة وطرق المعالجة الفنية وفنون وتقنيات التصوير والإخراج،

هذه الدراما التي لا تخبو ولا تنطفئ، التي لا تمل من طرح الأسئلة، وجودية كانت أم واقعية أم فلسفية، هذه الدراما التي توسع المدارك وتغني الذاكرة وتعيش مع متابعها حتى بعد العرض بعشرات السنين، هذه الدراما التي تبقى خالدة في الذكريات، الدراما المتجددة بأفكارها وعناصرها وكيفية طرحها بدون أن تفقد ألقها وبريقها وروح المجتمع التي خرجت منه،

نعت الدراما حاتماً والكثير من صناعها وما تزال، وأفكر دوماً، من الذين سيحملون أمانة هذه الدراما في أعناقهم؟ سيما وأن أغلب نجوم الدراما هاجروا يغردون خارج سرب الدراما السورية، لانخفاض موارد المال، وبنوا أعشاشاً لهم على أشجار شركات الإنتاج الضخمة بانتظار صيد الموسم، حتى أصبح الرهان على الأعمال العربية المشتركة التي تفتقر لخصوصية المجتمعات، والتي باتت تسطو منازل السوريين، وتنال من ثقافتهم،

نتوق وننتظر، على أمل أن تكون هذه الأعمال “موجة ترند” وبعدها يعود كل طير إلى عشه.

فيديو مقال الغفران من جديد

أضف تعليقك هنا