كلام حول قصيدة ” في الليل” لبدر شاكر السياب

القصيدة:

1. الغُرفَةُ موصَدَةُ البابِ
2. والصَمتُ عميقْ
3. وستائرُ شبّاكي مرخاةٌ..
4. ربَّ طَريقْ
5. يتنصَّتُ لي ، يترصَّدُ بي خلفَ الشبّاكِ ، وأثوابي
6. كمفزِّعِ بستانٍ ، سودُ
7. أعطاها البابُ الموصودُ
8. نَفَساً، ذرَّ بها حسّاً ، فَتَكادُ تفيقْ
9. من ذاك الموتِ ، وتهمسُ بي ، والصمتُ عميقْ :
10.” لم يبقَ صديقْ
11. ليزورَكَ في الليلِ الكابي
12. والغرفةُ موصدَةُ البابِ ” .
13. ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ
14. وسريتُ : ستلقاني أُمّي
15. في تلكَ المقبرةِ الثكلى ،
16. ستقولُ : ” أَتَقْتحمُ الليلا
17. من دونِ رفيقْ ؟
18. جوعانُ ؟ أتأكلُ من زادي :
19. خرّوبِ المقبرةِ الصّادي ؟
20. والماءُ ستنهلُهُ نَهلا
21. من صدرِ الأرضِ.
22. ألا ترمي
23. أثوابَكَ ؟ والبَسْ من كَفَني ،
24. لم يبلَ على مرِّ الزمنِ ؛
25. عزريل الحائكُ ، إذْ يبلى ،
26. يرفوهُ . تعالَ ونمْ عندي :
27. أعددتُ فراشاً في لَحدي
28. لكَ يا أغلى من أشواقي
29. للشمسِ ، لأمواهِ النهرِ
30. كَسْلى تجري ،
31. لهُتافِ الديكِ إذا دوّى في الآفاقِ
32. في يومِ الحشرِ” .
33. سَآخذ دربي في الوهمِ
34. وأسيرُ فتلقاني أُمّي.

لندن في 27/02/1963
ديوان شناشيل ابنة الجلبي، ص ص 19، 21

تمهيد:

تتطلب قراءة قصيدة ” في الليل” للشاعر الكبير بدر شاكر السياب، باعتبارها قصيدة متعددة المعاني والدلالات، الانفتاح على كل المقاربات، إذ ليس من السهل فهم هذه القصيدة من زاوية واحدة، بل يتطلب الأمر تظافر كل الرؤى النقدية للخروج بقراءة شاملة، نظرا لتشابك أسلوبها السردي وبنائها الدرامي ولغتها القائمة على الرمز والإيحاء والانزياح. والملاحظ أن لغة السياب كلما كانت بسيطة قريبة من لغة الخطاب اليومي، كلما كانت أعمق في معانيها وأبعادها ودلالاتها، الأمر الذي يتولد عنه تعدد في الرؤى النقدية، إذ يرى البعض بأنها قصيدة ذات بعد اجتماعي، ويعتقد الآخرون بأنها ذات حمولة نفسية، بينما ترى فئة ثالثة أنها تضمر رؤيا وجودية، وتميل فئة أخرى إلى قراءتها انطلاقا من مكوناتها البنيوية…

قراءات:

1. يفسر البعض قصيدة ” في الليل” التي أبدعها السياب بتاريخ 27/02/1963 تفسيرا اجتماعيا

، إذ يرون أن النص يصور فترة اضطراب العراق بعد حادث الانقلاب الذي وقع بتاريخ 08/02/1963 وما تلا ذلك من نفي وتعذيب وإعدام، كما يصور فترة اضطراب الوضع الصحي للسياب وما ميزه من سقم وعزلة وغربة وهو في أحد مستشفيات لندن طلبا للعلاج. وفي هذا السياق أحس السياب باليأس والغربة والضياع وتراجع المناخ الثقافي بفعل ملاحقة الوجوه الثقافية للعراق المريض، فانبرى يرسم أحاسيسه وانفعالاته تجاه الوطن المنكسر والذات العليلة، متمسكا بذكرى الأم الغائبة يبث إليها آلامه وآماله، فيبدأ بتصوير حالة اليأس والانكسار في علاقتها بالذات والمجتمع:
10.” لم يبقَ صديقْ
11.ليزورَكَ في الليلِ الكابي
ثم ينتقل مصورا حلمه للتخلص من هذه الحالة:
13. ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ
14. وسريتُ : ستلقاني أُمّي

2. ويرى آخرون أن قصيدة “في الليل ” هي توصيف سيكولوجي

لمعاناة السياب مع المرض، حيث يطغى على النص معجم نفسي يصور حالات الحزن واليأس والمعاناة التي يعيشها الشاعر “موصدة، الصمت، يتنصت، يترصد، مفزع بستان، سود، الموصود، الموت، الليل، الكابي، الأم، المقبرة، الثكلى، جوعان، الصادي، كفني، عزريل، الحشر، الوهم “، وهو ما دعاه إلى توظيف الأم كرمز يمثل الملاذ المقدس الذي يبث إليه همومه وأحزانه بعد إحساسه بدنو أجله، فيبدأ بتصوير عزلته ومخاوفه داخل الغرفة الموحشة المغلقة:
1. الغُرفَةُ موصَدَةُ البابِ
2. والصَمتُ عميقْ
لينتقل بعد ذلك إلى محاولة التخفيف من قلقه وتوتره النفسي بالبوح برغبته في الخلاص بلقاء الأم:
13. ولبستُ ثيابيَ في الوهمِ
14. وسريتُ : ستلقاني أُمّي
15. في تلكَ المقبرةِ الثكلى ،

3. ويرى بعض الدارسين أن قصيدة ” في الليل ” تعبر عن رؤيا وجودية

تتمثل في ثنائية الحياة والموت. فإذا كانت الحياة قد شكلت بالنسبة للشاعر ذلك العالم السفلي الذي لم ير منه سوى السقم والحزن والمرض، فإن الموت هو ذلك العالم العلوي الذي يرى فيه الشاعر الخلاص الأبدي. يقول على لسان الأم:
27. أعددتُ فراشاً في لَحدي
28. لكَ يا أغلى من أشواقي
بعد ذلك يتخذ الشاعر قرار الخلاص متوهما الارتماء في أحضان الأم قائلا:
33. سَآخذ دربي في الوهمِ
34. وأسيرُ فتلقاني أُمّي.
وفي هذا السياق، اعتبره الكثير من النقاد الذين درسوا شعره ” بأنه الشاعر الذي عقد العلاقة، في أعلى ما لها من المراتب الشعرية، بين أبدية الرمز وحركية الحياة… فإذا الموت يقترن عنده بالولادة والانبعاث” / ماجد صالح السامرائي، بدر شاكر السياب، شاعر عصر التجديد الشعري، ص: 8

4. ووفق النظرة البنيوية، تنطلق القصيدة بعنوان شبه جملة ” في الليل “

وهو تركيب يحتمل أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، كما يمكن أن يكون مفعولا فيه لفعل محذوف، بحكم بنية القصيدة ولغتها الانزياحية، وهو في كلتا الحالتين ظرف زمن يؤثث لأحداث القصيدة. ومع القراءة الأولى للنص، يكتشف القارئ أنه أمام بنية مكانية مغلقة تتكون من أربعة وثلاثين سطرا شعريا، موزعة بين ثلاثة مشاهد درامية.
تجري أحداث المشهد الأول داخل فضاء مغلق، يتشكل من اثني عشر سطرا شعريا، يبدأ بقول الشاعر:
1. الغُرفَةُ موصَدَةُ البابِ
وينتهي بقوله:
12. والغرفةُ موصدَةُ البابِ “.
وداخل هذا الفضاء المغلق ليلا، يبوح الشاعر بأحاسيس الحزن والتوتر، ويفصح عما يخالجه من شعور باليأس والتوجس واقتراب الأجل.
لينطلق المشهد الثاني من السطر الثالث عشر إلى السطر الثاني والثلاثين، مصورا رغبة الشاعر في الانتقال إلى العالم الآخر، متوهما رحيله إلى أمه التي ستلقاه وترحب به. ويشير إلى بداية الرحلة بقوله:
13. ولبستُ ثيابيَ في الوهم
14. وسريتُ : ستلقاني أُمّي
15. في تلكَ المقبرةِ الثكلى،
ثم يبدأ حوار الترحيب، من السطر السادس عشر إلى السطر الثاني والثلاثين، بين الشاعر التواق إلى الخلاص، والأم المنتظرة باشتياق:
16. ستقولُ : ” أَتَقْتحمُ الليلا
17. من دونِ رفيقْ ؟
27. أعددتُ فراشاً في لَحدي
28. لكَ يا أغلى من أشواقي
32. في يومِ الحشرِ” .
وتنتهي القصيدة بمشهد ثالث يبوح فيه الشاعر بأن رحيله إلى أمه هو مجرد وهم، وفي ذلك إضمار بأن ما وقع لم يكن سوى رحلة سيكولوجية لم يغادر خلالها الغرفة الموصدة ليلا:
33. سَآخذ دربي في الوهمِ
34. وأسيرُ فتلقاني أُمّي.

خاتمة:

كان هذا كلاما حول قصيدة ” في الليل ” للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب الذي ترك بصمات خالدة على صفحات القصيدة العربية الحديثة بنية ولغة وأسلوبا وإيقاعا… والملاحظ من خلال هذه القراءات الأربع أننا أمام بنية شعرية متماسكة، تستلهم النفس الرومانسي في تمتين الوحدة العضوية للنص، وتشتغل دراميا على صوتين متداخلين، صوت الشاعر وصوت الأم اللذين هما في الحقيقة صوت الشاعر بين اليأس والأمل. ولعل هذه العلامات الإبداعية المتميزة هي ما جعلت كل القراءات السالفة تصب في منحى واحد…لذلك يبقى ما قلناه ليس سوى محاولة للاقتراب مما يقوله الشاعر، إذ نفاجأ مع السياب بأن ما تقوله ألفاظ قصائده لا يعدو أن يكون دالا لمدلولات عميقة تتطلب الحفر والتنقيب بآليات جديدة ومتجددة لعلنا نحظى بما قد يرمز إليه ويلمح إلى دلالاته. لذلك فكلامنا هنا ليس سوى نبش في تجربة السياب، لإثارة اهتمام القارئ العربي وحفزه على خوض هذه المغامرة التي قد يكتشف من خلالها شيئا جديدا في تجربة هذا الشاعر المتميز.

المراجع:

– بدر شاكر السياب، ديوان شناشيل ابنة الجلبي، ط1، بيروت يناير 1965
– سالم المعوش، بدر شاكر السياب، دراسة في تجربة السياب الحياتية والفنية والشعرية، ط1، بيروت 2006
– ماجد صالح السامرائي، بدر شاكر السياب شاعر عصر التجديد الشعري، سلسلة سير وأعلام، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت يناير 2012

فيديو مقال كلام حول قصيدة ” في الليل” لبدر شاكر السياب

أضف تعليقك هنا