أزمة الحداثة

منشأ الحداثة

لئن كانت “الحداثة” نموذجاً غير قابل للاستنساخ، فإن هذه النقطة الأساسية التي من خلالها أصبحنا نتحدث على ما يعرف بأزمة الحداثة (La crise de la modernité) هذه الأزمة التي تتعلق بالمركزية الأوروبية أو الغربية للحداثة، لذلك لابد أن نُسلم في بادئ الأمر ونؤكد بأن الحداثة أوروبية المنشأ؛ أي ولدت في رحم جغرافيا سياسية واقتصادية، اجتماعية وثقافية اسمها أوروبا، لكن منشأها الأوروبي هذا ليس دافع للقول بأن الحداثة هي أوروبية فقط، فهذه المنظومة بطبيعتها نزاعةٌ إلى الانتشار، ولذلك نجدها تزحفُ من خارج مجالهاَ الأوروبي الضيّق، زحفت إما بالغزو الأجنبي ( الاستعمار الأوروبي لبلدان آسيا وأفريقيا) وإما بالمثاقفة والتثاقف وكان لها أُفق كوني، فالشعوب التي اصطدمت بها إما إصطدام المغلوب الذي يواجه الغالب، أو الاصطدام الأجنبي بمعنى التوسع.

امتداد ظاهرة الحداثة 

استقبلت عدة شعوب ظاهرة الحداثة لتخرج بذلك من مهدها الأوروبي، وتنتشر في زواياَ عدة من العالم ليستوعبها كثيرون من الشعوب والأمم و الثقافات، وهنا تولد مشكلة النظرة الأوروبية للحداثة، وقد بدأت هذه النظرة بعد الحرب العالمية الثانية، أي منذ ظهور “اليابان” وخروجها من نكستها الكبيرة، وحريقها الهائل سنة 1945 -تاريخ إسقاط القنبلة الذرية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على “ناكازاكي و هيروشيما”- وانتهضت انتهاضتها التاريخية العظيمة التي حولتها في ربع قرن إلى ثاني قوة اقتصادية في العالم، وهنا تخرج الحداثة عن مركزها الأوروبي الغربي وتصل إلى آسيا، ولا بد الإشارة هنا بأن أوروبا لم ترضَ وتعترف لآسيا بأنها صنعت حداثتها، فكان أهون على أوروبا أن تُعيد تعريف جغرافيتها (أوروبا تُعيد تعريف أوروبا) و تجعل من اليابان تابعة للغرب وليس للشرق، فأصبحت اليابان هنا جزءاً من الغرب.

إن الاعتراف بيابان الغرب كان أهون بالنسبة لأوروبا من الإعتراف بأن الحداثة ولدت من جديد في صقعٍ أخر من أصقاع العالم في آسيا وأمريكا، وسوف يزيد الحرج الأوروبي حينما يزداد عدد المراكز أو البلدان المعنية بالحداثة مثل “الصين، الهند، كوريا الجنوبية، البرازيل” وغيرهم من البلدان الأخرى.

هل حداثات العالم الجديدة هي استنساخ لحداثة أوروبا؟

إن اختزال الحداثة في الغرب ينبغي نقده نقداً لاذعاً لأن الحداثة كونية universelle، وهنا ينبغي فك الارتباط بين الحداثة وبين موطنها الجغرافي، مثل الحضارة التي من خلالها تنشأ حضارات، ويجب التأكيد هنا بأن كل الحداثات التي تشكلت بعد الحداثة الأوروبية لم تستنسخ النموذج الغربي للحداثة على الرغم من تفاعلها معه.

لقد استوعبت حداثات العالم حداثة أوروبا، وأخذت منها ولكنها لم تستنسخها استنساخاً كاملاً، وهذه الأمم الكبيرة أبدعت حداثتها بإمكانياتها الذاتية ولم تستعر لسّان غيرها، فلاّ الهنود استعاروا لغات غيرهم ولا الصينيين كذلك، بل بنوها بمدرسة وطنية وباللغة الوطنية وكذلك بالكفاءات الوطنية، فتعدد نماذج الحداثة هنا يعود بنا للتأكيد على التعدد الموجود في قلب الحداثة الأوروبية نفسها، أي ليس هناك حداثة أوروبية واحدة يمكننا أن نتحدث عنها بمعزل وبعمومية، لنأخذ مثلاً جواهر هذه المنظومة مثل: الديمقراطية، العلمانية والحداثة الفكرية، ففي الديمقراطية ليس هناك ديمقراطية واحدة أي ليس هناك وصفة لنظام ديمقراطي واحد في الغرب، هناك نظام ديمقراطي توافقي، تشاركي، رئاسي، وهناك نظام ديمقراطي برلماني.

العلمانية أيضاً ليست واحدة بل هناك علمانيّات مثل: العلمانية المُتطرفة التي تقصي الدين من المجال العام والمجال الاجتماعي، العلمانية البولشفية الروسية، العلمانية الكماليّة في تركيا، كذلك إن الحداثة على المستوى الفكري مدرستان في الغرب: “العقلاّنية” rationnelle و”التجريبية ” expérimentale وهما معاً جزء من منظومة الحداثة، علماً أن الأُسس الإبستيميّة للعقلانية تختلف جذرياً عن الأُسس الإبستيمية للتجريبية، ومع ذلك فهم يُشكلان جناحين لكائن واحد أسمه الحداثة، أيضاً العقلانية نفسها عقلانيات، عقلانية القرن السابع عشر في فرنسا وهولندا غير عقلانية القرن الثامن عشر في ألمانيا، وبعبارة أخرى عقلانية “ديكارت” و “لايبنتز” و “سبينوزا” مُغايرة لعقلانية “كانط” أو “هيغل” ونحن هنا نعيش وسط نماذج مختلفة من العقلانيات.

التجريبية أيضاً تختلف؛ فهي قبل “إسحاق نيوتن” تختلف عن بعده أي ما بعد القرن الثامن عشر، ويحصل في بعض الأحيان أن تلتقي العقلانية بالتجريبية في ما يسمى بالوضعية المطقية، وهنا نؤكد بأن الحداثة هي حداثات وهي ظاهرة أوسع من معناها الذي نستعمله في الفلسفة و نحصره في النطاق الضيق للفكر، لهذا أصبحنا الآن نتحدث عن علم السياسة، علم الإقتصاد مرتبطين بدورهم بالحداثة التي شهدت أزمات عاصفة في المجال التداولي للفكر الأوروبي منذ منتصف القرن التاسع عشر لتتفاقم أكثر في القرن العشرين خاصة بعد الحربين العالميتين الأولى و الثانية، و نشأة مدارس أُطلق عليها إسم “ما بعد الحداثة” post-moderne التي نقدت هذه الظاهرة و أعادة النظر في يقينها، ومن بين المفكرين الذين كتبوا عن مرحلة ما بعد الحداثة نجد الفيلسوف الفرنسي “جان فرنسوا ليوتار” Jean _ François Lyotard و كذلك “جيل دولوز” و “جاك دريدا”.

الجدل في مسألة ما بعد الحداثة

إن العديد من المطلعين على كتابات ما بعد الحداثة من العرب يجهلون تاريخ الحداثة في الغرب، وهذا عطب يفرض النظر في كتاباتهم بنوع من الحذر المنهجي والنظري، فالجدل الغربي في مسألة “ما بعد الحداثة” دار بين مدرستين، مدرسة تقول بأن ما بعد الحداثة هو تخطي وتجاوز كامل لتراث الحداثة وقطيعة مع هذا التراث، ومدرسة تؤكد بأن فترة ما بعد الحداثة هو جزء من تاريخ الحداثة، انطلاقاً من فرضية تقول بأن الحداثة لم تستنفذ إمكانياتها بعد، أي ليست مكتملة بعد، فما بعد الحداثة جزءٌ من الحداثة حتى في أسوء الأحوال كما يقول الفيلسوف الألماني “هابرماس” في كتابه ” Le Discours Philosophique de la Modernité”.

ما بعد الحداثة هي لحظة تفكر فيها الحداثة في نفسها؛ أي تضع نفسها موضع فحصٍ نقدي، وتعيد النظر في يقينيتها وفي إشكالياتها في ضوء الشعور المتزايد بأن هذه الحداثة ارتكبت أخطاء كبيرة في تاريخها، فالديمقراطية مثلاً انحنت عن مسارها وأصبحت ديكتاتورية، وتحدث “جون ستيورت ميل” في كتابه “عن الحرية” De La Liberté مؤكداً بأن الديمقراطية هي تشريع لنظام الديكتاتورية الأغلبية، أي أن كل تلك القيم الكبيرة كالعلمانية و العقلانية بدأت تكشف عن الكثير من مظاهر تهافتها، لهذا لابد من إعادة فحص كل يقينياتنا حول الحداثة، و هذا هو الدور الذي لعبه الفكر في مرحلة ما بعد الحداثة.

قائمة المراجع:

Jürgen Habermas: “Traduit de l’allemand par Christian Bouchindhomme et Rainer Rochlitz , Éditions Gallimard 1988.
John Stuart Mill: “De La Liberté”  Éditions Pocket , paris 1995.
Jeans_François Lyotard: “LA CONDITION POSTMODERNE” Collection Critique , Éditions De Minuit 1979.

فيديو مقال أزمة الحداثة

أضف تعليقك هنا