النقل، خلاف العقل

خلقنا الله مختلفين 

إن الله قد أولى بنا من نعمائه عقلا، فما اتفق معه من النقل مقبول، وما خالفه على بينة وعلم فإنه من الصحة عراء؛ وإن الله قد أودع في خلقه من روحه ما يعرفه به كلٌّ منهم على شاكلته، فلا منهم يتعرف على الله بمعرفة صاحبه، ولا يتبتل له أحدهم على شاكلة سواه؛ بل إنه سبحانه شرع لخلقه من الدين ما تباين نصه وتشريعه واختلف نسكه، وأكد حتمية الاختلاف الكونية حتى التعبدية.

ونص على ضرورة احترام ذاك التمايز وتلك التعددية المنهجية كسمةٍ إنسانية قائمة في خِلقة البشر وأساسية لعمارة الأرض، ولو لم يختلف الأولون لما كانت إلا حضارة واحدة، ولو كان العالَمون أمة واحدة ما تحقق مراد الله في خلقه من الابتلاء والتمحيص والتمكين والإمهال إلى آخر ذلك كله جميعا. يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [سورة هود 118 – 119]

والله خلق الناس ليتعددوا في عبادته، ويتباينوا في طريق الهداية، ويختلفوا في أعمالهم، وليلبلوَ أخبارهم؛ فإن كل ذي بداية -قد يُرى فيها خطأ- لمتبوع بنهايةٍ يأتي بها لاحق يصحح الخطأ ويستتبع، ومنهم من لحق الأسلاف فجعلهم أملاكا لا ينقصهم صواب، ولا ينتقص منهم عيب، فصار تابعا ينقل ويحفظ ويستذكر بلا فكر أو تمحيص أو تدبر، وجعلوا قرآنا غير القرآن وأنبياء استعاضوا بهم عن العدنان، وكأنهم شاركوه في رسالته مع أن الزمان الفاصل بينهم ووفاته قد جاوز الثلاثة قرون والأربعة، ليفتروا عليه غيره، ويأتوا بما لم يؤتَ به، ويزيدوا من إفك ما وصلهم إن كانوا صالحي النية، أو زور ما ابتدعوه إن عمدوا إلى الإفتاء بالبدعة، وما أشبه اليوم بالبارحة!.

مفتون لا يليقون بالمنصب

لقد نرى مفتين في مناصبهم يخرجون من الكلام ما لا يليق بأسماء تلك المناصب التي اعتلوا كراسيها، ويتفوهون بكل ضلالة ومعرة لا يقبلها عقل، ويعلمها بهتانا كلُّ صغير  وكبير، فلا يؤخذ بها، ولكن سرعان ما تُدون وتُتداول تحت أسماءٍ ثقات، قد لا تعي الأجيال القادمة غير ما دُون عن سيرهم من الزور المادح، والورع القادح، ويصير نقلهم بمثابة التشريع المنزه عن التفنيد والنقد، وتصير الرموز التي ندريها اليومَ من العلم براءً أصولاً يُكَفَّرُ من عارضَ تقديس شريف مقامهم لزاما، حتى تصير ألقابهم أقساما وأسماؤهم أعلاما وحبهم إيمانا ومخالفتهم زندقة وفُجرا عيانا.

لقد فرض الله علينا التدبر في آيات كونه الظاهرة، وآياتِ كتابه المُحكمَة، وجعل السبل لذاك ميسرة؛ حتى نُعمِل العقل دون انكباب على الموروث، فبالله أين التراث من علوم اليوم التي ذكرها القرآن قبل قرون وكانوا في حل من كشفها وخواء من فهمها، وأنى لمنكب على المنقول أن تُبدعَ نهاه وتستيقن حواسه من صحة ما أُشربت آذانه واستشربت عيناه من الكتب التي عفى عليها الزمن حتى اكتست أغلفتها الثرى، ومزقت الأيام صفحاتها؟ وأنى له ثبات إذا خولِفَ بالمنطق وانتُقِدَ بالعقل وازدُجِرَ بالعلم؟ وأين مفره إذا خرت عليه أسقف قبول تلك الألقاب كشواهد ثقات؟.

عندما يزول تقديس المشائخ

إذا زلزلت أعمدة عرش أسياده واهتزت صورتهم في أنظاره أفيتمسك بخطئه على هون؟ أم يدس رأسه في التراب يتوارى من الخلق مما عرف من الحق؟ وكثير منهم يتأبى الاعتراف بخطئه، ويستخفي من الدليل أو يخفيه، ومنهم من يريد تلك الهامات رموزا وساسة للناس فيخدمون كرسِيه مُعلين شأنَه، ويحفظون مكانته، ومنهم من يسعى لكشف فضائحَ وأخطاء بشرٍ ليسوا بمعصومين في اجتهاداتهم، فيُلحَقُها بالدين عمدا ليشينه ويهدمه بالضلالات فوق رؤوس أتباعه، وقد يصطنعون الرموز للناس حتى إذا تعلقوا بهم، وربطوا أسماءهم باسم الدين أتوا على هدمها، فهدموا الدين في قلوب أتباعهم مشككين ومُبطلين.

فيديو مقال النقل، خلاف العقل

أضف تعليقك هنا

أحمد محمود القاضي

أحمد محمود القاضي
شاعر وكاتب، باحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية النقدية، يدرس ليسانس الألسن- جامعة عين شمس- قسم اللغة الإيطالية