إلى أبي الراحل

بقلم: محمود طعمة

من ابنك الأصغر المدلل، من ابنك الذي يشبهك تماماً من السرير وأنا متلحف غطائي، من أنيني على وسادتي التي لا يسمعه إلا الله، من المحروم من كلمة بابا.. إلى الذي خانته صحته، إلى الذي حارب السرطان بصبره.. إلى الذي كان ولا زال قدوتي، إلى عمود وسقف عائلتي.. إلى الذي رحل في رمضان، إلى الذي أوكل إلى رحمة الله.

لا شيء يعبر عن ألم فقدك يا أبي!

شهيق متكرر بصوت متحشرج متعب يرافقهُ زفير طويل مهترئ من المحن؛ لا أعرف من أين أبدأ فيداي ترتجفان، يتكرر هذا الأمر معي مرات عديدة وأعاود المحاولة. يصعب علي أن أصيغ ما أريد وأكاد أجزم بأني اكتب وأنا في أصعب الحالات، سأكتب نعم ولكن هذه المرة الذي اكتب عنه لن يستطيع قراءة ما كتبت وها هو يعاودني مشهد الشهيق والزفير من جديد.

لا صدمة أشد من صدمة فقدِ الأحبة!

محاولة أخرى لعلي أنجح بتفسير ما أريد، علمتني الحياة دائما أن أهيئ نفسي للأمور السيئة لكي تكون الصدمة خفيفة على عاتقي، على حين غرة يرن هاتفي وأنا في العمل يرن على غير عادته في الرنين تكلمني فاطمة مكالمة فيديو وكالعادة صورة الفيديو غير واضحة واسمع صوتها تجهش بالبكاء لكن بشكل مكتوم تقول لي أن والداك متعب كثيراً، لم أفهم صوتها وقلت لها سأتصل بكِ مكالمة صوتية، قالت لي أن أبوك متعب جدا وأنا كررت لها نفس الجملة، باغتتني بجملة أنا آسفة أبوك ارتاح.. أبوك راح لعند ربه.. أنا آسفة.. ذهلت كثيرا نظرت إلى الهاتف هل هذا صحيح فعلاً. شهيق وزفير مع بكاء لكن هذه المرة بشكل أوسع وأكثر؛ أتكأ على إحدى زاويا الغرفة.. أردد حسبي الله ونعم الوكيل بشكل متقطع.. لم أستطع أن أكمل في نفس اليوم ما أردت وصفه.

أبي.. الرجل الصابر المحتسب عند الشدائد 

أبي الرجل الذي شهد ما عاشته الغوطة من أوجاع ومصائب، كان يعرف ويرى كل شيء ،فقد أبنه الأكبر وحفيده وصبر، كان كنز من الحقائق، اليوم رحل الرجل الذي كان شاهدا على آلام الناس، اليوم رحل عماد بيتنا، اليوم رحل الرجل الذي أنا قطعة منه، اليوم رحل حبيب وصديقي ومعلمي وأبي. منذ أن هجرت في عام 2018 وقبلته وقال لي الله معك يا ولدي ووعدني أن نلتقي ودعته رغم أنني متأكد جدا أنه وعدني باللقاء لكنه لم يحدد المكان.

كم أحنّ إليك يا أبي!

ها أنا أكتب في الماضي ولا أكاد أبالغ في استخدام أفعال الماضي كان وكنت. أحِنُ إلى الشاي التي كان يصنعها والدي شايٌ لذيذٌ بامتياز ، شاي ممزوجة بالحب والعطاء لونها رائق و دافئ كان يصنعها تحت أعواد الخشب يشعلها بالايمان والحيوية يضيف لها نكهة الأبوة الخاصة التي أفتقدها الآن ، كان يعدها لأجلي و كان دائما يملؤ لي كأسين لكي أشرب الاولى بهدوء وتكون الكأسة الأخرى تراجعت حرارتها و احتسيها بسلاسة أكثر ، كان يجعلني مميز بأصعب الظروف ، كان لا يكف عن الاهتمام بي ، كم يؤلمني الآن استخدم كلمة كان….. كان فعل ماض ناقص نعم ناقص من الأحبة، ناقص من كل ما خطتنا له في المستقبل ، ناقص من لقاءنا الآن يا أبي ، ناقص من الشاي والحب و الرضا و الكلمات الجميلة ، ناقص من كل شيء إلا من رحمة الله يا أبي.

أكثر تجربة حزينة هي رحيل الوالد

مؤلمة وحادة جداً جملة “أعظم الله أجركم” كانت مؤلمة على مسامعي، شعرت بأني لا أستطيع أن أحمله ثقلها فهي الآن تقال لأجلك يا أبي، لا أتكلم على فحوة الكلمة أبداً معاذ الله، لكن أتكلم على ثقل استخدامها ووقعها في نفسي. كان ذلك فقط في الدقائق الأولى وبعدها ربط الله على جأشي وأعانني على محنته، الآن وأنا بعيد عنك آلاف الكيلومترات أدعو الله لك دائماً أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة أنت ومن سبقنا الى رحمته تعالى وأسأل الله أن يبارك لنا ما تبقى من رمضان مغفور لنا أجمعين.

في أحايين كثيرة أتذكر هذا الكلام يا والدي

لطالما كنت أحب أن أسمع اسمي مهلهل على ثغري أبي، لا أحب أن أجيب من الندهة الأولى لكي أسمع صوته اكثر. يتكرر ذات المشهد في ذاكرتي عندما أعود إلى البيت تماما. كان يستقبلني أبي ويعرك راحتي كفي الباردتين بيده اللتان تغويا الدفئ، كلما كنت أكلم أبي اسأله كيف حال صحتك هل أنت بخير؟ والدي كان دائما في حالة عراك مع المرض, يجيبوني أبي أنا بخير يا ولدي الحمدلله الذي لا يحمد على مكروه سوى. والدي كما أصبح ثقيلاً كيس دوائك وفي كل مرة يزداد كيس الدواء حجاما ازداد قلقا، يأتي كلام أبي مقاطعا لكلامي ألم أعلمك الصبر يا ولدي.. الصبر مع الرضا هذا الذي يحثني عليه أبي قائلا لي: تذكر قوله تعالى: “إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب”.

والدي الذي كان يعلمني ويرشدني دائما، افعل هذا ولا تفعل هذا وفي ختامي كل مكالمة نتكلمها يختماها ب “الله يرضى عليك يا ولدي”..خمس سنوات وأنا منفى من بلدي أكلمه واشاهده وأسمع صوتها من شاشة الهاتف فقط كان المنى دائماً هو اللقاء عسى أن يكون لقائنا في جنان الخلد بإذن الله.

بقلم: محمود طعمة

 

أضف تعليقك هنا