فكرة الهيكل الثالث، ملاحظات على الهامش.

قاعدة أولية عن الجغرافيا السياسية

قال البريطاني “هالفورد ماكيندر” أحد مؤسسي علم “الجغرافيا السياسية” “الجيوبوليتيك” أن: “من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم، وهذا القلب يتألف من روسيا والصين وإيران وأفغانستان، ومن يحكم القلب يسيطر على الجزيرة العالمية التي تتألف من أوراسيا وإفريقيا، ومن يحكم الجزيرة العالمية يسيطر على العالم.”
وردا عليه قال الأمريكي “نيكولاس سبايكمان” أبو “نظرية الاحتواء” أن: “من يحكم بلدان الحافة يحكم قارة أوراسيا، ومن يحكم أوراسيا يتحكم في مصير العالم”.
و”بلدان الحافة” تلك هي : إسكنديناڤيا “فنلندا والنرويج والسويد والدانمارك”، وأوروبا الغربية، وإيطاليا، واليونان، وتركيا، والدول العربية، والهند، وبورما، وتايلاند، والملايو، والهندالصينية “سواحل جنوب شرق وشرق آسيا”، وشبه الجزيرة الكورية.

الإستيطان، ثقافة غربية أصيلة أم مستحدثة؟

ما علاقة الجغرافيا بالحضارة وتاريخها؟ سؤال وجيه يفتح آفاق من الممكن أن يرى المرء العالم من خلالها.
ومما لا شك فيه أن التعرف ورؤية طبيعة العدو أكثر أولوية من معرفة طبيعة الصراع. وللأولوية فإن طبيعة الآخر علي وجه العموم والعدو على وجه الخصوص يمكن التعرف عليه من خلال دراسة تاريخ عوامل معينة أولها: الجعرافية التي تقع بلده داخلها، وتأثيرها على صناعة فكره ومن ثم صناعته لتاريخه؛ لأن الإنسان ما إن يرتبط ببيئته الطبيعية بعد الاستقرار، فإنه ومع مرور الوقت يبدأ في التأرجح مابين التأثير عليها “محاولة التغيير والتغلب” والتأثر بها” التكيف والمحاكاة”.

أمثلة عن علاقة البيئة الجغرافية بحضارة البلد

المثال الأول (مصر)

وكمثال إلى بلد مثل مصر التي تقول فيها أحد وجهات النظر الجغرافية القائلة أنه “ليس هناك مثل آخر لبلد هو كلية وإلي هذا الحد من خلق ظرف جغرافي واحد”، وهو ما يؤكده “جمال حمدان” بقوله أن “البيئة الجغرافية لمصر بيئة ذات نغمة أحادية، والنيل وحده ضابط إيقاعها.”
وهو رأي له وجاهته من زاوية أن النيل هو من خلق المجتمع بحمله الماء والتربة الصالحة للإستزراع،  فلم يكن على الإنسان سوي ابتكار وسائل لتنظيم الري وتذليل العقبات التي تقف في سبيل هذا التنظيم، وسهلت جغرافيته أيضاً التواصل بين سكان الوادي؛ ولهذا فإن مقولة الجغرافي الفرنسي”جوتييه” أن ” مصر واحة” تشبيه فائق الدقة، واسع الإنتشار.

المثال الثاني (اليونان)

وبالحديث عن مثال آخر وهو اليونان -باعتبارها منشأ الحضارة الغربية الوريثة الشرعية للحضارة الهيلينية- نجد أن الطبيعة الوعرة لتلك الصخرة النائتة عن جسد القارة العجوز لا تصلح لاستقرار جماعة كبيرة، حيث لا تسعف الطرق والوديان الضيقة والخطرة بين الجبال في سهولة وسرعة التواصل، وبالتالي حالت طبيعة الوديان المنعزلة بين قيام وحدة سياسية واحدة، فالأمر كان أشبه بمستوطنات تنشأها القبائل المرتحلة من الشمال والشرق – تماماً كمستعمرات الأوروبيين في العالم الجديد – ثم أتجهت تلك التجمعات إلى قدر من التنظيم الإداري على شاكلة المدن/الدويلات التي نشأت في الشرق الأدني في الشام والعراق بحكم العامل الجغرافي سالف الذكر.

علاوة على أن قلة المياه وطبيعة التربة الجيولوجية لا تسمح سوى لزراعات قليلة أشهرها الحبوب والغلة، والكروم، والزيتون. وإلى جانب ذلك فإن مساحة الأراضي الصغيرة التي تصلح للزراعة أو يمكن إستصلاحها قد ولد عجز كبير في كثير من الأحيان في مخزون الغلة والحبوب مع التزايد السكاني.

تأثير طبيعة البلد الجغرافية

ولقد دفعت تلك الأسباب وغيرها تلك المستوطنات إلى الاقتتال باستمرار على الموارد، وإتجاههم إلى ركوب البحر للقرصنة والارتزاق في المعارك للخروج من اليونان مع تزايد السكان وتناقص الموارد. ومع الوقت أسسوا مستعمرات على شاطئ الأناضول الغربي “في تركيا حالياً” وفي جزر المتوسط، وتحولت القرصنة إلى تجارة، وتحول الإرتزاق في المعارك إلى جيوش نظامية قوية تصدت للغزو جيش فارسي ضم ألف جيش من مختلف أمم آسيا، وبلغ التنظيم السياسي مستوى راقي بعد الاحتكاك بحضارات الشرق، لكن الأساس كان القرصنة والارتزاق من الحروب.

من يقود من؟!

إن السؤال الأكثر وجاهة والمتعلق بجوهر الصراع هو: ماذا قصد “هاري ترومان” الرئيس الأمريكي الثالث والثلاثون بالضبط حين قال: “لاشيء جديد في هذا العالم إلا ما تجهله عن التاريخ”؟

إن أكثر ما يمكنه إثارة الإنتباه في خصوص ظروف ميلاد ونشأة المستعمرة الغربية في فلسطين والمدعوة “إسرائيل”، هو أن الأمر تكرر بشكل يحمل نفس الخطوط العريضة لما حدث منذ ما يقارب الألفية، لكن باستثناء إختلاف الميزان الحضاري بين الغرب والشرق.

جوهر الصراع حول فلسطين منذ العصور الوسطى إلى العصر الحديث

ففي العصور الوسطى لم تكن الحملات الأوروبية سوى إنعكاساً لنجاح الكنيسة في معاركها السياسية، وتحديد موازين القوى في البيت الأوروبي، وفرض وصاية البابا الشرعية على الأمم اللاتينية أو كما إدعوا “المسيحية”، كما كانت مملكة “بيت المقدس” وإماراتها الأربعة مجرد مستعمرات تؤمن طرق التجارة من الهند والصين وصولاً لموانئ إيطاليا، بجانب إمتلاك واستغلال مساحات شاسعة في الهلال الخصيب ” العراق وسوريا ولبنان وفلسطين” بموارده الضخمة التي ” تفيض لبناً وعسلاً”.

وفي العصر الحديث ومنذ نشأة وانتشار فكرة “القومية” كان الاستعمار الأوروبي ينحسر، وهو ما جعل بريطانيا -القطب الأكبر آنذاك- بحاجة لمستعمرة غير بريطانية، بل غير أوروبية، تأخذ التكييف القانوني للدولة، طبقاً للقانون الدولي الذي كانت تلوح فكرته في الأفق بين الحلفاء، فتتدخل فيما بعد بصفة دائمة للدفاع عن مصالحها وأمنها. وقد تلاقت الفكرة مع الرغبة في التخلص من اليهود الغير أثرياء، والذين كانوا عموماً يثيرون حفيظة أهل أي بلد عاشوا فيها، فكان وعد بلفور هو ترجمة تلك الرغبة.

موقف الولايات المتحدة من الصراع حول فلسطين

وبالنسبة للولايات المتحدة –القوة الشابة- فإن المجهود البريطاني لم يشكل لها أي تهديد في منطقة الشرق الاوسط الغنية بالنفط بل على العكس، فإنه خدم تنفيذ مبدأ أيزنهاور القائم على “سد الفراغ” الأوروبي، وهذا بعد أن بدأ نفوذ واشنطن يتمدد أكثر بعد الحرب العظمي الثانية لضمان آبار بترول الخليج، فتعاونت مع أمراء الخليج إقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً، وأدركت أنه بعد غروب شمس الإمبراطورية البريطانية ستتجه حكومة المستعمرة الإسرائيلية – بريطانية الأصل- بالتالي عبر الأطلنطي إلى واشنطن عوضاً عن لندن.

وهو ما حدث بالفعل لأن حرب السويس وبالرغم من كونها حرب غير متكافئة وكان الإنتصار فيها مرهوناً برد الفعل الدولي، إلا أنها كشفت عورة الضعف الأوروبي، وأبرزت إنتقال مراكز صنع واتخاذ القرار الدولي خارج أوروبا، وكانت الحد الفاصل في تاريخ أوروبا الحديث وتحولها من طور الكهولة إلى طور الشيخوخة بعد أن استنزفتها الحروب، وانتظرت الولايات المتحدة أكثر من قرنين من الزمان اللحظة المناسبة لتقف على أنقاض النفوذ الأوروبي، فتصبح الوريث الشرعي له في النهاية.

وختاما.
وللعلم فإن أول من اعترف بدولة إسرائيل عقب إعلان قيامها بخمس دقائق تقريباً كان “هاري ترومان” المشار إليه في الأعلى لذلك فإن التساؤل الثالث المهم في ضوء ما سبق سرده سيكون: مامدي “صحة” معرفتنا بذواتنا وبالآخر..؟

فيديو مقال فكرة الهيكل الثالث.. ملاحظات علي الهامش..

أضف تعليقك هنا