زار السجن يومًا – قصة أدبية حائزة على المرتبة الثالثة في مسابقة “للأسرى حكاية” عام 2016

اعتدت أن أفيق باكراً. أن أعد القهوة وأرتشفها بتأنِ أمام النافذة وأنا أشاهد الناس وهم في الطريق إلى أعمالهم. وحدي أنا لم يكن لي عمل، وحينما سألت صديقا لي ذات مرة، عن فرصة عمل لديه في بقالة الخضار، رد متهكماً: وهل بعد ما قدمت هناك من أشغال شاقة تفكر في العمل؟

رددت ممتعضاً: أنت تعلم أني لا أقصد العمل الوطني!.

كم هو مؤسف وجميل في ذات الوقت أن تحوز على لقب في زمن ما، كأن يقال عنك “أسير محرر” ثم يحال ملفك إلى التقاعد باكراً. كم هو مرهق الشعور بالعجز، كل الأشياء تصبح تشبه نفسها، كما لو أن فاتك كل شيء، لا سبيل لدي في تحسين مزاجي بكسر الروتين اليومي، لقد بت أمقت حتى الوقوف أمام النافذة، ولكني لا أكره الناس الذين يخرجون إلى أعمالهم باكراً، فلازلت طامعاً بمشاركتهم ولو ليوم واحد.

وفي اليوم الذي قررت الإقدام على فعل مشابه، ارتديت حذائي عكسياً، وعندما بلغت باب البيت شعرت باختلال وفجأة سقطت أرضاً وشج رأسي.

آه كم أكره أن يخدش هذا الرأس الملبد باللكمات، لقد تحسسته جيداً.. إنه ينزف من الخلف. إن هذا الموقف يذكرني باللحظة التي كان الجندي الإسرائيلي يدوسني بحذائه الضخم على رأسي جاذباً كتفيّ إلى الخلف، مدخلًا قضيبين من الحديد تحت إبطي، وشدّني إلى أعلى فإذا بصيحة دوّت منّي كأنها صيحة الوداع إلى المثوى الأخير! نصفي من أسفل بطني إلى رجلي ملامس الأرض ونصفي العلوي ملتصق بكرسي الحديد إلى الأعلى، ولم أعد قادرًا حتى على الصراخ أو التنفس ، كانت ليلتها قفزة فيليكس التاريخية من الغلاف الجوي إلى الأرض قبل أربعة أعوام، عندما صاح مذيع في الإذاعة العبرية منفعلاً : ” نجح المغامر النمساوي فيليكس بومغارتنر اليوم بالقفز من حدود الغلاف الجوي إلى الأرض لأول مرة في التاريخ”.

كنت أتقهقر ألماً، لقد سبب لي الخبر حينها نوعاً من فتور الهمة وفقدان الأمل، فمنذ جمعة تشرين الأول 1995، عشرون سنة أو أكثر أو أقل لا أعلم، وأنا محشو في زنزانة قذرة بقياس 475*13 متراً بفجوة كقبضة اليد في سقفها، مزودة بجورتي مياه لقضاء الحاجة مع بعض الغالونات لتعبئة المياه… وعلى الأرض تتسابق الجرذان والصراصير وفي الهواء يتدافع جيش الحشرات… لقد مات الكثير من الناس في الحج أثناء التدافع و السباق لإرضاء الله، و مات الكثير من الشيعة على جسر في العراق عندما شاع بينهم أن هناك عبوة متفجرة على الجسر، أذكر هذه الحادثة جيداً، لا أعرف لماذا، لقد تركت هذه الحوادث أثراً كبيراً في نفسي كوني عايشتها ولكن بأحوال أخرى.

أنني أتذكر كما في حلم : البيت المطلي بالدهان الأبيض كله، والذي تبدو من نوافذه الهادئة رياح البحر، وفيما كنا نتسامر أنا وزوجتي سامية على تسمية مولودنا البكر القادم، كنت أفكر بشيء من الشوق، بأنه لا بد من المغامرات في الحياة، لكن قفزة فيليكس ضاعفت من غروري الوطني: ففلسطين أكبر مغامرة تستحق التضحية، كنت أقول في نفسي.

لم أحاول الوقوف مجددا عبر التشبث بالباب، أنا مستسلم لربع قرن يمر أمامي بالحركة البطيئة.. كم هو مؤلم أن تستدعي الموت بعد أن كنت قد تعافيت منه بالحوز على لقب “المحرر”.

ها أنا أتحسس دفء الدم المتقاطر، وأنا غارق في استذكار، جمعي وثلاثين شخصًا آخرين في غرفة واحدة، وقد كُبلت أيدينا وأرجلنا بالجنازير وحُجبت أعيننا بالعصابات الخشنة، إذ يتوجب علينا المرور بين ثلاثين مجندا يهوديا وقفوا بكامل عتادهم: كابلات كهربائية، قضبان حديد بقطر ستة ملم… باختصار شديد: كل ما يؤلم مسموح، وضعي كان سيئًا جدًا أنزف من جرح قوي فوق عيني، وقد كسرت يدي اليُسرى.

 لم أنم ليلتها من هول الألم الذي يأكل جسدي، شعرت بروحي ترفرف فوق ابنتي الوحيدة، التي تركتها وهي في أحشاء والدتها، تحضنني، أقبلها بشوق حار لا تطفئ ناره إلا دمعاتي، كطفل صغير تائه من أمه، أبحث عنها، وأقول لها: ها أنا آت إليك لا محالة، افتحي ذراعيكِ، ودعيني أقبل يديك… يا أماااه يا أماااه… تعبااااان.

لقد قال بول ايوار يوما: “هنالك عوالم أخرى، لكن في هذا العالم”، حقًا عوالم أخرى، فنحن نعيش بعالم لا أحد يتمنى العيش عليه، من إبداعات التعذيب فيه، لعبة الهرم، لعبة لمدة دقائق، يطلب العسكري الإسرائيلي من أحدنا أن ينام على بطنه ويفتح ذراعيه، وينبطح أسير آخر فوقه على شكل صليب والثالث والخامس.. وهكذا حتى العاشر.. ولعبة أخرى تعصيب العينين دون عصابة وتكون بضرب رؤوسنا بالكرباج مما يصيب العينين بتورم واحمرار لمدة 12 يومًا، أقولها لأنها حصلت معي، بعدها تبرأ العينين بقدرة الله، أليس هو الشافي المعافي!

وكيف كنت استطيع عد أضلاع صدري، في حين أنني الآن أبحث عن وصفة إلى تنحيف جسمي، في هذا السجن القديم جدًا المملوء بالعفن والرطوبة، تتفاوت حصة الطعام للشخص الواحد، فمثلا لنحو 200 أسير ثلاثون بيضة مسلوقة للفطور، وجاط من العدس على الغداء، وفي المساء بطاطا بمعدل حبة واحدة لكل ستة أشخاص، أما الفواكه فلا تصلنا إلا مرة كل شهر، بمعدل تفاحة لكل خمسة أشخاص، أما المياه المخصصة للشرب غير نظيفة نظرًا لقدم التمديدات حيث أن لون الماء أصفر ولا يصلح للشرب، الأمر الذي يعرض الأسرى للإصابة بأمراض عدة.

 رأيت في الزنزانة من يذوي إلى عزلة أبدية أو يذبل في دوامة المرض والقنوط، و فاتحًا للسل سبيلًا إلى جسده، وللقرحة مجالًا إلى أحشائه، وللسكري مجرى في دمائه إلى أن يعود إلى ربه أو يضيء وطنه بنور عودته حين ميسرة!

على مدى 25 سنة طويلة قضيتها في السجون الإسرائيلية، كأي إنسان في العالم محب لأسرته كنت أتوق للفرحة بزفاف ابنتي الوحيدة، وكنت أود لو كان لي فرصة لمشاركتها أحزانها وأفراحها… أو حتى أقدم لها نصائحي ورأيي في شؤون كبيرة وصغيرة، شعركي لا أحبه قصيرًا، أذهبي أو لا تذهبي إلى البحر مع صديقاتك، وكل هذا وكل ما يحدث مع الآباء، حدث ويحدث من دوني.

أنني انتمي إليها بشكل هستيري، ولكنها تنتمي إلى رجل آخر يجمعها أربعة أطفال وعقد قران في أحد أحياء فلوردا.. وأنا هنا مسجى في خريف عمري بين الآن والأمس.

أحاول أن انهض فأخفق مرتين متتاليتين، في المرة الثالثة أتمكن من الوقوف على أقدام من خشب، أعود أدراجي إلى الشرفة لأرقب الناس وهم عائدون من أعمالهم. أوبخ نفسي على التفكير في العمل، وأكتفي بمراقبة الحركة الاعتيادية للناس، فذاك يعني بالنسبة لي أن الوطن لازال يتنفس..

قصة أدبية حائزة على المرتبة الثالثة في مسابقة “للأسرى حكاية” عام 2016

أضف تعليقك هنا

سمر صلاح عليوة

سمر صلاح عليوة

‏‏‏صحافية فلسطينية