أنماط المعرفة

من المعروف أن المعرفة من حيث أنماطها ووسائل الحصول عليها وتناولها تختلف من المجتمع الزراعي عنها في المجتمع الصناعي، بل إن رؤية العالم ذاتها تتبدل وتتغير حين ينتقل المجتمع فعلاً من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، فضلاً عن تأثر المعرفة بالتحولات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والعلمية التي تحصل على المسرح العالمي، ومن هنا فقد اتخذت المعرفة أنماطاً معينة تبعاً للعوامل والظروف التي أحاطت بالمجتمع العربي والعالمي، ومن هذه الأنماط ما يأتي:

1- نمط المعرفة السياسية

تأثرت المعرفة بالتحولات السياسية في عصر العولمة، وكان من أهم ملامحها رفع شعارات الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان، وسعي معظم دول العالم إلى تحقيق المزيد من المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مقدرات حياتها، والحصول على حقوقها في الحرية بكامل جوانبها ومنها حرية التعليم والعمل (نوفل، 1985).

ولعل أهم المؤثرات في المعرفة السياسية ظهور الدولة القومية، التي تُعدّ أحد تجليات مشروع الحداثة الأوربي، الذي رفع شعار أن ” العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني ” الذي يتحكم في مصائر البشر وتطور المجتمع، مما دفع بالنُّخب الأوربية إلى القيام بثورة ثقافية تحت شعار العلمانية، الذي يشجع فصل الدين عن الدولة، وأن الإنسان يستطيع بالاعتماد على العلم والتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة وتطويعها لخدمته، وذلك بتطبيق المنهج العلمي المنتج للمعرفة (توفلر، 1996).

 

2- نمط المعرفة التكنولوجية 

يُعدّ استخدام التكنولوجيا الحديثة في التعليم أمراً ضرورياً لرفع كفاءة مخرجاته كي تكون قادرة على تلبية احتياجات مجتمع المعرفة، فالتعليم والبحث العلمي في مجتمع المعرفة ليس حكراً على الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة فحسب، بل يمكن للأفراد والعاملين القيام بإجراء بحوث من أجل خلق المعارف الجديدة والإسهام في عملية التنمية المجتمعية (El-Khowas, 1995,)، مما جعل القدرة على إنتاج المعرفة التكنولوجية واستيعابها، هي المعيار الحديث للنمو.

من جهة أخرى فإن انتشار تقنيات النشر الالكتروني جاء ليخدم  ظاهرة اتساع حيز المعرفة البشرية وتشعب فروعها، وحتى في مجالات نقل وتبادل المعرفة، عبر مؤسسات التعليم الجامعي، صار معروفاً أنه في أحسن الظروف والإمكانات لا يتمكن الطالب من أكثر من (20%) من مجال تخصصه المعرفي، وأن مسؤولية المتابعة والاستزادة بعد تخرجه سوف تتم من خلال التكنولوجيا الحديثة وفي مقدمتها النشر الالكتروني؛ وهذا يعني أننا أمام انفجار معرفي لم تعد الوسائل التقليدية قادرة على مجاراته، مما يفرض علينا التمكن من المهارات التي تساعد استخدام التقنيات الحديثة لمجاراة ما يستجد من معارف جديدة أصبح من الثابت أن الحصول عليها لا يكون بوسائل تقليدية (بشارة، 2004).

3- نمط المعرفة الثقافية

تعتبر الثقافة بما تتضمنه من أفكار ومعان وقيم ورموز وتنظيم للعلاقات من القنوات المهمة في عملية التواصل وسبل التفاهم داخل الفضاءات الاجتماعية، ولهذا فإن المعرفة الثقافية كأسلوب حياة تُعد من أهم الطرق التي يمارس جميع الناس من خلالها طقوسهم الاجتماعية اليومية مثل: آداب المأكل والمشرب والملبس.. كما يُنظر إليها كإرث مشترك من الذكريات والعادات التاريخية المنقولة بشكل رئيس عبر اللغة، فضلاً عن تجليات المعرفة الثقافية في التعبيرات الخلاقة في المجتمع، والتي تتجسد في هندسة البناء والموسيقى والعلوم والمؤسسة التعليمية والفنون الشعبية، (Frye,1990) ومع الإيمان بأهمية المعرفة الثقافية كمدخل للتواصل وإرث مشترك وتعبيرات خلاقة، إلا أن الإنسان المعاصر يعيش صدمة ثقافية اغترابية فرضتها أنساقٌ من طفرات التغير الحاصلة في مختلف جوانب الحياة ومكونات الوجود الاجتماعي والثقافي، وقد وصفت هذه التحولات الكبيرة في المجتمع الإنساني المعاصر تحت عناوين مثيرة وملفتة للنظر مثل: ما بعد العولمة، وما بعد الحداثة، وما بعد المعرفة.. (وطفة، 2011). وهي عناوين ترمي في جوهرها إلى وصف التقدم الهائل الذي حصل على صعيد ثورة الاتصال وثورة الجينات والثورة الرقمية وثورة المعرفة .. وغيرها من الثورات التي أثرت على نمط المعرفة الثقافية السائد في المجتمعات، حيث أصبحنا أمام مفهومين للثقافة أحدهما يؤنسن، والثاني يشيئ، أي يجعل الإنسان مجرد شيء يخضع لقوانين العرض والطلب، أحدهما يعلي من الإنسان شأناً غائياً بينما يدفعه الآخر إلى دائرة التشيُّؤ والاستهلاك (وطفة، 2011). ويمكن القول: إنه بوجود هذه الثنائية الثقافية أصبح الإنسان العربي مغيباً ومهمشاً ومحاصَراً، وبفعلها أصبح يعيش في حالة سلبية دائمة وغيبوبة نقدية فائقة الوصف، مما يقتضي من أنظمة التعليم في العالم العربي ترسيخ مقومات الذهنية العلمية وإعمال العقل والإفادة من منجزات الثورات العلمية، وتمكين الباحثين من إنتاج المعرفة التي تحرك طاقات الإنتاج، فضلاً عن ضرورة أن تتجاوز مجرد النقل والتقليد والانحباس في ثقافة الرصيد الموروث إلى آفاق التحديث العقلي وما يرتبط به من مناهج علمية وعقلية متطورة.

4- نمط المعرفة العلمية

    يرى « أوغست كونت » أن المعرفة العلمية جاءت في مرحلة متأخرة من تطور العقل الإنساني، حين استطاع أن يفسر الظاهرات تفسيراً علمياً، ويربط تلك الظاهرات ربطاً موضوعياً، مما جعل من المعرفة العلمية طابعاً تجريبياً يعتمد الملاحظة المنظمة للظاهرات وأساساً لوضع الفروض والتحقق منها بالتجربة، وتجميع البيانات وتحليلها، كما أن المعرفة العلمية لا تقف عند المفردات الجزئية التي يقوم الإنسان ببحثها، بل تتجاوز ذلك حتى يصل إلى قوانين ونظريات عامة تربط هذه المفردات بعضها ببعض، وتمكنه من التنبؤ بما يحدث للظاهرات المختلفة تحت ظروف معينة (دويدري، 2000).

كما أشار «غاستون باشلا» أن للمعرفة العلمية خاصية اجتماعية، ذلك أنه لم يُعدّ هناك معرفة علمية تُنجز بشكل فردي، ففي كل الاكتشافات العلمية المعاصرة تعاون وتكامل بين عمل مجموعة من العلماء، وهذا التعاون له مستويات، فهو أولاً تعاون بين العلماء النظريين، وثانياً هو تعاون بين التقنيين، ففي المدينة العلمية المعاصرة ـ كما يقول « باشلار» ـ لا يوجد عمل نظري منفصل عن عمل تقني، وبالنظر إلى كل إنجاز على صعيد المعرفة العلمية سوف نجد أنه كان نتيجة لتكامل مستمر بين الدليل النظري والدليل التقني (وقيدي، 1984).

5- نمط معرفة الإنسانيات

ويأتي في مقدمتها علم اللغة، الذي يُعدّ الركيزة الأساسية لفروع الإنسانيات الأخرى، والتي تشمل علم الاجتماع، وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وعلم التاريخ، والجغرافيا البشرية، فاللغة ترتبط بعلاقات وثيقة مع الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية، وكذلك الفنون بأنواعها. وقد أقامت اللغة مؤخراً علاقة وطيدة مع الهندسة، وذلك من خلال هندسة الذكاء الاصطناعي التي تسهم فيها اللسانيات الحاسوبية Computational  Linguistics بقسط وفير، ويرى «نبيل علي» أن اللغة تنفرد بمثل هذه الشبكة الكثيفة من العلاقات المعرفية، وأن موقعها الفريد على خريطة المعرفة الإنسانية يؤكد أنها ركيزة أساسية للمعرفة على اختلاف أنواعها، وكذلك وسيلة لا غنى عنها لفهم تاريخ تطور الفكر الإنساني، وتحليل مظاهر حاضره، واستشراف مستقبله، ومما يستحق التنويه هنا أن أهمية علوم الإنسانيات زادت في الآونة الأخيرة نظراً لتنامي التوجه الثقافي الاجتماعي لمنتجات تكنولوجيا المعلومات، والحديث المتواتر عن كيفية توظيف هذه المنتجات المعرفية على الصعيد الاجتماعي.

6- نمط معرفة الخبرة العملية

وهي المعرفة الحسية المباشرة، ومعرفة الخبرات العملية، وممارسات الحياة اليومية، وهي المعرفة التي يلجأ إليها الفرد العادي لفهم واقعه، وحل ما يواجهه من مشاكل، وتفسير ما يعترضه من ظواهر. إن هذه المعرفة العملية الدارجة هي التي أبدعت الفلكلور والأمثال الشعبية الشائعة، والموسيقى الشعبية والحرف اليدوية، وهي معرفة فشل حتى الآن اقتصاد عصر المعلومات في تحديد ملكيتها وحماية حقوق مالكيها.

من جهة أخرى فقد تغيرت بصورة جذرية ملامح الخريطة المعرفية العملية المرتكزة على أكثر من ثقافة واحدة نتيجة المتغير المعلوماتي، مما كان له انعكاسات عديدة  تردد صداها في جميع أرجاء المنظومة المجتمعية، فقد تزايد الاهتمام بروح الخلق والإبداع لدى الناشئة من أجل امتلاك القدرة على التغيير والتجديد والسيطرة على المستقبل، مما تطلب كذلك زيادة الاهتمام بتكوين الفكر الناقد من خلال تدريب الطلاب على مناهج اكتشاف المعرفة والحقائق العلمية، وأساليب البحث العلمي الموضوعي، بدلاً من مجرد تقديم العلم والمعرفة جاهزين دون ما بحث عن قوانين اكتشافهما ومعايير تقويمهما (عبد الدائم، 1991).

فيديو أنماط المعرفة

 

أضف تعليقك هنا

د. بشار جيدوري

الدكتور بشار جيدوري