انتشار اللغة المصرية العامية

ناقش الشيخ محمد رشيد رضا في العدد الأول من مجلة المنار الدعوة المضللة التي انتشرت حينها في مصر لإحياء اللغة العامية المصرية ، بجعلها لغة كتابة  متسائلاً :  ألم يكفِ الأمة المصرية تحقيرًا وامتهانًا أن المصريين ينشؤون الجرائد باللغة العامية ؟! كان في الأمل أن كثرة الجرائد باللغة الصحيحة تكون من أنجح وسائل إحيائها ، فقامت جريدة (الحمارة) و (اللجام) و (الغزالة) و  (الشيطان) ـ جرائد كانت تنشر بالعامية في مصر ـ تعارض الإسلام ، والمقتطف والهلال والمؤيد والأهرام والمنار ، بل سقطت مجلة البيان الفصيحة ، ونهضت الحمارة باللجام (واخجلتاه ) !!

وكانت مصر في هذه الأوقات قد شهدت ظاهرة غريبة تتمثل في انتشار الرسائل الصغيرة التي كانت تطبع في المطابع الإفرنجية ومنها رسالة حملت اسم ” الكراسة ”  أخفى مؤلفها اسمه وعلق الشيخ محمد رشيد على ذلك بقوله : لعله للإخلاص في هذه الخدمة !! و تحجج أصحاب هذه الدعوة المغرضة بأن اللغة العربية معرضة للتلاشي والإمحاء من القطر المصري بإقبال المصريين على تعلم اللغتين الإنكليزية و الفرنساوية و لمزيد من التلبيس على العوام قالوا كلمة حق يراد بها باطل :  من سنة الله تعالى في الكون أن الضعيف يقلد القوي ، والمغلوب يحتذي مثال المتغلب عليه في سائر شؤونه ، وبذلك انتشرت اللغة العربية في بلاد الروم و الفرس والبربر ، وانتشرت اللغة الإنجليزية في أميركا و أستراليا وأجاب عليهم الشيخ في مقالتين طويلتين حملتا عنوان : ” صدمة جديدة على اللغة العربية ”  مفنداً هذه الأباطيل و قد نشرت سنة 1898م .

و في مقال بعنوان  ” المدارس الوطنية في الديار المصرية “

كتب الشيخ محمد رشيد رضا في افتتاحية العدد الخامس عشر الذي صدر في 9 صفر سنة 1316هـ الموافق يوليو 1898م : سعادة الأمم بأعمالها ، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها ، فكل أمة ترغب عن العلم فمآلها إلى الشقاء ، شقاء الاستعباد وفقد الاستقلال ، لا يعصمها منه اتساع مساحة بلادها ، ولا كثرة أفرادها ، ولا عظمة حكامها ، ولا صحة دينها ، ولا شرف أسلافها ، ولا شيء مما يتعلل به المسترسلون مع الأوهام ، المنقادون بأزمة الغرور ، وكل أمة نشطت لاقتباس العلوم والاستضاءة بنور الأعمال النافعة ، فأقامت أساس مدنيتها على هدى ، فبشرها بالسعادة ، سعادة المدنية الفاضلة، والحرية الشاملة ، والسيادة الكاملة ، لا يمنعها من هاته قلة أفرادها ، ولا احتلال الأجانب لبلادها ، ولا استبسال حكامها ، ولا اختلال نظامها ، ولا فساد عقائدها ، ولا قبح عوائدها ، إذ العلم يصلح كل خلل ، ويشفي من جميع العلل ، يشهد بجميع ما قلته العيان ، وينطق بصحته البرهان . سل التاريخ عن أحوال الأمم والشعوب التي سقطت في مهاوي العدم ، وماذا كان من السبب في سقوطها ، وعن الأمم الواقفة على شفا الخطر ، وما علة يأسها وقنوطها ، سله عن الدول التي طاولت السماء في رفعتها ، وفاخرت الجبال في قوتها ومَنَعَتها ، وهزأت بعقاب الجو في عزتها وعصمتها ، أصرح لك في القول :

بالعلم والعمل ترفع الأمم

سله ما الذي أحل بالممالك التيمورية ( الهندية ) الدمار، وأوقف دولة الصين العظيمة على شفا جرف هارٍ ، تنقص من أطرافها ، وتتناوش من جميع أكنافها ، ما الذي انتاش الولايات المتحدة الأميركية ، وأنقذها من مخالب السلطة الإنكليزية ، ما الذي نهض بالأمة اليابانية ، حتى طارت مع الأمم الأوروبية في كل جو، وسبحت معها في كل بحر ، وضربت من الفنون بكل سهم ؟ أَصِخْ بسمعك للتاريخ ، واستمع لما يتلوه عليك تجد أن جوابه عن هذا كله محصور في كلمتين وهما : (علم وعمل ، وجهل وكسل) ، فبالعلم والعمل يقرن كل تقدم ورقي ، وعن الجهل والكسل ينشأ كل تأخر وهوي ، فلكل غاية مبدأ ، ولكل رغيبة طريق يوصل إليها ، وكل من سار إلى الدرب وصل { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ( الأحزاب : 62 ) . كل هذا من البديهيات الثابتة بالمشاهدة والاختبار ، فلا ينازع فيها إلا الصم البكم العمي الذين لا يعقلون ، فلنصرف النظر عنه إلى تعميم التعليم المفيد ، والتربية على العمل النافع ، ولنجعل موضوع كلامنا في ذلك البلاد المصرية ، وليس تخصيص القول بهذه البلاد مخرجًا له عن خدمة عامة الشرقيين ؛ فإن أحوال الأمم والشعوب يشبه بعضها بعضًا في الأمور الكلية ، وتشابه البلاد الشرقية في أكثر شؤونها الجزئية ، لا سيما موقفها الحرج أمام أوروبا ، فليعتبر بما نذكره في شأن مصر كل شرقي عاقل .

تُذاكِر المصري من أي طبقة في سعادة بلاده ؟

فيجيبك : أن ذلك لا يكون إلا بجلاء الإنكليز عنها والصواب أن السعادة أمر وجودي ، لا يحصل بمجرد الجلاء ثم يتحدث الشيخ محمد رشيد عن تعميم التربية والتعليم باعتبارهما مناط السعادة ، لكن الأكثرية غافلة عن قوة الأمة والشعب على مثل هذا العمل العظيم و يصف مدارس الحكومة المصرية على أنها لا أثر فيها للصبغة الدينية ، بل قيل : إن الوليد يدخلها بدين ويخرج منها مارقًا والعياذ بالله ، إلا إذا كان له أهل وعشيرة أتقياء بُصَراء يتعاهدون سيره ويحكمون ربط عقيدته ، ولا أثر فيها للصبغة الوطنية ، ولا الجنسية . أيضًا ، فقد استبدلت اللغة الأجنبية باللغة العربية في التعليم ، وأقيم التاريخ الإنكليزي مقام التاريخ العثماني والمصري ، واستغني عن الآداب العربية بالآداب الإفرنجية ،

مقالات متعلقة بالموضوع

ويعتاض عن المعلمين الوطنيين بالأجانب شيئًا فشيئًا . وكل ذلك مما يغرس في قلوب المتعلمين عظمة الأمم التي يتعلمون تاريخها وآدابها ، واحتقار أمتهم وجنسهم ودولتهم ، ماضيها وحاضرها . فأي خير يرجى من تعلمهم بهذه الصفة ،

واصطباغهم بهاته الصبغة ؟! أما إنه ليتوقع شرها ، ولا يرجى خيرها . وكيف ترجى الحياة الوطنية من العامل على إماتتها ، ويؤمل ثبوت الجنسية الأصلية من الساعي بإزالتها ، فإنْ هذا إلا غرور .

وخلاصة القول …

أن التعليم النافع للوطن والبلاد هو ما تحيا به الشعائر الدينية بتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال ، وتقوى به الرابطة الجنسية والوطنية بإحياء اللغة العربية ، ونقل جميع الفنون إليها بالتدريج ، وجعل التعليم بها دون سواها ، وبتمكين رابطة الأمة المصرية بالجامعة العثمانية ـ يقصد الخلافة ـ ، ومادام زمام التعليم بأيدي الأجانب يجذبونه كيف أرادوا ، فلا يمكن أن نحصل إلا على خلاف هذه الرغائب ، وهو استبدال حرية الفساد والفحش بآداب الدين ، واللغة الإنكليزية أو الفرنسوية باللغة العربية ، وتمزيق الوطنية والجنسية شذر مذر وبعد ذلك ، إما أن يتجنس المتعلمون بجنسية معلميهم ومربيهم ، وإما أن يكونوا عونًا لهم على مصالحهم ، وفي كل ذلك إماتة للجنس ، وتضييع للوطن الذي يراد إحياؤه وإعزازه بالتربية والتعليم .

أضف تعليقك هنا
هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان

شارك

Recent Posts

الكوارث تبرز أفضل وأسوأ ما في الناس

بقلم أميمة البقالي. ردود أفعالنا اتجاه الطوارئ والكوارث وسائل الإعلام تبقي الكوارث في طليعة أذهاننا.… اقرأ المزيد

% واحد منذ

فن الشاطئ.. رؤية فنية بحس جمالي فني سياحي لمدينة أصيلة الشويخ عبدالسلام

بقلم: الشويخ عبدالسلام. فنان تشكيلي - استاذ الفنون التشكيلية بفرنسا مدير قاعة العرض البيداغوجية التابعة… اقرأ المزيد

% واحد منذ

نقاء الروح

بقلم: محسن العويسي كلمات من كتابي (نقاء الروح) إلى جياع المدينة.. استعلاء المتحضر على الريفيّ في… اقرأ المزيد

% واحد منذ

بين غزة والذكاء الاصطناعي.. الوقت موت

منافع ومصالح قائمة على دماء الأبرياء  في غزة، يصارع أكثر من مليوني إنسان شبح الموت… اقرأ المزيد

% واحد منذ

جبريل عليه السلام

بقلم: رسل المعموري جبريل عليه السلام هو أقرب ملائكة الله إليه، وصديق النبي صل  الله… اقرأ المزيد

% واحد منذ

من فضلك كن نفسك فقط

أيها القارئ الكريم ظللنا لعقود طويلة ومنا من لا يزال يؤمن أو متأثر بثقافة المنظرة… اقرأ المزيد

% واحد منذ