ليلة الوحشة

ليلة لا مثيل لها، تمر على الانسان وهو وحيد يواجه في وحدته وضعفه المجهول، لا يعلم ما يخبأ له من الامور، أشراً كانت ام خيراً، وحيدٌ يشكر الاشباح التي تملأ خياله الفارغ، وتؤنس وحدته القاتلة، ولست أتكلم عن ليلة الوحشة للميت، بل أتكلم عن تلك الليلة عندما تمر على انسان حي.

هكذا مرت عليَ هذه الليلة الطويلة الباردة، عرفت معنى الخوف والوحدة، سمعت صوت قلبي يدق بسرعة البرق، وببطيءٍ كسكونٍ قلق، وسمعت صوت طقطقة عظامي وهي ترقص على أنغام عوي الذئاب، وعضلاتي ترهلت كسكران تجاوز حد الشرب، ودماغي صار لا يميز يميني من شمالي ويديَ من رجليَ، وجفنيَ أعلنتا انقلاباً فلا ترضيان ان تغلقا، وفكيَ أعلنا عصياناً فلا يقبلان ان يستقرا، وانفاسي كادت تنقطع في ليلة الوحشة الطويلة الباردة.

كيف مرت هذه الليلة؟ مرت كما سأرويها لكم، فاستمعوا الى هذه القصة…
بعد ان قضيت ايامي في السجن، أطلق سراحي لأتلقى علاجي في احدى المستشفيات، وكنت حينها قد فقدت القدرة على الحركة، كانت اطرافي تؤلمني كثيراً، فالسجن اعادني عشرين سنة الى الوراء، عدت ازحف كالأطفال، وحينما أصبحت قادراً على المسير والحركة، لم يكتفوا بهذا الاذلال وبهذه العقوبة المقيتة، بل دارت في اذهانهم فكرة جديدة، كانت من وحي الجريمة، وبلا كلام وبلا أي نقاش قادوني كفريسة، اصعدوني على ظهر سيارتهم الموقرة، وقادوني الى حتفي الذي رسموه لي، ساعات طويلة والسيارة تسير، الشمس غيرت مكانها مراراً وتكراراً، حتى شارفت على الغروب، وقيل لي انزل ولا تفتح عصابة عينيك، امسك ولا تحرك قدميك، انه كيس فيه طعام، كل ولا تبذر، اشكر ولا تنكر، فعصفور في اليد…، فهل تحسن العد.

وقفت منتظراً من يقول لي افتح عينيك إنك في المعسكر، انتظرت ما اعتدت على سماعه من شتائم، ولكن لا صوت ولا كلام، ولا حتى همس او حركة اقدام، فحركت يدي لأرفع العصابة عن عيني وانا انتظر من يصيح بي لا تفعل، لم يصح بي أحد فرفعت العصابة اخيراً، وانا أقف وحيداً والسيارة صارت بعيدة جداً، بحجم النملة او أصغر، التفت بكل الاتجاهات، لم أجد الا الصحراء تلوح بالأفق، وقريبة مني مقبرة للآليات، تركت منذ حرب الخليج في وسط الرمال، كانت تشع باليورانيوم، وفتحت الكيس فوجدت تمراً كله سوس وصموناً متحجر، وحبات بصل لونها اسود من العفن، وفي المقبرة كان هناك نصف برميل صدأ ملأته الامطار بالماء.
واخذت اتجول مرتعباً وانا اصيح بين كومة الحديد الصدأ، لعلي اجد من يسكن في هذه المقبرة، وما هي الا دقائق حتى سمعت أصوات العواء، انا اعرف شيئاً عن الذئاب، انه نداء مغيب الشمس، وانا كما يظهر سأكون وجبة العشاء، وبسرعة كالغزال وجدت مدرعةً محروقة، أبوابها تغلق، رميت بنفسي داخلها، وأغلقت أبوابها، واخذت زاويةً من زواياها، كالطفل الذي يخاف الاشباح، غطيت رأسي بقميصي الممزق، ورغم ان الظلام قد عم المكان، وانا لا أرى فقط اسمع، صوت الذئاب وهي تدور حول المدرعة، وتحفر يميناً وشمالاً على امل ان تصل الى الديك الرومي، وكأنها قد ذاقت لحمي ووجدت فيه طعماً مستساغاً، وهكذا انتهت ليلتي الأولى، لا اعلم من أي شيء أخاف، من الذئاب ام من الثعابين ام من العقارب ام البرد ام من الاشباح؟ كانت أطول ليلة، وبحق كانت ليلة الوحشة.

تعلمت في هذه الليلة معنى “وبلغت القلوب الحناجر”، كان قلبي قد وصل الى قدمي، ومع صوت نفس الذئب الذي يهمس في اذني، اني اتٍ فلا تبتعد، احس بأنفاسه الرطبة تناغي أصابع قدمي المتجمدة، وبلسانه وهو يتذوق جلدي، وكأني صحن مقبلات قد قدم اليه في مطعم فاخر، ولا اعلم كم مرة قفز قلبي من قدمي الى حلقي، كان يدق في حنجرتي، كان يخنقني، كمارد متنمر، واحسست ان هذه هي اخر ليلة لي وانا وحيد، سأموت ولن يجدوا لي لحماً او عظماً، وبعد الصراع الطويل مع مخاوفي استسلمت جميع جوارحي، فلم اعد قادراً على فعل أي شيء، سوى انتظار دخول الذئاب وافتراسي.
برد الليل غطى جسمي، وانا اتعرق وكأني في فرن وقد علقت في وسطه بالسيخ، حديد المدرعة بدأ يلسعني وكأني جاورت قفيراً للدبابير، عواء الذئاب وانفاسها العفنة قتلتني، ولم تنتهي الليلة الا وانا مخرج للأفلام، نعم تصورت نفسي بطلاً إذا ما عبرت الذئاب وانا ارمي بها كهرقل غاضب، وتصور اخر كنت فيه بطل الفيلم الذي يموت في المشهد الأخير، تصوراتي ما كانت لتخطر على بال أي مخرج امريكي او هندي، وبعد كل هذه الأفلام ابى النعاس ان يأتيني، أكملت الليلة وانا اسمع الأصوات، واتلحف من خوفي بهلعي، واستجمعت كل اطرافي لأكون كالشرنقة، وكعادة الانسان اذا ما حلت به المصيبة، كنت اذكر الله وادعوه، واعطي الوعود التي لو طبقتها اليوم لكنت قد أصبحت كالأنبياء، لم يعد هناك أي امل او خيط للتمسك به، الا حبل الله جل جلاله، وهكذا فعلت وبه تمسكت.

وانقضت ليلة الوحشة بطلوع الصباح، واشراقة الشمس، كان فجر الرحمة والنجاة من الموت، مرت الليلة وكأنها لم تكن، خرجت من المدرعة ومعي اليأس الذي ولى وتبخر، تاركاً اثراً كماء البحر المالح، ورغم ذلك فاني لم استسلم، وليلة بعد ليلة ولكن ليست كتلك الالف ليلة، وانما كانت ثلاثين ليلة، انقضت وانا وحيد في الصحراء، اسكن الدبابات المعطلة، واحمل في يدي حديدة كانت تشبه الرمح، لم تكن الا سلاحاً يشعرني بالراحة والاطمئنان.

قضيت تلك الأيام الطويلة بعد ليلة الوحشة، وانا اتأقلم مع الصحراء، وقلة الطعام ارغمتني على البحث عن مخرج، كنت أرى لمعاناً في طرف من أطراف الصحراء الشاسعة، كانت كالنيزك تتحرك بسرعة، بعيدة ولكني لم استسلم، وخرجت متوجهاً الى ذلك الضوء، كفراشة تبحث عن الحياة بقرب المصباح، وكانت هذه النيازك هي سيارات مسرعة، كانت لبدو يسكنون هذه الصحراء، ورغم انهم رأوني ولكنهم لم يتوقفوا لي ولم يأبهوا لأمري، وكل ما فعلوه انهم رموا لي خبزاً ولحماً مطبوخاً، واعتدت الحال واعتادوا الحال ايضاً، حيث اني اقف على مقربة من طريقهم، وهم يفتحون الزجاجة الجانبية للسيارة ويرمون هذه النعمة التي انقذتني من الجوع والهلاك، كانت اكبر من خبز ولحم مطبوخ، كانت بالنسبة لي مأدبة عظيمة، وكانت حلماً لا يتحقق الا بالمعجزات.

وفي ضحى يوم من هذه الأيام سمعت صوت طقطقة بالقرب من المقبرة، ركضت حاملاً رمحي السومري، باتجاه الصوت، فاذا به يصدر من جهاز يحمله اشخاص يلبسون زي رواد الفضاء، كانوا يتكلمون بلهجات ولغات لم افهمها، وبعد التركيز كانت على ملابسهم علامة الأمم المتحدة بحرفي UN انهم لجان التفتيش التي دخلت العراق آنذاك.
ترك شخص في منطقة كلها يورانيوم مشع جريمة، على الأقل بنظر لجان التفتيش، وبسبب هذه الزيارة ارجعوني الى الحياة، ارجعوني من هذا المنفى، وان كانوا قد استقبلوني بالضرب المبرح، ولكنه كان اهون عليَ من ليلة الوحشة.

خرجت من هذه التجربة وانا قد صادقت حيوانا في تلك البرية القاسية، ولعل الكثيرين لا يعرفونه، كان صديقي الذي يستمع لي، وانا أكلمه عني وعن حياتي، ورغم كثرة كلامي الا انه لم يجبني او يتحدث اليَ، كان مكتفياً بالصمت والمراقبة، انه أبو الحصين كما نسميه في العراق.

وبعد كل هذه السنوات مازالت ليلة الوحشة التي مررت بها تعيش في ذاكرتي، وصورتي وانا اعدو خلف سيارات البدو لأخذ بعض الطعام، وصورتي وانا أتكلم الى حيوان، وصورتي وانا ابكي وحيداً داخل هياكل الدبابات، لم اترك خلفي الا نصف خبزة وقطعة من اللحم ورمحي الأسطوري وسنتيميترات قليلة من الماء الراكد.
لا تضيعوا الحياة بالجري وراء الوهم، الحياة جميلة عندما تعيشها وانت نعمة على الاخرين، تعيشها وانت تساعد الانسان، وترأف بالحيوان، تعيشها وانت تحترم الجميع، فانت لن تحس بالنعم الا عندما تفقدها.
فان كنت تجد ملاذاً تسكن فيه، وغطاءً تتلحف به، وفراشاً تنام عليه، وشخصاً يقدم لك طعامك باحترام، ولباساً لائقاً ومحترماً، وشخصاً انساناً يتكلم اليك ولا يكتفي بالاستماع لك، ونوماً هانئاً وانت في مأمن من الذئاب والافاعي والآفات، وشراباً بارداً وحماماً دافئاً، فتصور ليلة الوحدة التي مررت بها وبعد ذلك، قل الحمد لله، وعش حياتك انساناً خدوماً وعطوفاً.
والحمد لله رب العالمين

فيديو ليلة الوحشة

 

أضف تعليقك هنا

نجم الجزائري

السيرة الشخصية:
نجم عبد الودود الجزائري، ولدت في العراق في محافظة البصرة عام 1980، من ابوين عراقيين، حصلت على شهادة الدبلوم في تقنيات الهندسة المدنية عام 2000، وفي عام 2007 حصلت على شهادة البكالوريوس في ادارة الاعمال من جامعة البصرة، وظفت في جامعة البصرة وما زلت اعمل فيها.

مهاراتي:
* اجيد استخدام الحاسوب وصيانة الحاسبات
* اجيد استخدام البرامج الخاصة بالطباعة والتصميم والرسم الهندسي
* اصمم مواقع الكترونية بسيطة
* كاتب مقالات عامة
* اجيد تصميم البرامج الحسابية وقواعد البيانات باستخدام برامج المايكروسوفت اوفيس
* اجيد فنون الدفاع عن النفس واستخدام السلاح الابيض والخفيف والمتوسط
*