الجيرة أو الاستجارة قيمة خالدة من قيم تراثنا العريق تعني حسن الأمان بحماية المستجير، والجيرة جزء من ديننا الحنيف، ومعلم من معالم شعائر الإسلام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، وفعلها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لما لها من فضل عظيم بين المسلمين إذ تحفظ دماءهم، وتصون أعراضهم، وتطفئ نار الغل والحقد وردة الفعل في حينها، وتمنع التشتت والفرقة. وفي الجيرة حفظ للفرد وصيانة للمجتمع من ثورة الدم وقت الفجعة الأولى، فتمنع الإنسان من الاعتداء، أو نصرة قريبه مهما كلف الأمر.
ولذلك فإنه حين يقع إنسان في جرم قد كتبه الله عليه، أو تصيبه نزغة من الشيطان، فيقع بذلك سفك للدماء فإنه يأتي دور الجيرة التي تحفظ دم الأشخاص الأبرياء (المعفي) من أي جرم وقع وليس له فيه ذنب إلا أنه أحد أقرباء الجاني، وهوما يسمى بين القبائل بالعامية (المَعفي) وكلمة المعفى تعني الشخص الذي لا ذنب له، وقد قال المتنبي في ذلك الأمر:
وجُرْمٍ جَرَّه سُفهاءُ قَومٍ وَحَلَّ بِغيرِ جَارمِهِ العقابُ
والجيرة منتشرة في بلادنا العربية، مشهورة بها قبائل عدة في المنطقة الجنوبية للسعودية، ومنها شهران العريضة وقحطان ويام وقبائل أخرى، فتحتفظ بها وتحرص عليها. وهي مشهورة ولا غناء عنها، وتوصف قبيلة البراعصة في ليبيا بأنها من أشهر قبائل العرب في ليبيا في الجيرة ونجدة الملهوف وشجاعة وكرمًا والجيرة عمل شريف،و سلوك عربي يؤدي وظيفة اجتماعية منذ الجاهلية قبل الإسلام حتى يومنا هذا، فهي تحقق الأمان لأقرباء الجاني والحماية، وتضمن لهم الشرف والرفعة، بل هي ناموس ثابت لهم ولأهل الجاني.
وللجيرة أنواع، تختلف باختلاف ظروفها وأسبابها، ففي حالة القتل فإن مدتها سنة وشهربن، وتسمى جيرة القتل، أما جيرة الجروح فمدتها ستة أشهر، سواء في ذلك أكانت الجروح ناتجة عن سلاح أبيض أو سلاح ناري، وغيره ثم الجيرة الثالثة، وهي جيرة الأسود مدتها ثلاثة أيام، وهي أن تجير المذنب حتى يقوم بتجويره غيرك، أو إذا لم يقبل أهل الدم جيرتك فله جيرة عندك مدتها ثلاثة أيام، و حتى يخرج من حدود قبيلة أهل الدم أو يبحث عمن يجيره.
والجيرة لا تقبل ولا تفعل ولا تبلغ إلا إذا سلم الجاني نفسه للدولة، فإذا لم يكن بيد الدولة فلا قبول للجيرة، كما أنها تقبل إذا كان بينك وبين المجني عليه ستة جدود، فإنه يمكنك أن تجير الجاني، وعند قبائل أخرى يكتفون بالجد الخامس لأنك إذا دخلت في الجد الخامس أصبح صاحب دمٍ، وليس له الحق في أن تكون عنده جيره، وما بعد الخامس له حق الجيرة، والجيرة حسب عرف القبائل بينهم تجوز ما فوق الخامس، ولو كان المجني عليه والجاني من نفس القبائل كذلك فعم الأولى بالجيرة بينهم أما إذا طالت المدة ومكثت سنوات لم يكن هناك صلح، وانتهى دور جميع قبائل الجاني والمجني عليه فيخرج إلى قبائل أخرى خارج قبائله.
كما أن من شروط الجيرة ألا تستقبل جيرة ولديك جيرة أخرى، وكذلك في العرف القبلي أن شيخ القبيلة لا يجور أحدًا لمكانته القبلية بين القبائل، فذلك غير مقبول، وإنما الذي يستطيع ان يجور هو سائر أفراد القبيلة، وهذا شيء لا يقره الشرع، فليس هناك أحد أفضل من النبي الرسول الأمي خاتم الأنبياء والرسل سيد أولاد آدم، فهو صلى الله عليه وسلم قد أجارَ، وهو سيد الأولين والآخرين.
لا تبعث أعرافنا الخالدة وحدها على التمسك بالجيرة فحسب فهذا ماضينا وحاضرنا، بل نص عليها ديننا الحنيف نصًا يُفهم منه التأكيد على أهمية(الجيرة) فيقول الله سبحانه وتعالى:( قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وكذلك يقول الله سبحانه وتعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)
أ ــ عندما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قباء سأل عن رجل يدعى(أبو أمامة) فقالوا له إنه في قومه، وبينه وبين بيني عوف الحروب التي بين القبائل، ولا يستطيع أن يأتي وحده، فإذا به يدخل عليه في الليل أبو إمامة، فقال له الرسول: كيف خلصت وحدك في الليل وأنت حرب لهؤلاء القوم؟ فقال أبو أمامه: ما كان لي أن اسمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتأخر عنه، فقال الرسول لبني عوف أجيروا أبا أمامة، فقالوا: أجره أنت يا رسول الله فأجاره.
ب ــ حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم عائدا من الطائف إلى مكة، في وقتٍ توفي فيه كبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب، وأبو لهب من أشدِّ أعداء هذه الرسالة، ولن يقبل أن يقوم بحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبلِّغ رسالةً هو كارهٌ لها، ولن يستطيع أحدٌ من رجال بني هاشم أن يتعدَّى على أبي لهب في هذا الأمر؛ لذلك لم يتردَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُراسل رجالًا من المشركين من قبائل أخرى يطلب أن يجيروه.
فراسل في البداية الأخنس بن شَرِيق، فرفض وتعلَّل بأنَّه حليف؛ أي ليس أصيلًا صريحًا في مكة، والحليف لا يُجير، وكان الأخنس حليفًا لبني زهرة، فلمَّا أبى الأخنس راسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سهيلَ بن عمرو، وهو من عظماء مكة، وكان من المتوقَّع منه أن يقبل الجيرة، وكان رجلًا عاقلًا؛ ولكنَّه للأسف تخلَّى عن عقله ومروءته وقال:
إنَّ بني عامر لا تُجير على بني كعب. ومن المؤكَّد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّ هذه القوانين التي تَعلَّل بها الأخنس أو سهيل ليست مُلْزِمة، وإنَّه من الممكن أن يُجير الحليف، وسوف نرى أنَّ ابن الدغنة كان حليفًا لبني زهرة كذلك، ومع ذلك أجار أبا بكر الصديق رضي الله عنه، كذلك يعلم أنَّه من الممكن أن تُجير بنو عامر على بني كعب، وإلَّا لما أرسل إليهما؛ ولكن على كلِّ حالٍ فهذه كانت اعتذارات مؤدَّبة من قادة مكة.
ثمَّ فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجلٍ آخر، وهذا التفكير وهذه الطريقة التي استخدمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مراسلته تدلُّ على عمق الفكر السياسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى وعيه الكامل بالجذور التاريخيَّة ، وعلى حكمته الدبلوماسية في التعامل مع كافَّة الظروف والأطراف.
لقد راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المطعم بن عدي، وهو من زعماء مكة الكبار، وهو سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وراسله عن طريق رجلٍ من خزاعة لم تذكر الروايات اسمه، ولا يعنينا اسمه في شيء؛ بل تعنينا قبيلته خزاعة، فلماذا راسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المطعم بن عدي تحديدًا؟ ولماذا اختار رجلًا من خزاعة وهي قبيلةٌ غريبةٌ في مكة؟ إنَّ لهذا الأمر جذورًا في غاية الأهميَّة، وحتى نفقه البعد العميق في فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالوا نُقَلِّب قليلًا في صفحات التاريخ.
يعود أصل العرب إلى فرعين رئيسين: قحطان وعدنان، وقد ظهر قحطان قبل عدنان بعدة قرون أما عدنان فقد سكن نسله في الحجاز بين مكة وما حولها، وتوسع في الوطن العربي، وأمَّا قحطان فقد سكن نسله في الحجاز إلى الشام ونجد وعمان واليمن وجبال السروات، ثمَّ مع مرور الوقت تفرَّقت الذريَّة في كلِّ أطراف الجزيرة العربية؛ لكن ظلَّ العرب يُدركون الأصول العدنانيَّة والقحطانيَّة لكلِّ قبيلة، فمثلًا من أشهر القبائل العدنانيَّة قبيلة قريش، وهي قبيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشهر القبائل القحطانيَّة قبائل الأزد وكذلك قبائل خزاعة وجرهم.
ونجد في تاريخ مكة فترةً سيطرت فيها قبيلة خزاعة على البيت الحرام وكانت لها إدارته والهيمنة على مكة لأنها أخذت حكم مكة بالعنوة من جرهم القحطانية أصهار إسماعيل بن إبراهيم، ثمَّ جاء قصي بن كلاب وهو من أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي من العدنانيِّين- وحارب خزاعة وطردها من مكة، وسيطر هو على البيت الحرام مع أنَّه كان متزوِّجًا من بنت زعيم خزاعة، وهكذا فقد حدث صراعٌ قديمٌ بين خزاعة وقريش، وطُرِدت خزاعة من مكة. وهكذا ذهب معه الخزاعيون مع النبي محمد إلى مكة، ودخل مكة ثانية، وأعلنوا جيرته أمام المشركين.
ـ لقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في العام الخامس من البعثة إلى الهجرة إلى الحبشة، فهاجر مجموعة من المسلمين، وأمروا عليهم عثمان بن مظعون، وكان عدد المهاجرين أحد عشر رجلا وأربعة نسوة، ثم كانت الهجرة الثانية التي كان أمير المهاجرين فيها جعفر بن أبي طالب ومن معه وكانت زوجته السيدة أسماء بنت عميس القحافية الشهرانية معه في تلك الرحلة، وقد قال لها: اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا عادلا.
وتعد محاكمتهم أطول محاكمة في التاريخ، وفيها قام ملك الحبشة فأجارهم، ومكثوا بطرفه، وأسلم، وردَّ هدايا كفار قريش، و قد أتى له ابن فأسمته السيدة أسماء علي اسم ابنها عبدالله، وقد أسلم النجاشي وذهب متوجها للقاء النبي صلى الله عليه وسلم، و لكن المنية عاجلته، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، ودفن بأرض الحبشة، أما وفد جعفر بن أبي طالب فقد عاد إلى الجزيرة العربية إلى المدينة المنورة.
خطاب جعفر بن أبي طالب وقوة الحق في ثبات وثقة عالية تقدم جعفر بن أبي طالب t وألقى خطابًا جليلاً مهيبًا، إن دل على شيء فإنما هو الحق وقد أجراه الله على لسانه. وفي خطابه قَسّم جعفر بن أبي طالب t كلماته إلى مقاطع عدة، يحمل كل مقطع منها معنى معين، ويصل به إلى هدف خاص.
“أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف”.فقد بدأ جعفر بن أبي طالب بتقبيح الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، وهو بهذا يرسل إشارة واضحة أيضًا تتضمن أن هذين الرسولين (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) ما زالا على هذه الصورة الخبيثة وتلك الأخلاق الفاسدة.
ونلاحظ أيضًا أن كل مساوئ الجاهلية التي صورها جعفر لا تبعد كثيرًا عن صفة الظلم؛ فكان هناك إما ظلم مع النفس وذلك بعبادة الأصنام {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، أو ظلم مع الرحم بقطع الأرحام، أو ظلم مع الجار بالإساءة إليه، أو ظلم مع الضعيف بأكل حقه. ولنتخيل مثل هذه الصور من الظلم وهي تعرض على ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، فكان تصدير جعفر بن أبي طالب بذكر مساوئ الجاهلية -ولا شك-قد ترك أثرًا عظيمًا في قلب النجاشي، بل في قلب أساقفته، فكان هذا المقطع من كلام جعفر سهمًا قد أُطلق في مقتل لقريش ووفدها.
قال جعفر: “فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه”.وهنا يشير جعفر إلى أن الذي جاء بهذا الدين الجديد والمخالف لما هم عليه جميعًا ليس رجلاً أفَّاكًا كذّابًا يريد خداع الناس من أجل مصلحة ما، بل هو صادق أمين، وطاهر عفيف، ومن أعرق أنسابنا، وقد جاء بالحق الواضح. وإزاء هذه النعوت لم يستطع عمرو بن العاص ولا عبد الله بن أبي ربيعة أن يردّا بكلمة واحدة؛ فقد كان رسول الله r فوق كل شبهة، هذا إضافةً إلى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، فما أكثر الرسل التي تحدثت عنها التوراة والإنجيل.
وهذا المقطع في غاية في الروعة، فبعد أن عرض لصورة الجاهلية الحقيقية، أخذ في عرض الصورة المقابلة لها وهي صورة الإسلام، التي جاء بها هذا الرجل الصادق الأمين r، فقال جعفر بن أبي طالب:
“فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام”. تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وهي راوية القصة-: “فعدَّد عليه أمورَ الإسلام”.
وفي ذلك التصوير لم يكذب جعفر ولم يتجمل، وإنما هي الحقيقة، فالباطل بطبيعته قبيح مقيت كريه، والإسلام بطبيعته حسن جميل محبوب، فقط عليك أن تعرض الصورة بوضوح، وستختار الفطرة السليمة دين ربها.
وهو غاية في الذكاء والتوفيق، قال جعفر: “فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا”.ثم أتبع ذلك فقال: “فعدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث”.
وهنا يبرز جعفر بن أبي طالب الدور القبيح للكافرين، وكان منهم آنذاك عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ولا شك أن موقفهما أصبح ضعيفًا جدًّا، ولا ننسى هنا أن صور التعذيب والابتلاء تستهوي قلوب النصارى كثيرًا؛ فهي تذكرهم بالحواريين الذين عُذِّبوا من قبل، وبالذين كانوا يفتنونهم عن دينهم بأبشع الأساليب، بل تذكرهم بصورة المسيح u.
وهكذا سيطر جعفر تمامًا على مشاعر النجاشي، بل وعلى مشاعر الأساقفة من حوله، وقد ختم t بيانه هذا بمقطع سياسي حكيم قال فيه: “فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك”.
وهنا -وفي صدقٍ تام وفي غير نفاق ولا كذب-يرفع جعفر من شأن النجاشي، فيذكر أفضليته على من سواه في مثل مكانه، ويرفع من قيمة العدل عنده، وهو بذلك يكسب قلبه، فيلين جانبه وتهدأ نفسه؛ فلا يتسرع بحكم، ولا يجور في قضاء. انتهى البيان المختصر من سفير المسلمين وقائد المهاجرين جعفر بن أبي طالب t، وكانت النتيجة هي خمسة سهام قوية في صدور الكافرين، وسكون -إلى حد كبير-في جوارح الأساقفة الذين كانوا يتربصون بالمسلمين بعد أخذهم هدايا عمرو من قبل.
أمام خطاب وبيان جعفر وقد بدا عليه وكأنه بدأ يقتنع بكلامه ويهتم بأمر هذا الدين الجديد، سأله النجاشي قائلاً: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟
قال جعفر: نعم.
قال النجاشي: اقرأه عليَّ.
وفي الآيات التي سيقرؤها على النجاشي فكر جعفر، ثم هداه الله U إلى اختيار موفَّق، فبرغم كثرة السور التي نزلت في مكة، إلا أنه اختار صدر سورة مريم.
اختار السورة التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى -عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم-اختار السورة ذات السياق العذب اللطيف، تلك التي تجذب قلوب السامعين وتأخذ بألبابهم وأفئدتهم، فتنشرح صدورهم لما جاء من عند الرحمن الرحيم، فقرأ جعفر:
{كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 1- 22].
لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، ولم تقف هدايا عمرو حائلاً بين كلام الله وبين قلوب السامعين، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال:”إن هذا والذي جاء به موسى (وفي رواية: عيسى) ليخرج من مشكاة واحدة”. وإن هذا ليعد إقرارًا منه بصدق الرسالة، وصدق رسول الله وصِدق جعفر ومن معه. ثم التفت إلى عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: “انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا”.
وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح، ولم ينجح في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط، بل تعدى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم، وكانت هذه الجولة بكاملها في صفِّ المؤمنين، وهُزم سفيرا قريش هزيمة منكرة، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة.
د ــ بعدما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وضع صحيفة المدينة أو دستور المدينة، كان من ضمن بنودها مبدأ الجوار (إنَّ ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم)
هـ ــ وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حموه وأجاروه، ودافعوا عنه بعد حفظ الله له، وناصروه القبائل القحطانية من الأوس والخزرج والأنصار، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت شاعر الرسول.
منعنا رسول الله إذ حلَّ وسطنا
| على أنفِ راضٍ من معدٍ ومغرمِ
| |
منعناه لمَّا حلَّ وسط بيوتنا
| بأسيافنا من كل باغِ ٍ وظالمِ
|
أــ قبيلة قحافة الشهرانية العريقة ــ أخوال محمد بن جعفر بن أبي طالب، حيث إنَّ أمه هي أسماء بنت عميس القحافية الشهرانية الخثعمية، كان مع أخيه من أمه محمد بن أبي بكر الصديق؛ حيث بعثه الخليفـة علي بن أبي طالب أثناء خلافته واليًا على مصر. فلما قُتل محمد بن أبي بكر هرب محمد بن جعفر بن أبي طالب، فلحق بفلسطين فاستجار بأخواله من “شهران خثعم”، فأجاروه ومنعوه، كان معاوية يضمر لهم الشر. فقال الخليفة معاوية بن أبي سفيان يومًا للذي أجاره وهو عنده: ادفع إلينا هذا الرجل عندك.
قال: دَعْه يا أمير المؤمنين. قال معاوية: لا والله لا أدعه. فقال الخثعمي: والله لا أدفعه إليك حتى تتحدث أي الفتحين أعظم! قال معاوية: إنك ما علمت لأوْرَه أي: أحمق. قال الخثعمي: إي والله إني لأوره حين أقاتل عن ابن عمك -يعني عن محمد بن جعفر -حتى أحقن دمه، وأقدم ابن عمي بين يديك حتى يُقْتَلَ في سلطانك. فأعرض عنه الخليفة معاوية، فلم يزل محمد بن جعفر بن أبي طالب في جيرة وحماية أخواله من “شهران الخثعمية” حتى مات، وهذه أول جيرة لقبيلة عربية في العهد الأموي بعد جيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
ب ــ لقد روي أن امرأة استجارت بقبر جد الفرزدق، وأحضرت من قبره حصيات معها، وطلبت من أن يتوسط لها عند تميم بن زيد والي السند في عهد الحجاج الذي أخرج معه وحيدها لعله يرده إليها، فكتب الفرزدق إلى تميم:
تميم بن زيدٍ لا تكوننَّ حاجتي
| بظهرٍ فلا يعيا عليَّ جوابها
| |
أتتني فجارت يا تميمُ بغالبٍ
| وبالحضرة السافي عليه ترابها
|
ج ــ وقد روت المصادر استجارة جماعة بقبر غالب جد الفرزدق، وهو بكاظمة قرب الكويت، قال في المستطرف: 217: (وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة فمن استجار بقبر أبيه أجاره، وإن امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها وينسبها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسما ولا نسبا، ولكن قال:
فلا والذي عاذت به لا أضيرها
| عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب
|
د ــ كما رووا استجارة الكميت بقبر معاوية بن هشام، بعد أن قبض عليه الأمويون وأرادوا قتله فأجاره عبد الملك بن مروان: (فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهل؟ إن أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك! قال أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني أحتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك.
إنَّ الجيرة قيمة راسخة في ديننا وتراثنا تقوم على دعائم الشرع والعرف، تؤدي وظيفة اجتماعية سامية، هي حفظ الأرواح والممتلكات، فتضمن استمرار الأمن والسلام الاجتماعي.
أما ما قيل (رد البراء) عند أكثر القبائل، فهذه لهجة عامية معروفة، وهو التبرؤ من فعل شيء قادم، إذا تمَّ تقض الجيرة وقطعها، والجيرة إذا قطعت أو تعدى عليها أحد فلها حقوق وافية عند العرب، إما حقها بدمٍ أو بحق مضاعفٍ كبير، ويسمى في بعض الأوطان باسم(المحدش) أي الحق المضاعف إحدى عشرة مرة، وعند بعض القبائل يطالبون بالحق والمثار.
ــ الحق: هو ما وقع عليه الضرر أو الجرم، فيعطى حقه.
ــ المثار: هو أن تثور لمن وقع عليه الجرم، وأن تعطيه حقًا، وهي معروفة عند بعض القبائل.
والحق خاصة فمعروف عند جميع الناس، أما المثار فهو معروف عند بعض القبائل وقد تلاشى الآن، لأنه يعتبر الحق يغطي على الحق والمثار.
أما توضيح المثار: فإنه يجب عليك أن تثور أي تفعل، أي تنصر ضيفك أو خويك أو جارك أو من رد عندك الجيرة فعليك أن تثور له، أي تقوم له بفعل حق، وتنصره بما قع عليه كأنك أخوه أو ابن عمه القريب، ولو كان من خارج قبيلتك، وهذا هو معنى كلمة (أثور له) بالعامية.
شهران العريضة وإن يوم العلاء دق
|
حنا هل السبع البيض والعشرة والاثنين لمقاطع الحق
|
الأولة: لا جيرة بعد جيرة النبي الأوله إلا جيرتنا
|
والثانية: نقري ضيفنا ونثور له ولا نغدر به
|
والثالثة: نحمي حدودنا والقصير و الخوي والحليف
|
والرابعة: نجور قاتل الظنا لو هو عدونا
|
والخامسة: من نصانا في الحلف والغرم هو واحد منا
|
والسادسة: عطانا نبينا الرايتين الأوله راية لواء، وراية أمان
|
والسابعة: نوفي بعهدنا والبيعة ولا نتولى في يوم اللقاء
|
قتلتم سيد الأحبار كعبًا وقدمًا كان يأمن من يجير
لقد ذكر الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة الدكتور أنطونيو جوتيرش خلال مؤتمر له بالعاصمة الباكستانية في 18 فبراير 2020 الجيرة وما لها من قيمة عند العرب والمسلمين، ويحثهم على تفعيلها لحفظ الدماء ونشر الأمن، فهذه عصبة الأمم، وراس هرمها يعترفون بالجيرة في ديننا، وهي ليست لديهم، فكيف بمن يحثنا نحن العرب المسلمين على إقامتها وحفظها والالتزام بها، إن أملي كبير في العرب والمسلمين إرجاعها على ما كانت عليه من العهد النبوي حتى يومنا هذا. يقول أمين عام هيئة الأمم المتحدة https://www.youtube.com/watch?v=2Ef4_yafg8s
. (إنَّ أجمل وصفة لحماية اللاجئين في تاريخ العالم موجودة في سورة التوبة من القرآن الكريم، وأنا أقتبس: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) هذه الحماية يجب أن توفر للمؤمنين وغير المؤمنين على حدٍ سواء في نموذج فريد للتسامح قرونا عديدة قبل ميثاق اللاجئين لسنة 1951 التي حددت بصيغة حديثة مفهوم اللاجئين، ونوع الحماية التي يستحقونها). أنطونيو جوتيرش
The most beautiful recipe for refugee protection in the history of the world is found in Surat Al-Tawbah from the Holy Qur’an, and I quote: (And if one of the polytheists seeks protection from you, then grant him protection until he hears the word of God and then deliver him to his place of safety). This protection must be provided to believers and non-believers alike, in a unique model of tolerance for centuries. Many prior to the 1951 Refugee Convention, which defined in a modern form the concept of refugees and the type of protection they are entitled to.
بقلم: نبيل الهومي الكَبَّار: نبتة خضراء يسافر نفعها من آسفي إلى مناطق وطننا الغراء على سبيل… اقرأ المزيد
بقلم: محمد زيدان أفكار مشاريع صغيرة, كثير هم الشباب الذين يبحثون عن فكرة عمل صغير,… اقرأ المزيد
بقلم: أحمد الحباسى كاتب وناشط سياسي أين هو العالم عما يحصل في فلسطين؟ هذا المقال… اقرأ المزيد
بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد
بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد
بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد