الخروج الأخير

كان آخر ما قاله لزوجته قبل خروجه عند مغرب الشمس، أن ضاق عليه النفس، هذا ليس بيتٌ هذا حبس، يبغي الخروج ليتمشى في الهواء الطلق طليقاً. هذا الطريق الطويل الذي طالما مشى فيه وشاهد معالمه تتغير إيذاناً بتغير الزمان. كل ما يريده الآن أن يمشي وحسب دونما وجهة متجه إليها، يا قَدَماي سيرا بعيداً لأي مكانٍ، كان وقع الخبر عليه أليماً كضربة غادرة على أم رأسه من حاقدٍ لئيم، من حينها لم يسمع به أحد، لم يره بعدها أحد، بالرغم من مرور سنينٍ طوالٍ بساعاتها وأيامها والشهور، إلا أنه لم يُعثر له أي أثر.

مولد ابني وطفولته الأولى سعادة بنكهة مختلفة 

عندما بُشّر بولادة ابنه البِكر أحس أن لحياته مغزى آخر، وملأ قلبه سعادة جديدة لم يألفها من قبل، أنعش قلبه حب آخر، ورأى حياته بطريقة أخرى، حنان لم يحنه لأحدٍ من قبل وحب مختلف نال من قلبه ما ناله، بدت الحياة تتجمل بكل كركرة من فاه طفل صغير. يحضنه لقلبه الموجع. يداعبه ليعيد كرّة الكركرة من جديد ليضحك فتكسح سحاب الغم المتلبد في صدره. يمطر من فمه ضَحكاتٍ لدى رؤياه كركرة صغيرٍ يرى الحياة ضَحِكات.

تربية ممزوجة بالحب والسعادة

يكبر الأبن فيلتحق بالمدرسة، يشتري له لوازمها وملابسها وحقيبة جميلة لكتبه، يواظب معه على إنجاز واجباته المدرسية البيتية ويصحح له أخطائه الاملائية، وكلما يتقادم عمره يواظب معه أيضاً على تصحيح اخطاء حياته اليومية،في كلا المدرستين أخطاء فادحة وساذجة فالمواظبة على تصحيحها مبكراً بأسلوبٍ مبتكر مرضي ومقنع للطرفين (تربية)، يغضب عليه أحياناً لدى رعونة تصرفه أو قلة أدبه وأحياناً يربت على كتفه وينهال عليه مادحاً لدى تصرفٍ جيدٍ وقولٍ حَسَن، وبجميع الأحوال يحبه حباً جماً كتمه بقلبه. صفاء الروح حبٌ مكتوم.

يكبر ولدي ويبقى طفلاً بعيني

كلما كبر ابنه أحسه يستقل عنه كثيراً، فلقاؤه معه أقل ومع أصدقائه أكثر، همومه يكتمها بقلبه أكثر ولا يبثها بكل براءة وعفوية (وفهاوة) مثل ذي قبل، هكذا هي الحياة تعيشها لتكبر فتستقل بها لتنشأ حياة جديدة مثلما نشأ أبوك ومن قبله جدك وأجيال سبقت وأخرى ستلحق وهكذا الحياة تدور شئت أم أبيت أحببت ذلك أو كرهت. طلب من أبيه أن يستريح فالحمد لله رزقه من شغله الجديد جيداً نوعاً ما. لكن نظر الأب لابنه أنه لازال ذلك الصغير، بالله عليك هلا تكركر ضاحكا مرة أخرى ولو على نكتة أعرف أنها (بايخة)، يحدث الأب بالكتمان قلبه.

عشق ابنه لرائحة البيض المقلي بالدهن و(المحموس) بكوم بصل. يحبه كثيراً لدرجة أن يستنشق رائحة القلي. كيف تُغري هكذا روح (بسيطة) (قانعة) بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من خيرات الله في جنة عرضها السماوات والأرض أو كيف تُغريه بعوائد فساد السلطة والمنصب والصفقات وهو كل حبه بدنياه بضع بيضاتٍ وكوم بصل.

ولدي الذي داعبته بالأمس أصبح رجلاً 

ما عاد يحرق دمه مثل ذي قبل بتصرفاتٍ غير مهذبة تثير الحنق والعصبية، فها هو اليوم رجلاً محترماً. سَرَحَ الاب محدثاً قلبه: (كم هم مساكين معاشر الاباء والامهات، يحرقون قلبهم ويكدرون مشاعرهم واخر الامر يتعلم الابن من اخطائه ومن تجارب الحياة ربما أكثر مما تعلمه من حرص ونصح وغليان دم والديه). ابتسم في داخله، فلم تطاوعه عضلات وجهه لترسم ما يبدو أنه ملامح ابتسامة.

لحظات تلقي الأب خبر وفاة ابنه

كيف تَسوَّد الدنيا في عينيك فجاءة؟ كيف فجاءة يصبح الهواء خانقاً؟ كيف لا تعرف كيف تضحك؟ كيف تنسى الكلام؟ كيف يصبح الدمع وسيلة الكلام؟ كيف لا تعرف كيف؟

ذات مساء طرق الباب عابر سبيل، هل أنت ابو (فلان)؟ نعم يا ولدي أنا أبو (فلان)! يا والدي لقد قتلوا ابنك بكمينٍ لمسلحين على الطريق العام قُبالة بناية المعهد الفني. أوقفوا سيارتهم التي تقلهم بعد انقضاء عملهم ومن ثم أخذوهم في عمق الجنب الترابي الخالي للطريق وأردوهم صرعى واختفى القتلة. كل الذي أعرفه أن كانت طلقة واحدة في الرأس. ستجدون جثته في ثلاجات حفظ الموتى في المستشفى العام. عذراً يا والدي فلا عزاء لي إلا أن أعزيك وأنا عارفٌ أن مهما عزيت لا ينفع العزاء، لكني أروم الذهاب لبضع بيوتاتٍ أخرى أبلغهم ذات الخبر للبقية ممن قُتِلوا. في أمان الله، ذهب ساعي الموت لحاله دونما بالتفاصيل سؤاله. من وكيل عزرائيل هذا؟! أمان الله؟! أي أمان الله هذا؟!

ولدي الذي شاركني أجمل أيام حياتي رحل

دخل الاب مذهولا ساكتاً ليرى نظرات زوجته المقطبة الحاجبين كأنها عليمة. منذ الصباح وهي مضطربة، يا رب هل أوحيت لها كأم موسى من لدنك شيئا، فلا شك ان عرفت بالخبر منك؟! ها هي فقط تنتظر النطق لتأكيد الحُكم لا أكثر، قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، (قتلوا إبنك) قالها بصوتٍ خفيف وعيناه تثبتتا بمحجريهما يابِسَتان لم ترمشا البتة، ومن ثم سَكَت، غص بماء ريقه، فجأة نَسِيَ كيف يبلع ريقه، نَسِيَ كيف يتكلم، وفار التنور، تتفجر من غياهب صدره صيحة (اه) أحرقت قلبه، ملأت فضاء البيت الخالي ضجة، صيحة كبرى قطّعَت الأنفاس، يتفجر من يابس المَحجرَين ينابيع الدموع، صاحت زوجته صيحة أكبر وزادتها صيحات وصيحات أكثر. تلطم على رأسها وتخمش خديها. فتحت حجابها واخذت تجر بعنفٍ شعرها، صيحات جذبن نسوة الحي. انضممن لها بالنحيب دون الصياح، ما هذا الضجيج المزعج؟

في مجلس الفاتحة لبس قناع الصابر، قناعاً من جلدٍ دقيقٍ لستر المشاعر، قناعاً سرعان ما ترهل وهَزُل ليعريه أمام الملأ مفضوحاً، ها هو عريان لا يعرف كيف يستر نفسه، في عزلة الليل الطويل وسكون الظلام، أن يا رب الصباح ما هذا الموت الطويل؟ أبكل ليلٍ تقبضني ببطء وفي النهار تبث في خراب الجسد روحاً مملة مهملة.

وحين عمَّ الصمت أرجاء المنزل خرج الأب ولم يعد

بعد بضعة أيام، رحل المعزون وبقي الساهرون، أم وحدها في المطبخ وزوجة شابة في عش زوجية خَرِبَة وأب في غرفة استقبال وحده، لم يطق سماع بكاء البنت البِكر لأبنه البِكر ذات الشهرين وذهول زوجته التي نسيت أن ثديها الصغير يدر الحليب على (خد) بنتها لا فمها مذهولة شاردة، لم تنتبه لا لبكاء طفلتها ولا نقوع ملابسها من درها ولا لطلوع صدرها، بل لم تنتبه لتواجد شبح الاب الناظر من عَتَبَة الباب المفتوح متفقداً حالها، طرق الباب فانتبهت، نظرت إليه فأحنت رأسها وهزته ثم طأطأت، طأطأ رأسه هو الاخر وأشاح بنظره وهمَّ منصرفاً، تكلمت العيون بما لا طاقة للألسن من نطقه، لا تدفع الكلمات الضيم، لا يخفف الكرب الكلام، لا يحيق الوجع الا بأهله، مضى وحيداً مختنقاً بعبرته، ضاق عليه النَفَس، طفحت رائحة الليل في الكون من جديد، نظر للسماء يرقب مغرب الشمس، خرج ليتمشى تلقاء الأفق الأحمر البعيد نهاية الطريق، من يومها لم يعد ولليوم.

فيديو مقال الخروج الأخير 

 

أضف تعليقك هنا