قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (7) النساء

النساء

إن المجتمع الدمشقي في الأيام التي دون بها البديري تاريخه كان في غالبه مجتمعاً عربياً أصيلاً وإسلامياً سمحاً، والبديري لا يتكلم عن الأمور المتعلقة بالمجتمع بما في ذلك النساء بشكل مستقل، بل يتعرض لهنَّ أثناء حديثه عن الأخبار اليومية.

أولاً – المرأة الدمشقية

لا يصف البديري المرأة الدمشقية كثيراً في كتابه، إلا أن غيرته وانزعاجه من الفساد المتمثل ببنات الهوى أو نساء الخطا كما يسميهن يدل على أن المجتمع الدمشقي كان يرفض هذه الظاهرة، فالبديري رجل من العامة وهو يتكلم بلسانهم، وحديثه دوماً في الصلاح وهذا حال غالب الدمشقيين في ذلك الوقت.
ومن سياق حديث البديري فإن المرأة الدمشقية كانت سيدة منزل من الطراز الرفيع، فهي ترعى أولادها ولا تعمل خارج المنزل، إلا أن هناك بعض النساء قد اضطرتهن الحاجة للعمل خارج المنزل كبعض الأرامل، وغالباً ما يكون عملهن كخادمات في المنازل.
وأكثر ما يثير البديري في حديثه عن النساء، بل ويزعجه ويغضبه كثيراً، تعديات العسكر على الأعراض أثناء الفتن التي حدثت في دمشق وخاصة بين القبيقول والانكشارية، بالإضافة لكثرة انتشار بنات الهوى أو الخطا.

ثانياً – المرأة السماوية

وقصة المرأة السماوية تدل على جهل العامة وتسرعهم في الحكم على الأشخاص والأشياء وهذه من سمات المجتمع المتخلف، حيث يقول البديري: وشاع خبر بدمشق بأن امرأة في الشام يقال لها السماوية تمسك الأولاد والرجال بالاحتيال لتخرج السم منهم، فخافت الناس وكثر الفزع،  ثم وقعت ضجة كبيرة بين الناس فقيل: ما الخبر، فقالوا: قبضوا على السماوية، وإذا هي امرأة عجوز والأولاد والرجال خلفها كالجراد وهم يضربونها ضرباً موجعاً، فأخذوها للقاضي فقالت: يا سيدي أنا امرأة فقيرة الحال ولي أولاد وهذا القول عني زور وبهتان، فأمر القاضي بتفتيشها فوجدوا معها لعب للأطفال وطواقي كبار وصغار، ثم ذهبوا وفتشوا بيتها فلم يجدوا فيه سوى متاع عتيق وقطعة من الحصير، ثم شهد جيرانها بأنها امرأة فقيرة ولم يعلموا عنها سوء، فأطلقوها.

ونستنتج من حادثة المرأة السماوية أن المجتمع الدمشقي كان يؤمن بالخرافات والشعوذة والسحر، وهذ الأمر شجعته الدولة العثمانية كثيراً، والعامة صدقوا الاتهامات الموجهة للمرأة السماوية لأنهم كانوا يرون في المجتمع الكثير من النساء المشعوذات اللواتي كنَّ يستخدمن السحر الأسود، وهذا الأمر انتشر بكثرة في الدولة العثمانية بعد سيطرتها على شرق اوروبا وبشكل خاص البلقان والمجر التي كانت منبعاً للسحر والشعوذة.

ثالثاً – بنات الهوى أو الخطا

ويذكر لنا البديري كثرة بنات الهوى أو بنات الخطا كما يسميهن، وهنَّ يجلّنَّ في الأسواق ويتبهرجن بالليل والنهار، وانتشار ظاهرة بنات الهوى أو الخطا لم يكن مقتصراً على دمشق وحدها بل شمل غالب أصقاع الدولة العثمانية، والسبب في ذلك روجان تجارة الرقيق الأبيض في ذلك العصر، فالفتوحات العثمانية للبلدان الأوروبية نتج عنها الكثير من السبايا اللواتي استعملن في الملاهي والمباغي، وقد كان للحكام دور في ذلك بسبب فرض ضريبة على عملهن، وكان المسؤول عن حمايتهن وجباية ضرائبهن يسمى بالشوباصي ويساعده بعض العساكر في عمله.

بنات الهوى سبب البلاء في الشام

والبديري يذكر لنا في مدونته الكثير من الحوادث المتعلقة ببنات الهوى أو كما يسميهن بنات الخطا، ويرى أن كثرة انتشارهن هو سبب البلاء الذي حل بالشام من طوفان وجراد وغير ذلك، حيث يقول: إن الناس قامت بالبكاء والعويل والدعاء لرفع البلاء الذي حل بالشام بسبب الجراد الذي أكل الأخضر واليابس، وأن الدعاء كان في الجوامع (يا من له المراد في كل ما أراد، بالمصطفى الحبيب فرج عن البلاد)، ومع ذلك لم يفد هذا الدعاء، ثم يقول: وكيف يفيد وأكثر النساء قد باحت، وبنات الهوى دائرات ليلاً ونهاراً بالأزقة والأسواق، ومعهنَّ الدالاتية والفسّاق، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن المنكر، والصالح في هم وكرب، والفاجر والطالح متقلب في لذيذ النعيم.

البنت سلمون

ويذكر أيضاً أن القاضي خرج إلى الصالحية فصادف في الطريق إحدى بنات الخطا وهي سكرى مكشوفة الوجه وبيدها سكين، فصاح بها جماعة القاضي أن ابتعدي عن الطريق، فضحكت وصاحت وهجمت على القاضي بالسكين فأبعدوها عن القاضي، ثم اجتمع القاضي والمتسلم عند الوالي وذكروا ما وقع من هذه العاهرة، فقالوا هي من بنات الهوى واسمها سلمون وقد افتتن الناس بها وصاروا ينسبون كل حاجة أو متاع لها، فيقولون: متاع سلموني وثوب سلموني، فأخرج المفتي فتوى بقتلها تسكيناً للفتنة فقتلوها.

إحداهن تفي بنذرها

ويذكر إن أحداهن عشقت غلاماً تركياً، فمرض فنذرت إن عوفي من مرضه لتقرأن له مولداً عند الشيخ رسلان، فلما تعافى جمعت (شلكات البلد ومفردها شلكة أي المومسات) ومشين في أسواق الشام وهن حاملات الشموع والقناديل والمباخر ويغنين ويصفقن بالكفوف ويضربن بالدفوف، والناس تتفرج عليهن وقوف وهن مكشوفات الوجوه وسادلات الشعور، ولا أحد ينكر ذلك إلا الصالحين يرفعون أصواتهم ويقولون: الله أكبر.

أسعد باشا يخشى من دعاء بنات الخطا

ومن الطرائف التي يذكرها البديري عن بنات الهوى أن الأعيان اجتمعوا وأخبروا أسعد باشا العظم بكثرة المنكرات واجتماع بنات الهوى في الأزقة والأسواق، وأنهنَّ ينمنَّ على أبواب الدكاكين وفي الأفران والقهاوي، واقترحوا إما ترحيلهن من الشام أو وضعهن في مكان لا يتجاوزنه، فكان الرد العجيب من والي دمشق بقوله: إني لا أفعل شيئاً من ذلك، ولا أدعهنَّ يدعينَّ عليَّ في الليل والنهار، فانفض المجلس ولم يحصل شيء، فهل الوالي كان يرى أن دعاؤهن مستجاب؟.

إخراج بنات الهوى من دمشق

والواقع ان الوالي أسعد باشا العظم لم يرغب بإخراجهن بل أراد الاستفادة منهن بفرض الضرائب على أعمالهن في بيع الهوى، وهذا ما نجده في مدونة البديري حيث يذكر أن أسعد باشا خرج أميراً للحج وترك موسى كيخية حاكماً بدلاً عنه في دمشق والذي أمر بإخراج بنات الهوى وهن الشلكات من دمشق، ونبّه على مشايخ الحارات بإخراجهن، ثم نادى مناديه أن النساء لا يسبلن على وجوهن مناديل إلا حرم الباشا ونساء موسى كيخية، وبقي التشديد عدة أيام ثم عادت الأمور كما كانت من مشيهن في الأسواق وغير ذلك، فرجعن للبلد، فرتب الحاكم على كل واحدة منهن عشرة غروش شهرياً وجعل عليهن شوباصياً، والشوباصي هو أحد العسكر الذي يقوم على جمع الغلة من بنات الهوى ودور البغاء.

رابعاً وأخيراً – نزهة في المرجة

ويذكر البديري أنه خرج للنزهة إلى مكان مطل على المرجة مع بعض أصحابه وكان الوقت بداية الربيع، وقد جلس في مكان يطل على التكية السليمية والمرجة، وإذا بالنساء أكثر من الرجال جالسين على شفير النهر، وهم على أكل وشرب وقهوة وتتن (أي يدخنون التبغ سواء بالغليون أو النرجيلة)، وهذا ما أثار استغراب مؤرخنا بقوله: (وهذا شيء ما سمعنا بأنه وقع نظيره حتى شاهدناه)، وانا أقول لك يا بديري تعال وانظر إلى الحال هذه الأيام.

فيديو مقال قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (7) النساء

 

أضف تعليقك هنا