الدعاء بين غفلة الأمة وتفويض الأئمة

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله وبعد :
من أعلى مراتب العبادات الدعاء، إذ وصفه الله تعالى بأنه العبادة عينها فقال في محكم تنـزيله :
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) غافر فدعاؤه عبادة و تركه استكبارعنها .
ومنه ما ورد عن النعمان بن بشير-رضي الله عنهما- أن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ قال: “الدعاء هو العبادة” . رواه الترمذي(2969) في تـفسير سورة البقرة، وقال: حسن صحيح، وأبوداود(1479) في الصلاة، باب الدعاء، وابن ماجة(3828) في الدعاء، باب فضل الدعاء .
ولأن الله يسمع و يرى حَسُنَ أن يشرئب إليه العبد بنفسه ويسأله من فضله الكبير ورحمته الواسعة ويخاف عذابه الشديد ، نُدِبَ أن يـمتع قلبه بنفحات السماء ولذة التـضرع وحلاوة السجود وعذوبة الرجاء ، فسائل الله تعالى من خيره موقن بأنه يسمعنا ويرانا جميعا ، والله عزوجل يحب أن يسمع أنين السائلين ورجاء المتوسلين وضراعة المتـقربين وسؤال المحتاجين.
قال تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) الأنعام.
قال الطبري: أي امتحناهم بالابتلاء ليتضرعوا إليّ ويخلصوا لي العبادة ويفردوا رغبتهم إليّ دون غيري بالتذلل لي بالطاعة والاستكانة منهم إليّ بالإنابة. هذا كله منهم إليه وحده ولذلك ورد  عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي_صلى الله عليه وسلم_ أنه قال:”ليس شيء أكرم على الله_عز وجل_ من الدعاء” . رواه أحمد 2/362، والبخاري في الأدب المفرد(712) باب فضل الدعاء، وابن ماجة(3829) في الدعاء، باب فضل الدعاء، والترمذي(3370) في الدعوات، باب فضل الدعاء، وصححه الحاكم في المستدرك1/490، ووافقه الذهبي.
عن ابن مسعود-رضي الله عنه- مرفوعًا:”سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يُسأل” . رواه الترمذي(3571) الدعوات، باب انتظار الفرج، وضعفه .
أما البعيد عن الله الذي لا يسأله، ولا يئن تحت وطأة الحاجة ولا يلجأ إليه غير شاكر لفضله ، فإنه يغضب منه لأن فضله واسع موجود يقينا ينتظر من يعطيه الله منه بالدعاء والتوسل ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله_صلى الله عليه وسلم {من لم يسأل الله يغضبْ عليه}، أخرجه أحمد 2/442، والترمذي(3373)، وابن ماجة(3827) في الدعاء، باب فضل الدعاء، وصححه الحاكم(1/491)، ووافقه الذهبي .
و يكفي اعتبار الإعراض عنه تكبرا على الله بموجب صريح الآية السابقة من سورة غافر ، و المتكبر على ربه في عداد الخاسرين.
فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم تارك الدعاء بالعاجز فيما ورد عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي_صلى الله عليه وسلم_قال:”أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام”. رواه ابن حبان، الموارد:1939، كتاب الأدب، باب ما جاء في السلام، وكتاب الدعاء(60)، باب العجز في الدعاء .
إذا كان هذا حال الدعاء وفضله ودرجته عند الله تعالى وجب على الفرد المؤمن ضرورة التطلع بنفسه إلى ربه فيتوسل إليه والخلوة به فيناجيه، قال تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) الأعراف
وقال تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) الأعراف.
فتارك الدعاء غافل عن الخير الواسع عند ربه لم يغترف منه .
والباحث في القرآن والسنة النبوية الطاهرة يجد الحث على التوجه الشخصي إلى الله تعالى بلا واسطة باستثناء النبي صلى الله عليه و سلم الذي كان الناس يلجأون إليه لمكانته عند ربه يرجون منه الدعاء لهم، وكلا الأمرين يغرس العقيدة في النفوس ويـمكن لها ، فالـمتوجه إلى ربه بنفسه يقوى توحيده ، وكذلك طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه و سلم يدل على الإيـمان بنبوته، لكن من غير هذه الحالة لم أجد في القرآن ولا السنة ما يدل على ترك التضرع الشخصي مقابل التوجه نحو الناس طلبا للدعاء، اللهم إلا ما ورد عن الصحابة الكرام قولهم: “لا تنسونا من صالح دعائكم”، أو ” دعاؤكم الصالح”، على العموم ، ولم يكن يصدر منهم طلب الدعاء على التـفصيل ، اللهم إلا القليل عند التابعين أوتابعيهم الذين يفتر قربـهم من الله و إيمانـهم به ، أما المؤمن المتعلق بربه بحبل الإيمان المتين المحب له حبا جـما المعتد بقربه منه لا يفارقه التوسل إليه ولا ذكره  ولا دعاؤه ولا التضرع إليه ولا طلب المكانة عنده .
وإن الصدقة من وسائل التـقرب إلى الله تعالى ، والتي تعتبر أحيانا في مكان الدعاء خاصة إذا فعلها المؤمن قصد جلب نفع أودفع ضرر، فقد سأل الله بـها ، إن العبد قد يتصدق لأجل دفع مرض ، أومكروه، أوهم، أوغم ، أوجلب نفع ، أوبحث عن تائه ، أوهداية ولد ، أوغيرها ، فهو دعاء لكنه بلسان الحال لا بلسان المقال وهذا من المباحات والقربات إليه سبحانه .
والمؤمن المتعلق بربه يتصدق موقنا بقبول الله تلك الصدقة، لا ينتظر دعاء أحد لقبولها ، أوتحقيق مرادها، إذ تكفي النية في ذلك: الصدق والإخلاص والتجرد لله مع موافقة الشرع ، وهي التي تتسبب في قبول الله العمل، ومن طلب الدعاء من شخص بعد عمل بر كهذا يوجد في اعتـقاده غبش، في يقينه بإبصار الله وسـماعه دخن .
من البديهيات الأولى في قلب المؤمن أن الله يسمع ويرى، يرى الحال ويسمع المقال، لقد قرأت لابن تيمية رحمه الله و قدس سره أن الإكثار من طلب الدعاء من الناس أشبه بالشرك  وكان رحمة الله عليه يحث كثيرا على التوجه الشخصي لله تعالى دون اللجوء إلى العباد ، لأن الله يسمع ويرى.

إن الإكثار من سؤال الناس ولو كانوا من الصالحين يدخل في قلب ابن آدم عقيدة أن الله يسمع لذلك العبد الصالح فقط ويجيبه، وطلبه مقبول عنده دون غيره ، وهذا عين الوساطة عند النصارى الذين وكلوا عنهم الرهبان وعند اليهود الذين فوضوا عن أنفسهم الأحبار.
إن القلب ليشمئز حين يرى الجماهير الغفيرة التي تحف ببابا الفاتيكان في أي بلد و هي تتوسل إليه طلبا للغفران ، فيوهـمها مكانته و يسلمها  صكوكه ، مخمرا عقولها بأنه الواسطة بينهم و بين الله، وكأن الله لا يسمعهم ولا يراهم ، وإنما يسمعه ويراه هو فقط ، لقد أصبح حال المسلمين اليوم كحالهم، ونخشى أن يكون مصيرهم كمصيرهم، الكثير منهم بسبب الوهن الروحي والسكر العقلي والخواء العلمي تركوا الدعاء ، بل فوضوا من يرونـهم صالحين أوذوي علم أوتـقوى عنهم ، وجعلوهم وكلاء في إبرام صفقاتـهم مع الله ، واشتـغلوا هم بالدنيا و ملذاتـها، وأعرضوا عن ربـهم بحالهم ولو أنكر مقالهم.
نجد كثيرا من هذه الحالات في المساجد التي أصبحت للأسف إلا ما رحم الله منها مقرات لـما يطلبه السائلون بعد دروس الجمعات قبل القيام إلى الخطبة ، صدقات وتبرعات للمسجد من أموال أوما يقوم مقامها من مصاحف أوأفرشة أوساعات حائطية أوكتب أومعدات كهربائية أوغيرها مقابل الدعاء لمريض أومسافر أوفقير أوضال أوبطال أوأعزب أوعانس أوعاق أوظالم أوتسوية ميراث أوقضايا اجتماعية أوغيرها من آلام وآمال الأفراد والجماعات.
في تقديري : إن الناس درجوا على عادة سيئة وبدعة مشينة بترك التوسل إلى الله تعالى بأنفسهم مع تفويض أمره إلى أئمة المساجد، وكأن مساجدنا أصبحت أشبه بالكنائس التي تكرس فيها النظرة الخاطئة عن الله وقدرته وسمعه وبصره ، فغرّ هؤلاء مكانـهم فتوهـموا النيابة عن الناس أمام الله أوالشفاعة لهم عنده في الدنيا قبل الآخرة، فإذا نوقشوا رفضوا بحجة الحفاظ على براءة الناس، والحق هو الحفاظ على مكانة موهومة رأوا تركها سقوطا اجتماعيا، فلم نجد أيًّا منهم يتواضع لله و يعلمهم {إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله}رواه الترمذي عن ابن عباس في سننه برقم :2516 .
أتعجب كثيرا و تصيبني الحسرة عندما أسمع إماما في مسجد يدعو للسائل بشكل مستسهل وكأن الأمر يتعلق بكلمة فقط دون وجه من التضرع والإلحاح ، ثم أتألم لما آل إليه أمر أمتنا عندما أسمع إماما يعتذر عن الدعاء اليوم لأن الوقت ضيق وسيؤجله إلى الجمعة القادمة أوالليلة الموالية إذا كنا في شهر رمضان .
لقد آلمني يوما قراءة إمام مسجد رسالة امرأة تفشي سرها للناس بحاجتها إلى الدعاء كي يهدي أم محبوبـها لتوافق على زواجهما، لأن أمرا كهذا جعل المسجد مقرا لحل مشاكل العاشقين وبالتالي أصبح حاله كحال ما نعرف ولم يعد مسجدا بمستواه الروحي التعبدي التشريعي الراقي.

لقد آلمني وأنا في مسجد يوم الجمعة قبل الخطبة والإمام يعتذر عن نسيان بعض طالبي الدعاء، وكأن أمر الدعاء موكول إليه فقط لا يـملك هذا غيره، ما جعلني أخاطب نفسي سرا : من يكون حتى يتـفوه بـهذا الكلام ؟ من يكون هذا السائل حتى يترجى الله بالعبد وقد يكون أسوأ حالا منه؟ ما بال الأمة استـقالت من وظيفة الضراعة إلى الله ؟ من سلبها هذا الحق ؟
كنت أحيانا أضحك عليها لأن نفسها هانت وسلمت ما بينها وبين الله إلى غيرها ، أستهجن أمرها حين أرى مسؤوليتها عن غرور هؤلاء الذين لا يحسن الكثير منهم حتى الأدب مع الله في الدعاء بله سؤاله لهم، فيقعون في الاعتداء المذموم قال تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)  الأعراف.
ضحكت على الناس يوما بألم شديد وهم ينهالون على الإمام بالصدقات للمسجد رجاء الدعاء، اعتبرتـها صكوك الدعاء كصكوك الغفران، وكأن ألسنتهم خرست، وقلوبـهم عميت.
قال تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الحج  وصدورهم أقـفلت، وأيديهم كي لا ترتـفع إلى رب الأرض والسماء كبلت. قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) الأعراف. ، فهل الإمام قادر على تحقيق ذلك لك منك بنفسك ؟
ثم هلا نظرت إلى معنى ” فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ”؟
هذه بعض شروط الدعاء : الخلوة بالنفس، التضرع والإلحاح، التخافت، الدوام، الفطنة وعدم الغفلة والنسيان.
هلا حقق العبد ذلك بنفسه دون الرجوع إلى الإمام ؟ أم أن مجرد كلمة في المسجد تجلب له النفع وتدرأ عنه الضرر ؟
لا ينكر دور المسجد في بناء دولة كاملة وحل كل قضاياها ومشاكلها ، لكن أن يحول إلى مقر تتواكل فيه النفوس وتلغى الأسباب وتخور الهمم وتنهار العزائم ويلجأ فيه إلى غير الله ، فهذا هو المرفوض شرعا و عقيدة .
ولا تغمط فضيلة دعوة المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب فإنـها مجابة ، لكن إذا تفضل بـها الداعي لا أن يلح في طلبها المحتاج محتـقرا فضيلة الذل لله بنفسه .
أجزم يقينا بأنه لو كانت لنا أمة تسأل الله في كل شيء ولا تلجأ إلا إليه لانسابت إلينا الدنيا صاغرة وركعت لنا الشهوات ذليلة وسقطت أمامنا الأعداء حقيرة .

لقد تأملت كثيرا وأقبلت وأدبرت وقلبت الأمر مدة ليست يسيرة ، ونصحت ، أما وقد رأيت استـفحاله والناس تتهاوى عقائدهم ضحايا الباطل، وتـقسو قلوبـهم ضحايا البعد عن رجاء ربـهم، بسبب تمادي من حصَّلَ على مكانة غير مشروعة وأخفى الحق عنهم كي يـمكن لاستعبادهم الروحي، سطرت كلماتي هذه إيقاظا للضمائر وتنبيها للغافلين ، لعلهم بـهذا يطردون أوهامهم ويصححون أخطاءهم ويشدون على عقائدهم ويهرعون إلى ربـهم ، لعله سبحانه يرفع غبننا وييسر أمورنا ويغفر ذنوبنا ويفرج هـمومنا ويسدد ديوننا ويشفي مرضانا ويهدي ضلالنا ويقوي عزائمنا ويرفع هـممنا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

فيديو الدعاء بين غفلة الأمة وتفويض الأئمة

أضف تعليقك هنا

سعد الدين شراير

الأستاذ سعد الدين شراير