نحن والآخر

نحن والعصر.. مفاهيمٌ ومصطلحاتٌ إسلاميّة

يأتي كتاب “نحن و العصر.. مفاهيمٌ ومصطلحاتٌ إسلاميّة” [146 صفحة] للدكتور ناصر الدين الأسد من منشورات وزارة الثقافة عام (2022) في خمسةِ فصولٍ تعالجُ قضايا مختلفة من فَهْمٍ إسلاميٍّ

المقدِّمة: [صفحة 7- 10]

يبيّنُ المؤلفُ أنّه يُخاطب في هذا الكتابِ عقولَ الشبابِ المسلمِ لقدِّم لهم فهْماً وتفسيراً من منظور اسلاميٍّ لعددٍ من المتغيرات و المستجدات والاشكاليات في الزمن الحاضر. و يُخاطِب كذلك عقولَ غير المسلمين لتعريفهم بحقيقةِ الإسلامِ اذ بعض مقالات الكتاب كُتبتْ في الأصلِ بالأنجليزية. يخطُّ المؤلفُ منهجهُ في معالجة القضايا اعتِماداً على القرآن الكريم والسنّةِ الصحيحةِ بشكْلٍ أساس مُشيراً في هذا السياقِ الى أنّ الفقهاء يدورون في ثقافةِ عصورهم دون المساسِ بالثوابتِ الأسلاميّة التي تجعلُ الإسلامَ ديناً واحداً. يعتزُّ المؤلفُ بدينهِ وثقافتهِ بشكلٍ واضحٍ، و يحثُّ على معالجة قضايا العصرِ من ثوابتنا الدينيّة و الثقافيّة.

الفصلُ الأوّلُ: نظامُ الحُكمِ في الإسْلامِ: [ص ١٣-46]

يشهدُ واقعُ المسلمين اليوم هجمةً منظمةً تهدِفُ إلى تشويهِ صورةَ الإسلام والمُسلمين من خلال عدّة أساليبٍ، أبرزُها: [أ] ربط الإرهابِ بالإسلامِ وتجاهل الأرهاب الصهيونيّ و المسيحي سواء الكاثوليكي أو الأرثوذكسي. [ب] دسُّ لفظ “الأُصوليّة” بمعنى سلبيّ و وسْمها بالإسلامِ و أهلهِ مع أنَّ اللفظَ في أصلهِ يدلُّ عندنا على علومِ ديننا التي يعتمدُ عليها الفقه كلّه. و هذا يتطلبُ منّا أن نلج العالم بقوةٍ بمشروعٍ انسانيّ حضاريٍّ يعرض الحقيقةَ و يستعملُ لغة العقلِ و الأسلوب الموضوعي من منطلق التكافؤ و النّدية. و هذا ما طبّقه على نظام الحكم في الاسلام على النحو الأتي: يؤكد المؤلف على أساسين هما (1) انّ الحكم النّزيه على الاسلام ينصبُّ على جوهر الدين نفسه لا على تطبيقهِ أو المُطبقين له. انّ مرجع الدين الثابت هو القرآن و السنّة، أمّا الأئمّة؛ فيؤخذُ منهم و يُرد. (2) ينبغي أن نتخيّر مصطلحاتنا اذ نستعل أحياناً مصطلحات تطابق الدين في صفات و تناقِضه في أُخرى. يردُّ البعضُ مثلاً ‘اشتراكية الأسلام’ التي تلتقي معه في لمحاتٍ اقتصاديّة لكنّها في الحقيقة مذهب اجتماعيّ اقتصاديّ متكامل لا يجوز تقطيعه و اسقاطه على الاسلام. و نقول أيضاً: أنّ الاسلام دينُ السّلام، و هو كذلك، و لكنّ لابد أن نعي هذا السّلام و لا نتعسّف في استعمالهِ. و يجري ذات الشيء على ألفاظٍ مثل الديمقراطية و الأصوليّة و الحكم البرلماني و الدستور و الثيوقراطية و الحرب الدينية و غيرها. فكلّها ألفاظ لها دلالات نشأت و تطورت في بيئةٍ ثقافيّةٍ و اجتماعيّةٍ خاصةٍ منحتها ضلالاً نفسيةً و أبعاداً معنويةً لا يجوز نقلها الى واقع غريب عنها. و هذا ما يدعونا الى دراسة أصول الأسلام و استنباط الحلول منها لمشاكل العصر. ينفي الأسلامُ مثلاً وجود حكومة دينية فيه حسب الفهم الغربي يسيطر فيها رجال الدين على حياة الناس مثل سيطرة القساوسة و المطارنة على شؤون السياسة و الحياة. اذ لا توجد في الأسلام طبقة رجال الدين أو كهنوت أو كَنَسيّة بل يوجد علماء مفسرين و محدّثين و فقهاء ليس لهم رتبٌ رسمية أو سلطة دينية أو سياسية. و توجدُ شواهد كثيرة على رفض هولاء العلماء اعتبارهم وحدهم أهل الحقيقة دون غيرهم. فما شأن رئيس الدولة في الاسلام؟ تبرز هما ملاحظتان هما: (1) لم يُحدّد القرآن الكريم و لا السنة الصحيحة منصب الحاكم، و لم يكن للحاكم منصب ديني، و ليس في الاسلام لقب محدد للحاكم. و ما تسميات مثل الخليفة أو أمير المؤمنين الا تسميات لغوية تشير الى تعاقب الأسر الحاكمة بعد وفاة الرسول عليه السلام. (2) لم يحدّد القرآن و لا السنة النبوية طريقة اختيار الحاكم. فقد اجتمع كبار الصحابة عقب وفاة النبي عليه السلام في سقيفة بني ساعدة، و رشّح عمر أبا بكر بعد جدال، فتمّت له البيعة من الحاضرين ثمّ من جموع المسلمين. و رشّح أبو بكر عمر و بايعه المسلمون، و رشّح عمرٌ ستّةً من الصحابة يختاروا منهم حاكماً الا ولده عبدالله، فرشّحوا عثمان و تمت له البيعة. و هذا يبيّن أنّ طرق ترشيح الحاكم متعدّدة لكنّها غير ملزنة بل يستلم الحاكم سلطته عن طريقٍ واحدٍ هو “البيعة” التي اختلفت صورها عبر الأيام. فالحاكم واحد من البشر يختاره البشر و يستمدُ سلطته منهم و ليس له قداسة، فسلطته من الأمة بالبيعة أو الانتخاب. بل رأى بعض الباحثين مثل د. محمد دواليبي في كتابه ‘الدولة و السلطة في الاسلام’ أنّ السلطة المدنية و الدنيوية للرسول عليه السلام انّما كانت نتيجة مبايعة المسلمين له أكثر من مرّة و ليس نتيجة سلطة دينية. فهو بشرٌ عليه البلاغ و التذكير برسالة الله و وحيه. و بهذا، تكون البيعة حق من حقوق المسلمين السياسية (رجال و نساء، أحرار و عبيد) على عكس الديموقراطية الأوروبية و الأمريكية الى عهد قريب. و تجدر الملاحظة، أن طرق البيعة و صورها لم تتحدّد انما هي شأن المسلمين يحددونها بما يناسبهم. ثم أنّ الشورى تعدُّ ركيزةً أُخرى تدل على بشرية السلطة في الاسلام. اذ ذكرها القرآن صراحةً و تلميحاً و مارسها الرسول عليه السلام و الصحابة الكرام. و لم يحدد الأسلام أُطر و وسائل معينة لها بل تركها لاجتهاد المسلمين شريطة أن تكون الشورى في الأمور التي ليس فيها نصّ قطعي الثبوت و الدلالة؛ أي الشريعة الاسلامية. اذ الشريعة أحكامٌ عامةٌ يُقصدُ منها جوهرها و معناها دون تحديد صورةً واحدةً واضحة المعالم تتحقق بها. فالبيعة و الشورى و العدل أحكام عامة تتحقق صورها حسب اجتهاد المسلمين. و تعدُّ أحكام العقوبات و منها أحكام الحدود من الشريعة. اذ هي احكام ينفذها وليُّ أمر المسلمين فقط في ظل حكومة اسلاميةٍ في مجتمع اسلامي بعد أن تتوافر لها اركانها و شروطها. فلم يقطع عمر يد السّارق عام الرّمادة بسبب انتشار الجوع بين المسلمين. فالشريعة بهذا الفهم واسعة مرنة تقبل مستجدات الزمان و المكان ما يجعل من المستغرب نفور البعض منها في حين يقبلون شريعة حمورابي أو صولون أو نابليون. فان كان موضع النقد ‘الاعتقاد بجمود الشريعة الأسلامية’ فهذا اعتقاد باطل، فهي تعطي كليات صالحة و أُطر عامة و تترك للعلماء و الفقهاء التّحرك داخلها ليستجيبوا لحاجات المحتمع و متغرات العصر. تكون الشريعة اذن بما فيها من احكام و مبادىء و توجيهات و كليات روح و منهج فكري و نفسي يستمد منهما العلماء و الفقهاء القوانين المناسبة “الفقه” المتغيرة. يقرّ نظام الحكم في الاسلام اذن انتخاب الناس لرئيسهم، فهو ليس ظلّ الله في الأرض و ليس له سيادة دينية. و يقوم حكمه على المشاركة الشعبية عن طريق الشورى حسب الشريعة التي هي نظام ثقافي و حضاري كامل يختلف في روحه مع الديموقراطية التي تتعدّد ايضاً صورها و تطبيقاتها.

الفصل الثاني: الأقليّات في الإسلام [ص ٤٧- 70

يُوجّه النقد الى الأسلام من باب الأقليات بسبب الجهل أو الخطأ في تطبيق الأسلام، و هذا يُوجِب علينا بيان الحقيقةِ حسب القرآن و السّنة (دستور الأسلام الثابت) الذي يختلف عن الفقه (القانون المتغيّر حسب الاجتهاد). انّ لفظ “الأقليّات” غريبٌ عن الأسلام و روحهِ، فلم يستعمله المسلمون بل استعملوا لفظ “أهل الذّمة” الذي يشمل كل شخص غير مسلم. فالأقليات و أهل الذّمة لفظان غير متطابقان لأن الأسلام لا يقرُّ في جوهرهِ بوجود أكثرية و أقلية. فلا يوجد في الأسلام أقلية عِرقيّة و ليس لها مصطلح خاص أو نظام اجتماعي مستقل طالما أنّ أفرادها مسلمون. فقد حضن المجتمع الاسلامي سلمان الفارسي و صهيب الرومي و بلال الحبشي معاً. و لكن يدلُّ لفظ “أهل الذمة” على الأقليات الدينية؛ و هذا اللفظ تعبيرٌ جميلٌ له دلالة رفيعة ليس فيها ضلالا سلبيّة، فهو يعني أنّ هولاء الغير مسلمين داخل المجتمع الأسلامي في ذمّة الله و رسوله، و لكن نفور المواطنين المسيحيين اليوم من هذا اللفظ هو مَن دفع المسلمين الى هجره و استعمال بدلا منه لفظ “غير المسلمين”. يتفرّع موضوع الأقليات الدينية في الاسلام حسب المؤلف من عدة أصول، هي: (1) وحدة الأنسانيّة أو وحدة النوع الأنساني؛ فكل البشر حسب الاسلام من نفسٍ واحدةٍ دون أي فرق. (2) وحدة الدين من عهد نوح فابراهيم الى رسول الله، فالأديان المتعاقبة هي دين الله الواحد يتوجب على المسلمين الايمان بجميع الأنبياء و الرُّسل و الكتب المقدّسة و رفض التعصُّب. (3) حرية العقيدة، فلكلٍ عقيدته و لا يصحُ اكراه انسان حسب الاسلام على عقيدةٍ معينةٍ. فليس للمسلم أن يظن في نفسه القدرة على هداية الناس او الحكم عليهم أو حسابهم. فقد حدّد القرآن الكريم دور النبي عليه السلام و المسلمين من بعده في التذكير بدين الله و تبليغه، و تبقى الهداية و الحكم و الحساب بيد الله وحده. فلا يقبل الأسلام العدوان على عقائد الأخرين، و لا يقبل العدوان على عقيدته و لهذا أمر بالجهاد لردّ العدوان و ازالة العقبات أمام حرية العقيدة بمقدار العدوان دون تجاوز او بطش. (4) العدل في التعامل مع جميع البشر بصرف النظر عن دينهم و أعراقهم و ثقافاتهم.(5) الحفاظ على الحرية و الكرامة الأنسانية لجميع الناس في المجتمع الاسلامي. اذ تسمح وحدة النظام الاسلامي بتعدّد الأجناس و الأديان و اللغات و الثقافات على أساس حرية و كرامة الجميع. فقد خلق الله تعالى أباهم آدم و سوّاه و نفخ فيه و سجدت الملائكة له، و كرّمهم الله جميعاً بخِلقَتهم و حملهم في البر و البحر. و من شواهد الحرية و الكرامة انتصار عمر بن الخطاب للقبطي من ولدِ ابن العاص و غيرها الكثير. ينتفي بهذه الأصول الخمسة وجود أكثرية و أقلية في الاسلام الموجودة في النظام الغربي، فهم جميعاً جسم واحد في أمة واحدة، كل منهم مواطن فيها، و مثال ذلك المدينة في عهد الرسول عليه السلام و الصحابة من بعده. فالمسيحيون هذه الأيام مواطنون في الأمة يشتركون بالجيش دفاعاً عن الوطن طائعين مختارين تحقيقاً لمعنى المواطنة و المساواة، و يدفعون الضرائب مثل المسلمين و ليس في هذا ما يخالف الشريعة الاسلامية. تعدّدت تطبيقات هذه الأصول الخمسة، منها مثلاً: (1) وقوف الرسول عليه السلام لجنازة يهودي، و قال: أنها نفس. (2) أقرار خالد بن الوليد لأهل الذمة مالاً من بيت مال المسلمين في حال الشيخ الضعيف أو الأصابة بآفة أو الافتقار. (3) اعطاء عمر بن عبد العزيز لأهل الذمة من مال المسلمين. (4) صار من أهل الذمة وزارء و كتّاب و علماء و أطباء و فلاسفة. (5) جعل النبي عليه السلام يهود المدينة أمة من المؤمنين لهم دينهم و حقوقهم. بالمجمل، وضعت الشريعة الأُطر العامة و تركت التفاصيل لما يناسبها عبر الزمان و المكان في قضية التعامل مع الأقليات الدينية داخل المجتمع الاسلامي. فلا يمنع مثلا بمواطنة المسيحيين داخل المجتمع الاسلامي و حقوقهم مثل المسلمين الا فيما يخص العقيدة و الأحوال الشخصية. اذ تؤخذ الزكاة من المسلمين وحدهم لانها فريضة اسلامية بينما يدفع غير المسلم من المال ما هو مفروض على المسلم المواطن، فالجزية تعني لغةً البدل و العوض و المقابل، و تعني اصطلاحاً مالاً من غير المسلم لقاء حرية الاعتقاد و الحماية. تُفرض الجزية على القادرين الذكور فقط في الاسلام. و يُعفى منها الفقير، مَنْ افتقر بعد غنى، و العاطل عن العمل، و العاجز عن العمل، و الفاقد لعمله، و لا تُؤخذ الجزية في حال عجزت الأمة عن حماية غير المسلمين أو في حال اشتركهم في الدفاع عن دار الاسلام مع المسلمين. و تجدر الأشارة، أنّ لفظة “صاغرون” في سياق الحديث عن دفع الجزية لا تفيدُ الخضوع و الذلّ للبشر بل تفيدُ الخصوع و الاستسلام لله و لأحكام الاسلام بل أن المسلمين أنفسهم يخضعون لله وحده. و هذا يُوجب التنبيه الى خطورة قلب الدلالات اللغوية للألفاظ و ضرورة ابانة الفرق بين حقيقة الاسلام و أخطاء الفهم و التفسير و أخطاء التطبيق. ثمّ انّ الجهاد فريضة اسلاميّة تُلزم المسلم وحده على القتال في حال الاعتداء على المسلمين و حرية عقيدتهم أو اثارة الفتنة بينهم بينما يدفع أهل الذمة الجزية لقاء حمايتهم و عدم اشتراكهم في الجهاد. و يمنحهم الاسلام حرية ممارسة عباداتهم و تطبيق احوالهم الشخصية شريطة عدم العدوان. و في هذا كلّه منظومة متكاملة لحقوق الانسان في الاسلام نابعةً من ثقافة عريقة؛ و هذا ما يدفع الجميع الى التفاهم و التعايش بين الناس في هذا الكوكب.

الفصلُ الثالثُ: المرأةُ في الإسلامِ

تأثرَ المسلمون – حسب المؤلف- بأراءِ الغربِ حول موقفِ الاسلامِ من المرأةِ و غيرها من القضايا ما يُوجب علينا دراستها بشكلٍ علميٍّ سليمٍ يبيّنُ موقف الأسلام الصحيح في القرآن الكريم و السنة الثّابتة و ممارسات الصحابة و المسلمين على مرّ العصور. و و يرى المؤلف بمساهمة المسلمين من غير العرب في اظهار المرأة المسلمة في غير صورتها الصحيحة، و يظنُّ أنّ ذلك بسبب تأثّرهم برواسب ثقافاتهم قبل الاسلام التي ألقت ظلها على الفهم الاسلامي. نظر الاسلام الى المرأة نظرةً مساويةً للرجل في غير الأمور المتعلقة بتكوينها الجسدي الأنثوي. فالرجال و النساء من نفسٍ واحدةٍ، و هنّ شقائقُ الرجال حسب الاسلام، و لهن حقوق مفروضة و عليهن واجبات دينية مساوية للرجل على أساس أنّ العمل الصالح للرجل و المرأة هو أصل الجزاء عند الله تعالى. فلم تكون المرأة هي مَنْ أغرى آدم و أخرجَهُ من الجنَّةِ أنّما وقعتْ مثلَهُ ضحيةَ الأغراءِ و الوساوسِ، و لمْ يعْتَبرُ الاسلامُ المرأة خطيئةً و لا يعدّها سبباً لها. لقد أعطى الأسلام للمرأة حقوقاً عديدةً و رفع عنها أنواع الظلم كانت ترزح تحتها قبل الاسلام. فقد نظّم شؤون خطبتها حتى و هي مطلقة، و نظّم شؤون زواجها، و حثّ على ايتاءها مهرها، و أمر الزوج أن يُحسِن اليها و حتى طلاقها باحسانٍ، و نظّم أمور الطلاق و وقته و عدّته، و أمر بعدم وضع الحوائل لمنعها من الزواج مرةً أخرى، و لها الحق أنْ تُطلّقَ نفسها أو أنْ تشترط  لنفسها العصمة، و لها مالها و تجارتها، و لها حق المشاركة في الحياة السياسية و الاجتماعية و العلمية، فلها الحق في البيعة و الشورى و الحرب و رواية الحديث و تفسير القرآن و التدريس. فقد بايعت المرأة النبي عليه الصّلاة و السلام في بيعة العقبة و بيعة الرضوان و يوم الفتح و حجة الوداع، و جادلت المرأةُ النبي عليه الصّلاة و السلام في أمرٍ صدر من زوجها، و غلّب عمر رأيها على رأيه، و شاركت بالغزوات سواء بالقتال أو التَطبيب و تقديم الطعام، و أخذت العلم عن النبي عليه الصلاة و السلام و المسلمين من بعده، و منهن كانت لها صنعة مثل ريطة بنت عبد الله بن مسعود، و منهن نساء تواجر؛ اذ أَباحَ العلماءُ “الاختلاط” مع ضوابطِهِ، لكن حرّموا “الخلوة”. و تذكرُ كتبُ التراثِ حوادثاً كثيرةً على حريةِ المرأة و استقلالها. و هذا كلّه عكس ما تصوِّره الدعايةُ الغربية بأنَّ مجتمعَ النساءِ المسلمات مغلقٌ يقومُ على الجنس و نظامِ الحَريم. ينوّه المؤلفُ الى ضرورةِ أن نأخذَ نظام الاسلام بشكلٍ متكاملٍ تجاه المرأة لا أن نقطّعه تقطيعاً لأن ذلك يؤدّي الى سوءِ الفَهمِ، و من أمثلة النّظرة الجزئية: (1) النّظر الى موضوع الأرث على أنّه انتقاص للمرأة من كون الأسلام يُعطيها نصفَ الرجل. و لكن هذه حالة واحدة فقط من حالات الأرث المتعدّدة؛ و هي بأنْ يكون للميِّتِ “رجال و نساء أخوة” أمّا غير ذلك فيتساوى نصيب الرجل و نصيب المرأة أو يختَلف نصيبهما حسب القرابة من الميت و حسب عدد الوارثين. كما ينطوي اعطاء المرأة نصف نصيب الرجل في حالة الأخوة على حكمةٍ تتمثّل في أنَّ الرجلَ مسؤولٌ عن رعاية المرأة بينما للمرأة مالها و هي غير مكلّفة بالانفاق منه على الرجل. (2) تُدلّ القوامة واجب الرجل في رعاية المرأة. و تنحصر القوامة في البيت و في مجال الأسرة و لا تشمل أحوال الرجال و النساء عامة؛ فالرجل هو القائم على رعاية البيت، فله الحق، بل عليه واجب القوامة. أمّا التفضيلُ الواردُ في آيةِ القوامةِ فهو تفضيل في بسْطةِ الرزقِ و القدرةِ على الانفاقِ. فمهما بلغتْ المرأة من الثروة، يبقى الرجل بنظَرِ الشّرعِ المكلّف بالانفاق و القوامة في بيته. و  هذا ما تذهبُ اليه معاجمُ اللغة و كتب التفسير، اذ تفيدُ بأنّ قوامة الرجل قيامه بالانفاق و رعاية المرأة و لا السيطرة و الطغيان. بل رأى مذهب مالك و الشافعي أنه اذا عجز الرجل عن الانفاق على زوجته لم يكن قوّاماً و بذا يحقُّ لها فسخُ العقد. (3) و يُبتَرُ أيضاً قولُ النبي عليه الصلاة و السلام عن النساء بأنّهن ناقصات عقل و دين عن سياقه. فلما لا يكون هذا القول النبويّ من قبيل المُلاطفة و المُداعبة مثل فعل في حديثٍ آخر! فقد مَزَح النبي عليه الصلاة و السلام مع عجوزٍ بقولهِ لها: لا تدخل الجنّة عجوز، ثمّ أوضحَ بأنُّ المؤمنةَ الصالحةَ تعودُ الى شبابها في الجنّة. و لا يُقصَدُ من هذا القول أنْ يكون حكماً تشريعياً عامّاً تعمُّ النساء في طبائعهن. اذ لا يستقيمُ المعنى السلبي لهذا الحديث مع حال خديجة و أمهات المؤمنين و فاطمة و غيرهن مِمَّنْ لهُنَّ مواقفَ من العقل و الدين. وردَ هذا القول النّبويّ في حادثةٍ معيّنة، هي مرور النبي عليه السلام على نساء في مناسبة عيد أضحى أو فطر فقال: “يا معشر النساء ما رأيت من ناقصات عقل و دين أذهب للُبّ الرجل الحازم من احداكن… “. (4) فاذا صحّ هذا الفهم للحديث فلا يُلتفتُ الى ما رتّبهُ بعضهم عليه من أحكام على المرأة بعدم توليتها مناصب الولاية و القضاء. يرى بعضهم أن عدم تولية المرأة مناصب الولاية يعود لحديث: لا يفلح قوم ولّوا أمرهم أمراة”. و هو حديث صحيح حسن و لكن هل دلالته ظنية أم قطعية! و هذا ما تركه المؤلف لرجال الحديث و الفقه. ثم عرض المؤلف مواقف متعددة لهذه المسألة، منها: اجاز ابو حنيفة للمرأء القضاء في غير الحدود، و أجاز ابن جرير لها ذلك باطلاق، رأى ابن حزم الظاهري عدم اشتراط الذكورة لتولي القضاء و أن الحديث يقصد أمر الخلافة كلّه. أشار المؤلف الى أن هذا الحديث لم يرويه الا ابو بكر نفيع بن الحارث بن كلوة وحدهُ في مناسبة هلاك كسرى و تولي ابنته، و ذكر أيضاً بأن هذا الحديث قد وردَ بصيغٍ مختلفةٍ، ففيه [ولّوا، اسندوا أمرهم، تكرّر الحديث بلفظ: تملكهم، ذكر ابن حنبل حديث آخر يشبهه في صيغة أخرى و مباسبة مختلفة]. لم يجتهد المؤلف في التفسير انما ترك الأمر الى الفقهاء حتى يجمعوا كل تلك الصيغ و سندها و يفسروها التفسير السليم. (5) و يُنْظرُ الى قضيةِ تعدد الزوجات في الاسلام نظرةً جزئيةً. فقد كان هذا النظام متّبع في أكثر الديانات و الدول السابقة دون أي ضبط ثم جاء الاسلام فجعله محدّداً بأربع زوجات فقط. و لا يعتبر الاسلام الاقتصار على زوجه واحدة أمر ملزم بل هو متروك لأمر المسلم و حاجة النساء و أحياناً حاجة المجتمع. و يشترط هذا النظام العدل الماديّ في الانفاق و المعاملة، و بذلك تكون المرأة مصانة و ليس ساقطة لها خليل أو عشيق. (6) و يُبتر كذلك موضوع الحجاب في الاسلام. اذ ليس في الاسلام زي خاص بالمرأة بل توجد أوامر تحترم انسانية المرأة و جسدها من التعري. و يحدّد الاقتناع الشخصي (و منه الايمان) و العُرف و تقاليد المجتمع أنواع ملابس المرأة و أزياءها. أليس من الحرية أن تُترك لكل ثقافة أن تختار ما يناسبها من ملابس دون سخرية منها أو العمل على منعها؟ فما نقول بلباس الراهبات أو غطاء رأس الأوروبيّات في مواقف الحداد و حين يُقابلن البابا؟ انّ غطاء بعض النساء المسلمات وجوههن أو اخفاء ايديهن كاملة أو عدم حديثهن بمسمعٍ من الرجال حالات فرديّة لا ننكرها على مَن تريدها. و يرفض المؤلف محاولة بعض المذاهب الدينية باسم الدين اكراه النساء على ملابس و أزياء و تصرفات معينة مع الأشارة أن مثل هذا الاكراه له أمثلة عند بعض مذاهب اليهودية و المسيحية و في الغرب و اميريكا. و بعد كل ذلك نسأل: ما هي الحقوق التي توفر للمرأة حريتها و مكانتها التي يمنعها الاسلام في القرآن الكريم و السنة الصحيحة و ممارسات الصحابة و المسلمين الأُول؟ لقد أورد بعض الفقهاء أراءً فقهية تصطدُم حريةَ المرأة و مكانتها و لكنها فهم شخصيّ و مواقف خاصة، صحيحها صحيح و فاسدها فاسد. و معيار الصحة و الفساد هو الاحتكام الى كتاب الله و السنة النبوية الثابتة. و يؤكد مجدّداً هنا على ضرورة التفريق بين الشريعة باعتبارها دستور الاسلام الثابت الذي يشمل الأحكام و الأُطر العامة و بين الفقه الذي يتمثّلُ في القوانين البشريّة المتغيّرة.

الفصلُ الرّابع: الكرامةُ الإنسانيّة – جذورها التّاريخية ومخاطرُ التطرّف: 97 – 112

كرّمَ الله تعالى بنصِّ القرآن الكريم الإنسانَ عموماً دون حَصرهِ في دينٍ أو عرق. و يقوم هذا التكريم و التفضيل بالطّبعِ على أسبابٍ و وسائلٍ اقترنت به؛ يتوسّلُ بها ليحققَ المكانةَ التي أرادها الله له، و يرتّبُ عليه أيضاً مسؤوليات و تبعات. ومن أسباب التّكريم: أنْ يكون الأنسانُ خليفةُ الله في الأرضِ والسمواتِ. ومن أجلِ ذلك، خلقَهُ الله من ترابٍ و سوّاهُ و نفخَ فيه من روحِهِ و علّمَهُ البيان و منَحَه العقلَ و حثَّهُ على التفكِّرِ و التدبّر. و خلق الله تعالى لفائدة الأنسانِ و استعماله جميعَ ما في الأرض و السموات و جعلها مُسخّرةً له. و أطلق الله للأنسانِ العنان في البحث و التدبّر في نفسِه و آفاقِ الكون بما أتاهُ من أسرار العقل. و أباحَ للأنسانِ الخطأ في التفكيرِ و الاجتهاد ما دام سليم النيّة. و يترتّبُ على هذا التكريم: أنْ يشقى الأنسانُ في حمْلِ الرسالة و يكابدُ في سبيلها. و هو ملزمٌ بواجباتهِ في العقائد و العبادات و شؤونِ الحياةِ كلّها. و هذا يؤكدُ على قيمةِ الأنسان و كرامتِهِ، و يؤكّدُ على دحضِ التعصّبِ و التقتيل. و قد وردت أيضاً ملامحُ تكريم الأنسان في التوراة بمعانٍ تطابقُ ما ورد في القرآن. ما يؤكّدُ وحدةَ الدين الذي يُقرُّر كرامة الأنسانِ و يرفضُ الطائفيّةَ التي تنتهكُ كرامة الأنسانِ.   تمثّلُ الطائفيّةُ التمزقَ و الافتراقَ و اهدار الكرامة داخل الدين الواحد، و هذا ما نهى عنه الله تعالى و ذمّه. فقد وقعت الفُرقةُ في تاريخِ اليهوديّة و المسيحيّة و حوّلتهُما الى فرقٍ و مذاهبٍ. و جاءَ الأسلام مُحذِّراً من هذه الفُرقةِ، و لكنّ وقع المسلمون بما وقع فيه مَنْ سبقهم، فأصبحوا فِرقاً و شيعاً و مذاهباً. بل اشتطَّ بعضُهُم و خرجوا عن الأُصولِ الجَّامعة، فأصبحَ الاسلامُ أدياناً كما حدثَ لليهوديّة و المسيحيّة، و تباعدت تلكَ المذاهب و كفّرتْ بعضُها بعضاً و وقعتْ بينها الحروب بسبب بعضِ الحُكّامِ من أصحابِ المصالحِ و بعض المَشايخِ الذين أعمَاهُم حُبُّ الدُّنيا. لم تكنّ الطائفية في الحقيقة تنوعاً داخلِ أطارِ الوحدةِ و الأصولِ على يدِ علماء أتقياء بل انَّ الخلافات في أصلها كانت سياسيّة لبعض الجماعات و الحُكّام رغم أن الاسلام ينكِرُ وجودَ طبقةَ رجال الدين أو الأكليروس. انّ الدين كلّه لله، و الناسُ كلُّهُم خلقُ اللهِ عبادُهُ، و لا يَقْبلُ اللهُ لخَلقِهِ و عبادِهِ أنْ يختَصِموا و يتقاتَلوا باسم الدّين الا في اطارِ ردِّ العدوان و دفع الظلم. أَمّا ما غير ذلك وسيلته الحوار بآدابه كما في القرآن. لم يُجزُ الاسلامُ الابتداءَ بالعدوانِ، و أقرَّهُ على مقدارِ العدوان دون بطشٍ. و حثَّ على الحوارِ بالحكمةِ و الموعظةِ الحسنةِ. و حثَّ على الصَّبرِ و العفوِ و التَّسَامحِ. فلا يجوز أنْ يقتلَ طرفٌ طرفاً أٓخراً لأنّه يُخالفُهُ في دينهِ أو مذهبهِ أو يرى غيرُ رأيه، و لا يجوزُ الافتاءَ بقتالِ هولاء المُسَالمين. فقد شرعَ الأسلامُ الجهادَ فريضةً لمُقاتلةِ العدو المُحارب الغازي بما يُوجِب الدِّفاعَ عن العقيدةِ و حريتها و تحرير دار الأسلام. تناولَ المؤلفُ في ختام الفصلِ مثالاً على منهجيّتِه في التعاملِ مع المصطلحات. اذ تجنّب مصطلح “الأصوليّة” و استعمل بدلاً منه ألفاظاً مثل المغالاة أو الغلو و التشدّد أو الارهاب. رأى أنَّ معنى الأصوليّةِ غريب عن لغتنا و عن ديننا، فهو عندنا من المعاني المستحسنة التي تدلُّ على أنواع من العلوم و التخصّص فيها مثل أصول الفقه، و أصول الدين. أمّا حقيقة هذا المصطلح في العربية اليوم فهو ترجمة لمصطلح أجنبيّ نشأ في ظلالِ اليهوديّة و المسيحيّة بسبب تعصّبِ نفرٌ مِمَّنْ يدينون بهما، فنشأ الارهابُ في طوائفهما ثم انتقلَ الينا بمعناهُ السلبيُّ في السنوات القليلة الماضية. و هكذا يتّضحُ لنا – في خِتام هذا الفصلِ- الفرقَ الواسعَ بين كرامة الأنسان كما أرادها الله، هذه الكرامة التي تمتدُّ عميقاً في الدّين عبر أحكامٍ عامةٍ مُطلقةٍ تشملُ الأنسان دون أي فرقٍ، و بين الكرامة الأنسانيّة عند الطائفيين التي يتهدّدها التعصّبُ والارهابُ ولا تكون لها ولصَاحِبِها قيمةً إلا بمقدارِ انتماءِهِ للطّائفَةِ

الفصلُ الخامسُ: الإسلام والثقافة العربية في عالمٍ جديدٍ: صفحة 113-146

للثقافة العربية خصائِصُها، و تشترك مع الثقافات الأخرى في خصائصٍ عامّةٍ. يرى المؤلّف أنّنا نحتاجُ من أجلِ بحثِ هذه الخصائصِ الى النَّظرَ في: (أ) منهج مسيرة الثقافة (ب) المحتوى الذي يجمع ميادين تعبيرها (ج) تطبيقات المنهج و المحتوى على مرّ العصور. و هذا ما وضّحه المؤلف كالأتي:

أ] انّ منهجَ الثقافة العربية مستمدٌّ من روحِ الإسلام ونظرتهِ الى الأنسانِ و نشاطاتِهِ. و تتمثل برأيِهِ معالمُ هذا المنهج في “تكوين الأسلامِ عقل المسلم و وجدانه و ثقافته و شخصيّته” عبر أساليبٍ متنوعةٍ، منها: (1) نقل حالة الأمة العربيّة من الشفاهيّة الى الكتابيّة. اذ لم تُشِع الكتابةُ عند العرب و لكن عندما جاء الاسلام حثّ على الكتابة و التدوين و ذكر في القرآن أدواتها و أَقسَم بها. (2) تستتبِعُ الكتابيّةُ بصفتها ظاهرة لغويّة و فكرية بالضّرورةِ نشر الوعي العقلي. اذ حثّ القرآن كثيراً على التفكير و التدبّر و التأمّل، و هذا ما ساهم في تشكيل ثقافة المسلم و شخصيته على هذا النّشاط العقليّ. (3) اطلاق العقل من اغلال الخرافات و تحريره من الأوهام. فالكون له سنن تسيّره و على المسلمين اكتشافها و استثمارها حسب القرآن و السنة. (4) الفهم الصحيح للنصوص و ليس فقط ترديدها، و ربط العلم بالعمل. (5) عدم الاقتصار على قراءة كتب الأقدمين و التسليم بصحة ما فيها و تكرارها بل لابد من فحصه و تمحيصه. (6) عدم الانخداع بالحواس و الاعتماد عليها وحدها في، و هذا ما أكده الجاحظ بوضوح. (7) التجربة و التحليل و الاختبار. رأى بعضهم أنّ التفكير اليوناني و التفكير العربي متشابهان من حيث التركيز على الخبرة المنظمة عقلياً بينما رأى أخرون أن التفكير العربي كان يقوم على الاستقراء و التجربة بينما التفكير اليوناني تفكير استنباطي يضع الكليّات ثم يطبقها على الواقع. و لكن المهم هنا أنّ العرب عرفوا التحليل و الاستقراء و التجربة العلمية. هكذا، حينما يصل الأنسان الى هذه الحالة من الاستعداد العقلي و العلمي الذي بناها الأسلام فأنه يصبح مؤهلاً لاكتشاف أسرار نفسه و أسرار الكون بفضل الله و توفيقه. و حتى تكتمل تلك الأساليب، أسقط الله تعالى محاسبتهم على أخطائهم في التفكير و الاجتهاد ما دامت نياتهم سليمة حتى يعملوا بحرية دون خوف أو تردّد في حمل أمانة الاستخلاف و تسخير الكون. و حثّ الله أيضاً الأنسان على البحث و الاجتهاد و جعل له بذلك الأجر و الثواب. و هذا كلّه ما يطلق يد العالِم في البحث و التفكير بطمأنينة. و قد أصبح هذا المنهج بمعالمه و أساليبه من خصائص الثقافة العربية فاكتشفت العَالم و رفدت النهضة الأوروبيّة التي قامت على منتجاتها. [ب] يقوم محتوى الثقافة العربية على قاعدة علمية واسعة لها ثلاثة أسس أصيلة هي: (1) أنشأ المسلمون علوماً لأنفسهم خاصةً بهم من داخل دينهم مثل علم الفقه و الأصول و التفسير و القراءات و الحديث و مصطلحاته و رجاله، و أصول الدين، و السير و المغازي. و تفرّعت هذه العلوم الى فروع، قطعوا فيها أشواطاً بعيدةً في النظر العقلي. و بهذا، تأصل فيهم من أنفسهم روح العلم و مفاهيمه و تقاليده. (2) قام المسلمون ببناء علوم أصيلة خاصّة بدينهم و أٓدابهم. فنشأ عندهم النحو و الصرف و المعاني و البديع و البيان و علم اللغة و العروض و القوافي و رواية الشعر و الأنساب و الأخبار. و كانت هذه العلوم متكاملة مترابطة مع العلوم سّابقة الذّكر بحيث تشكّل من هاتين المجموعتين من العلوم قاعدة العلم الأسلامي و أصوله الثقافيّة لكل طالبٍ و لكل باحثٍ تطبيقيّ. (3) بعد تشكُّل القاعدة الفكرية الثقافية من داخل دين الأسلام و حياة المسلمون، شرع المسلمون في الأتصال بعلوم الأمم الأخرى، فالحكمة صالة المؤمن يتلمّسها أنّى وجدها؛ فأخذ العرب يترجمون مؤلفات الأمم الأخرى الى العربية في كل صنوف العلم، و علّقوا عليها، و ردوا عليها و صارت من بين التراث الضخم الذي نقله الأوروبيون الى لغاتهم و انتفعوا به في بناء نهضتهم. لم ينتقل العلم الى الانتشار الا بعد أن ترسخت عند العرب المسلمين أسس قاعدة العلم الاسلامي العربي. فلم يقفزوا الى الترجمة الا على أساس كيان فكري أصيل و لولا ذلك غزاهم العلم المُترجم و طمس شخصيّتهم. و لم يكن علمهم فقط في العلوم الدينية أو الأدبية و اللغوية بل شمل كل صنوف العلم مستندين بذلك على أمر الله و توجيهه الى النظر في نفس الأنسان و آفاق الكون بل من الأجدار أن يكون العلم واحداً ليس فيه ديني و دنيويّ. و هذا ما فهمَهُ سلفُنا بدليل براعة العالم المسلم بأكثر من علم. يشمل اذن محتوى الثقافة العربية كل صنوف العلوم و فروعها، اذ برز بها علماء مسلمون احتلوا مكانةً عالميةً. و من اللافت أنه اشترك في هذه الثقافة أجناس و أعراق و ألوان و أديان مختلفة في اطار روح الاسلام و مناخ علميّ واحدٍ تقريباً. و تكامل في هذه الثقافة علوم الدين و علوم اللغة كأساس تُبنى عليه الفنون و العلوم البحتة و العلوم التطبيقية. و هذا ما تجسّد بوضوح في أعمال أخوان الصفا و الفارابي و ابن رشد و ابن سينا و غيرهم. [ج] مرتّ الثقافة العربية مثل غيرها في عصور ازدهار و عصور انحطاط. و قد أُصيبت في عصور الأنحطاط بثلاث أٓفاتٍ يُظنُّ أنها من صفاتها الثابتة، و هي: (1) الظّن أنها ثقافة غَلبَ عليها الحفظ و الرواية، و مثالها قراءتنا للقرآن دون تدبّر على عكس ما كان يفعله السّلف. (2) الظّن أنها ثقافة مقتصرة على العلوم الدينية و اللغوية و الأدبية في حين أنها اشتملت على كل ضروب العلم. (3) الظّن أنها ثقافة متحجّرة وقفت عند مرحلة لم تستطع أن تتجاوزها، فصارت تجترُّ نفسها، و تحجّرت معها اللغة. ظهرت هذه الأفات بسبب عدم ادراك المنهج العلمي الأسلامي بمعالمه و أسليبه الذي كوّن عقل المسلم و وجدانه ما تسبّب في تخلّف الأمة في الأنتاج الفكريّ و العلميّ، و صرنا في موضع المستورد للنتائج العلميّة عند الأمم الأخرى دون أن ندرك أصولها و مناهجها. انّ الثقافة العربية ثقافة أصيلة تمتدّ جذورها في أرضنا و مجتمعنا، و تتطوّر من داخلنا و تنفتح على ثقافات العالم تأخذُ منها ما تحتاجُ اليه. انّ ثقافتنا قادرة على أن تعود الى تحقيق ذاتها و حمل رسالتها حينما نكفُّ عن التقليد. و بهذا، منهج ثقافتنا أصيل نابع من ديننا و واقعنا الحقيقي، و هو أيضاً أنسانيّ عالمي يتفق و المناهج الفكريّة السليمة عند الأمم الأخرى، و هو أيضاً قابل للتطوّر والنمو ليلائمَ المتغيّرات و المستجدات ما يجعله مؤهلاً لعالم اليوم و عالم الغدّ.

فيديو مقال نحن والآخر

 

 

أضف تعليقك هنا